عالم الأدب والنقد الأدبي- د. محمدصالح رشيد الحافظ

الموقع خاص بعالم الإبداع الأدبي والإنساني - نصوص ودراسات

<!--<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"جدول عادي"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman"; mso-ansi-language:#0400; mso-fareast-language:#0400; mso-bidi-language:#0400;} </style> <![endif]--><!--<!--

- المدخل :

يشكل الملفوظ النقدي المواجه ، للرمز بوصفهِ مفهوماً ، سياقاً معرفياً يحاول أن يكشف ويؤطّر كينونة تسمي الوجود الممكن ، لكنها لا تسعى إلى إبلاغ تواصلي، لذلك كانت

(الحدود ) تجهد في تأكيد الرمز على أنّه ملفوظ لا يتمظهر إلا في عالمي الاستبطان

والحدس، ولما كان الأمر كذلك فإن (الرمزي) يشتغل ضد تظاهرات عيانية ، وهي في هذه الحالة لا تمثل الوجود في ذاتهِ بقدر ما تمثل مظهرها المخادع .

ليس من مهمة (العالم) بوصفه وجوداً أن يتبدى للوعي الإنساني ، فهذا ليس من نشاطاته ، لأنه موجود أولي يشير ، لكنّه لا يفصح، لذلك يتطلب من (الأخر) الإنساني أن يسمي الأشياء ، يمنحها رموزاً تجعل منها مخلوقات حركية قادرة على التجدد والمراوغة ، أي قادرة على أن تصبح نشاطاًُ مستمراً، من خلال الصياغة اللغوية التي تشكل المجهول وتعطيه حق الاتصال والمواقعية في رؤى الحواس أو حدس الروح ، والأمر هنا يصدق على مطلق الذات الفاعلة التي تريد أن توثق لنفسها تاريخاً للوعي يشخصُ معالم الوجود ، إذ لا تاريخ بلا تسمية ، فكيف إذا تعلق الأمر بحساسية شعرية تودّ أن تجعل بينها وبين عالمها الباطني تراسلاً يوجد التناسق بين الخيالي والعقلاني ، بل يعطي للخيالي حقيقة الكشف عن المسكوت عنه في عالم فردي يسعى إلى تسمية أشيائه بمعزل عن عرفيات الحسّ الجمعي التي تجعل العالم كثيفاً سلطوياً ، لا يسمحُ بتكوين أفكار مضادة أو مميزة تمنح الشاعر هوية الفرادة والأصالة .

- من البدائي إلى المعرفي :

حاول الإنسان ، قبل أن يشكل نظامه المعرفي المضاد للحلم ، أن يخرج من آلية الفعل إلى مشروع التعرف ، أي تأسيس نويات لمعرفة تختزل الخوف ، وتحقق في الوقت نفسه حصانة تقف ضد المجهول ، حصانة تقوم على نظام طقوسي يتجاوز الفهم المحدود إلى (أسطرة) تتصدى لهذيان اللاوعي ، وتواجه في الوقت نفسه لعنة اللا مسمى "بدأ إنسان ما قبل التاريخ في إضفاء أهمية بالغة على كلّ أشكال التماثل والتشابه ، ويعد استكشافه للظواهر والأشياء المتماثلة أو المتشابهة أول خطوة خطاها في سبيل إدراك الطبيعة والعالم من حوله ، إذ تمكن بهذا من تصنيف الأشياء المتشابهة وإدراك ما بينها من علاقات ، فجعل كل مجموعة متجانسة رمزاً ، يستوي في هذا الكائنات الجامدة والكائنات الحية ، وعلى هذا النحو تتحول الأشياء إلى رموز وأسماء ومفاهيم" ) .

تعدّ هذه الخطوة في واقعها محاولة إنسانية ناجحة للكشف عن المخفي وإعطائه تصوراً ذهنياً يحصر المسافة القائمة بين المعلوم والمجهول ، وإن كان النص يوحي بمعرفية الرمز والتواضع عليه من أجل السيطرة على فعاليّة المجهول ، وامتلاك ناصية المعلوم بتنظيم قابلية الفهم الواقعة في فضاء هذه الثنائية ، الساعية إلى وضع الغائب في مجال بصري يجعل من المواجهة – مواجهة الواقع – أكثر أماناً ، لذلك كان الرمز "أَمعن في الحسيّة ، ومن ثمّ فهو أكثر عينية من الفكرة المرموز إليها . إنّ الرمز يمثل في مجال تطور العقل البشري مرحلة أكثر بدائية من التفكير التجريدي العقلي النظري" .

