عالم الأدب والنقد الأدبي- د. محمدصالح رشيد الحافظ

الموقع خاص بعالم الإبداع الأدبي والإنساني - نصوص ودراسات

*ما من كتاب أثار ردود فعل متباينة مثل كتاب «المرايا المحدبة» للدكتور عبدالعزيز حمودة، الناقد والمؤلف المسرحي فهو ليس مجرد كتاب نقدي، بل محاكمة لتيار الحداثة العربية في العشرين عاماً الأخيرة، هذا التيار الذي اعتمد نقل وترجمة النظريات النقدية الحداثية الغربية واعتبارها كشوفاً تم تطبيقها بكثير من التعسف على الأدب العربي قديمه وحديثه، بشكل يجعل هذه النصوص الإبداعية الواضحة، نصوصاً غامضة بما يحملها النقد من أسهم ودوائر ومثلثات وتقاطعات ومعادلات، يبدو النص معها وكأنه غابة متشابكة لا يستطيع القارئ الفاهم والقارئ المتخصص السير فيها، كما ينص في كتابه هذا على النقاد من أصحاب التوجه القائل بعلمية النص النقدي، إذ إن ذلك يلغي الدور الهام للنقد لصالح نرجسية النقاد المحدثين الذين تخلوا عن كون النقد هو وسيط إبداعي توضيحي بين النص الأدبي والقارئ كما كان على مدار عصور النقد السالفة، ليصبح في رأيهم علماً قائماً بذاته، يتخذ في سبيل تجليه النص الأدبي مطية له!
ولكن أكثر ما في هذا الكتاب من نقد جذري، أنه أشار بوضوح إلى قلة محصول الاتجاهات النقدية العربية الحداثية في العشرين عاماً الماضية، وأن هؤلاء النقاد الذين تبنوا البنيوية وغيرها من تيارات النقد الغربي المحدثة قد تغافلوا أولاً عن كون هذه النظريات وليدة شبكة من المعارف والفلسفات والحراك الاجتماعي الغربي مما يقتضي الأخذ منها بحساب وتطويعها قبل زراعتها في التربة الأدبية العربية، وثانياً أنهم أخذوا هذه النظريات والمناهج النقدية بعد أن تم تجاوزها إلى نظريات ومناهج جديدة في النقد الغربي نفسه!
هذه الصراحة وهذا الوضوح الذي ذهب في جذريته إلى حد القسوة على النقاد والحداثيين جميعهم أقام الدنيا ولم يقعدها منذ صدور الكتاب وحتى هذه اللحظة، من هنا كان «الأربعاء» إلى جوار القضية المثارة والمعركة المفتوحة التي دخلها أقطاب الحداثة النقدية وأقطاب المحافظة النقدية، لتحاور صاحب الكتاب الدكتور عبدالعزيز حمودة، الذي جاء كلامه في هذا الحوار أيضاً جذرياً وواضحاً في اتجاه تأكيد موقفه الذي تبناه في الكتاب والذي يمثل موقف زملاء كثيرين له تعرضوا ـ على حد تعبيره ـ لهجمات الحداثيين وحداثتهم المنقولة.
محطات أولى:
*عرفنا الدكتور عبدالعزيز حمودة كاتباً مسرحياً قبل كتابه «المرايا المحدبة» بما أثاره من اختلافات مازالت قائمة.. لكننا في بداية حوارنا نريد إضاءة المحطات الأساسية عندك قبل «المرايا المحدبة».
- الحقيقة أنني بدأت بدايات نقدية في الدرجة الأولى، فقد كان أول كتاب كتبته وأنا شاب في أوائل الستينيات، حيث كنت باحثاً ناشئاً في ذلك الوقت، وكان اسمه «علم الجمال والنقد الحديث» ويتناول العلاقة بين علم الجمال والنقد الحديث، ففي ذلك الوقت كانت المدرسة السائدة على مستوى النقد هي المدرسة التحليلية، وبعدها توالت أعمالي النقدية في المسرح على وجه الخصوص، فكتبت عن المسرح السياسي، ثم ما يسمى بالبناء الدرامي للمسرحية، ثم مسرح رشاد رشدي، والمسرح الأمريكي.