يعالج البدائي الأشياء بإحضارها إلى موقع التعيين ، بإعطائها رموزاً تدفع عنها حقيقة الغياب ، وتمنحها هوية الانتماء إلى عالمهِ ، فيتحرر بذلك من سيطرة اللامرئي ، واقفاً في أفقِ نظام تخلّق بمعرفتهِ الشخصية غير أن الرمز في هذه الحالة يبدو وضعياً، يوظف لأغراض اجتماعية معرفية تساعد على إشكاليات يعانيها الفرد في مواجهة القوة الخارجية عن إرادته أو مديات معرفته البسيطة (الضيقة) . لكن الرمز في هذيان الحوار المعرفي وتعدديته ، هذا الحوار القائم على الاستدلال والمعالجة الميكانيكية في عملية التوصيل – خرج من بؤس الجسدي إلى نزف ألحلمي ، مُلقياًُ وظيفته الطقوسية ، ليدخل في رحابة الفن عاكساً صورة الانفعال المكبوت، ذلك أن المكبوت"وحده هو ذلك الذي يُرمز إليهِ ، وهو وحده الذي يحتاج إلى الرمز". قد تشير هذهِ الملحوظة إلى الجنس ، لأن "نظرية التحليل النفسي تعتبر الفنون جميعاً فنوناً رمزية ، والنزعات الرمزية جميعها نزعات جنسية" .

أقف بتحفظ أمام هذا المفهوم الغريزي للرمز ولوظيفته ، المستند أساساً إلى منهج أحادي في التأويل ، إذ لا يمكن لهذا التعميم أن ينجح مع كافة الرموز المنتجة في العملية الفنية ، كما لا يمكن لهذا التعميم أن يصدق على كل فنان اتخذ من الرمز وسيلة تعبيرية جمالية . ولا

" تأتي للأثر الفني القدرة على حمل دلالات رمزية إلا إذا توافرت لهُ بعض المقومات الصورية التي لا يمكن إثباتها إلا مع كبير عناية ومهارة فالذهن يحتوي على عناصر ذات صلة بالفن لا يلعب الشعور في اكتسابها أو معاناتها أو تخريجها ، حتى لو كانت قد تعرضت بعض همزات الوصل بين أصولها وصورها النهائية للكبت فيما بعد ، والرموز قد تنبثق عن مصادر تغيب عن شعور الفرد بصفة مؤقتة ، بمعنى أنها ليست من فعل اللاشعور ".

الشعر ارتحالٌ في لحظة الأعماق ، وانبثاق يقف بقدم راسخة على السطح المحدود لعالم الأنظمة والقوانين التي تضع خصوصية المبدع في إطار الالتزام من قبل الأخر ، فيلجأ الشاعر إلى تلمس " خبرتهِ في بعض المحسوسات الخارجية التي تكتسب من خلال القصيدة التي ينشئها عالماً خاصاً ، وربما لا ينسى الشاعر هذا العالم الشعري الذي عكف عليه مرات ومرّات ، وربما عاود ارتياده ليخلق صوراً بالرجوع إليه أكثر مما يخلقها بالرجوع إلى العالم الحقيقي  وحده ثم ينتقل من الانعكاسات المباشرة للدنيا الواقعية إلى صورة ثانية تعدّ مزاجاً من الواقع والشعر ، فإذا قرن في القصيدة الأولى بين الحركة الشعرية والشلال مثلاً ، فإن القصيدة الثانية توشك أن تجعل الشلال بعيداً بعض البعد عن ذاك الشيء الطبيعي المعروف ، فإلى جانبه التصورات الشعرية التي علقت به ، وهكذا تتسع دائرة الشلال ببعدها عن التعليق بالمتحقق المادي العيني ، ثم باكتسابها خصائص أو سمات جديدة من أثر العكوف عليها، ومن هنا تأخذ فكرة الشلال بالنمو وتستقل استقلالاًَ شخصياً ، وتتأهب لتكون رمزاً، ومن هنا نقرأ القصيدة التي تدور على الشلال في الظاهر فتبدو تصوراته أكبر مما هو عليهِ في الواقع : عانق غيره وأصبح بؤرة تتبلّر فيها قيمة كبيرة . والعلاقة بين الشلال من حيث هو رمز وما يتحرك نحوه ليست قائمة بداهة على أيّ تشابه في المظهر الحسّي ، وإنما مردّها إلى علاقات داخلية أخفى، ولا ريب فقد استحال الشلال صدى لجوهر لا يمكن تحليله، وحين يتلمس القارئ هذا الجوهر يجد نفسه أمام أثقال وأفكار وأخيلة متضاربة، ولكن التضارب أو التناقض يعيش في كنف العافية ، فلا تهدم العناصر المتضاربة بعضها بعضاً ، ومن ثم يصبح الرمز مصدر خصب لا ينضب " .

يبدو واضحاً أن الرمز من خلال منطلقات تكونه يجري في اتجاهات مختلفة، فهو( الرمز) عند البدائي محاولة للوصول إلى شكل من أشكال التصالح مع العالم الغيبي، بإخراج هذا العالم من حيز المجهول إلى حيز معرفي معلوم يتَشَخصن برموز ، وتسميات تتيح للإنسان البدئي معرفة تمنحه حق الامتلاك والسيطرة، ضمن موازينه الشخصية، والرمز عند أصحاب الاتجاه النفسي ودارسي الأدب يعمل في اتجاه مخالف تماماً فهو العملية التي تسعى للوقوف خارج المعرفي ، بتجريد الأشياء من مداليلها ، وبث روح التعدد الدلالي في أحشاءها حتى يستحيل الوصول إلى مدلول ثابت لرمز مهما بلغت قدرة القارئ على التجوال في أقاليم النص المدروس، يصبح الرمز في هذه الحالة فراغاً يطفي ذاكرته في ظلال لا متناهية فإذا أردنا أن ندرك جماليته ، نفعل ذلك عن طريق الحدس " وليس الحدس في حقيقة أمره سوى معاصرة الموضوع والنفاذ إلى باطنه أي إدراك الديمومة الخلاقة إدراكاً مباشراً ، فكأننا بالحدس نحيي الجمال ونشعر بدبيبهِ في نفوسنا "، ولا نجانب الحقيقة إذا قلنا: إنّ الرمز نشاط سحري ينهج في تخلقه إلى إدراك الوجود في آفاقه المظلمة، داخلاً مناطق عالم أسطوري " وهي المناطق الغائمة الغائرة في النفس ولا ترقى اللغة إلى التعبير عنها إلا عن طريق الإيحاء بالرمز المنوط بالحدس وفي هذه المناطق لا نعتد بالعالم الخارجي إلا بمقدار ما نتمثله ونتخذه منافذ للخلجات النفسية الدقيقة المستعصية على التعبير"، من الواضح أن الحدس من أهم السمات التي تعمل على تكون الرمز "فالرمز يعتمد في ظهوره على الحدس والإسقاط(*) معاً ، بالحدس يصل إلى الوتر المشترك وبالإسقاط يخرجه من نفسه واضعاً إياه في شيء خارجي هو الرمز" .

ـــــــــــــــ

(*) يشرح يونج مفهوم الإسقاط فيقول : إنه يعتمد على الهوية العتيقة بين الذات والموضوع ، فالتفرقة بين الآن والعالم لم يعرفها البدائيون / ينظر الصورة الأدبية / 157 .

 

الهوامش :

([1])عز الدين اسماعيل/الفن والانسان/17

(2)أرنولد هاوزر/فلسفة تاريخ الفن/56 

(3)نفسه/55

(4)نفسه/58

(5)نفسه/56

(6) مصطفى ناصف/ الصورة الأدبية/153-1524

(7)محمد علي أبو ريان/فلسفة الجمال ونشأة الفنون الجميلة/119

(8)محمد غنمي هلال/ النقد الأدبي الحديث/418

(9)الصورة الأدبية/175

المصدر: أ.د. عبد الستار عبدالله البدراني
  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 178 مشاهدة
نشرت فى 12 يوليو 2011 بواسطة Alhafedh

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

41,482