بعد ذلك تحولت للإبداع المسرحي، فبدأت أكتب المسرح منذ أوائل الثمانينيات، فكتبت عدة مسرحيات، لعل أبرزها أو مانال منها الشهرة: «الناس في طيبة»، و«الرهائن»، و«ليلة الكولونيل الأخيرة»، و«الظاهر بيبرس»، و«المقاول»، وهذه الأخيرة لم تقدم بعد على خشبة المسرح، ثم جاءت فترة انقطعت فيها عن النقد والإبداع معاً، حيث انشغلت بتولي عدد من الوظائف الإدارية فقد عملت لسنوات ليست بالقليلة عميداً لكلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم عينت مستشاراً ثقافياً لمصر بواشنطن لبضع سنوات، ثم شاءت الظروف أن أعود من واشنطن إلى الإمارات لأعمل عميداً للدراسات العليا بجامعة الإمارات «بالعين».
هذه السنوات الإدارية مثلت لي فترة الانقطاع الإبداعي عن المسرح والنقد معاً لكنها لم تمثل انقطاعاً عن المتابعة والقراءة، و«المرايا المحدبة» كانت فرصتي وقراري لأن أعود إلى ممارسة حبي الأول وهو النقد والدراسات النقدية بما يفيد الناس ويوضح ما خفي عليهم ويعبّد الطريق في اتجاه كتابة نقدية مفهومة ولها غاية واضحة خلاف الغموض والاستعراض.
*النقطة الثانية التي نريد الوقوف عندها في حوارنا المتسلسل هذا أن تضيء لنا عكوفك على هذا الكتاب الذي أثار المعركة الدائرة.. ولِمَ أنجز الآن وليس قبلاً؟
- استغرق كتاب «المرايا المحدبة» أربع سنوات كاملة، منها ثلاث سنوات تفرغت فيها للقراءة المنظمة لنتاج النقد الحداثي العربي، ثم تحولت إلى مقارنته بالنسخة الأصلية، كما أحب أن أسميه، وأعني به النقد الحداثي الغربي، فعدت إلى الفلسفة الغربية في العصر الحديث، التي يسمونها بالقرون الثلاثة الماضية بدءاً من القرن الثامن عشر قدوماً إلى قرننا الحالي أو منتصف القرن العشرين بالتحديد، وبعد هذه السنوات الثلاث من القراءة الدؤوب والعودة إلى جذور الحداثة الغربية، قضيت عاماً كاملاً في وضع مادة هذا الكتاب ليأتي على هذه الصورة الجذرية التي رآه القراء عليها، وقد استغرقت في كتابته حتى تحول الكتاب معي إلى «أنا» وتحولت إلى الكتاب، وكأنها عملية استغراق كامل من طرفين، ففي بعض الأحيان لم أكن أنام أكثر من ساعتين في اليوم الواحد في لحظات الكتابة المجموعة هذه.
استزراع قسري:
*هل تعمّد الدكتور عبدالعزيز حمودة تعرية النقل الحرفي وغير المنضبط لنتاج الحداثة الغربية على المستوى النقدي، أم أن هذه النتائج جاءت كمحصلة نهائية للكتاب؟
- دعني أكن صريحاً معك إلى حد كبير، فقد بدأت مشروع هذا الكتاب بقلب مفتوح، واعترفت بشجاعة، ربما لا يقدر عليها كثيرون، بأنني لم أكن أعرف شيئاً عن النقد الحداثي الغربي أو العربي قبل فترة عكوفي لسنوات ثلاث على هذا النتاج، كما بدأت بعقل مفتوح، إذ إنني كنت قبل هذا المشروع قد انصرفت عن المدرسة التحليلية ودراسة النقد الحديث وهي مدرسة نقدية آلية وحوارية، كان قد أدخلها إلى مصر أواخر الخمسينيات الناقد والكاتب الراحل رشاد رشدي.
كنت أعرف أن مدرسة النقد الحديث قد انتهت ولايمكن إحياؤها، ولهذا أقبلت ـ كما قلت ـ على النقد الحداثي بقلب مفتوح وعقل مفتوح أيضاً، لكنني اكتشفت بعد عامين من القراءة المطولة أن الأمر كما ذكرت في الفصل الأول من الكتاب، وباللهجة العامية المصرية «إنه ليس تحت القبة شيء». بمعنى أنه لايوجد إسهام نقدي عربي حقيقي ولا يوجد ناقد كبير بالمعنى المعلوم في الغرب، بمعنى أنه منتج لمقولات نقدية ومعرفية جديدة في الحقل الذي يعمل فيه فلم أكن أقصد تعرية أحد ولم أكن أقصد إطلاقاً أن أمسك بمرايا محدبة وأضعها أمام آخرين بهدف تشويه صورتهم وتقزيمها.
ويضيف الدكتور عبدالعزيز حمودة:
ـ حتى هذه اللحظة، لم أكن أقصد على الإطلاق التقليل من شأن أحد، فما قصدته بصراحة شديدة هو ممارسة حق الاختلاف الذي مارسه النقاد الحداثيون أنفسهم، حينما اختلفوا مع المدارس النقدية السابقة عليهم، ولهذا مما يصيبني بالدهشة مواقف بعض الحداثيين العرب الذين أخذوا ردود فعل عنيفة تجاه هذا الكتاب دون أن يقرؤوه، لمجرد سماعهم بأنه يختلف معهم بشكل جذري فبعضهم ـ وأنا مسؤول عما أقول ـ فرض علينا أحادية نقدية لمدة تقترب من العشرين عاماً، وحينما جاء من يختلف معهم في الرأي رفضوه من حيث المبدأ، وهم في الواقع لا يختلفون عن بقية الحداثيين في بلاد النشأة سواءً في الغرب أو في الشرق، بمعنى أن الحداثيين في منتصف الخمسينيات وحتى أواخر الثمانينيات دأبوا على اتهام كل من يختلف معهم في الرأي بالجهل والرجعية، وللأسف الشديد، هذا ما حدث معي أيضاً، فأحد الاكتشافات بعد صدور الكتاب وقد لفت إليه نظري بعض الأصدقاء، أن المثقف العربي متعسف في الرأي، يسمح لك أن تتفق معه ولكنه يحمل عليك بقسوة إذا اختلفت معه، وهذه مفارقة غريبة للغاية، فأصحاب هذا التوجه الحداثي لا يكفون عن الحديث حول الحرية والديمقراطية وحقوق التعبير، لكن عندما تختلف معهم تكتشف أنهم لايقبلون الاختلاف، وهذه العملية المذهلة في سلوك النقاد الحداثيين الفكري جعلني أكثر جذرية في ممارسة حق الاختلاف دون أن أتعمد تعرية أحد أو الحط من شأن أحد، كل همي هو البحث النقدي مهما أفضى ذلك إلى نتائج قد لا ترضي البعض أو ترضي البعض الآخر.
المبالغة في التطبيق:
*بعض النقاد الحداثيين الذين طبقوا البنيوية والتحليل الأسلوبي على النصوص القديمة والحديثة على السواء كانوا من الغموض بحيث لم يفهم القارئ المتخصص أو حتى المبدع مقصدهم من ذلك، كيف يحدث هذا الأمر في حقل النقد؟
- دعني أقل لك بصراحة إن النقاد الحداثيين في معرض تطبيقهم لعملية المنهج اللغوي، بالغوا في تطبيق علمية النقد والمفارقة المؤلمة التي توصل إليها كل من حاول تطبيق هذه الدرجة من العلمية في النقد الأدبي أن الناقد في هذه الحالة يتمسك بمنهج صارم في علميته ويطبقه على مادة هي العواطف الإنسانية، هي مادة الأدب، وهي ليست علمية على الإطلاق، وهذه المفارقة واجهت النقاد، سواء في النقد الجديد «اليوت ورفاقه» أو في النقد الحداثي: البنيوية والتفكيك.
لكن التعليق على مقولتك الأساسية كان ما اكتشفته بعد كتابة الكتاب وصدوره، فلم أكن أعلم، كما قلت في الفصل الأول من الكتاب والمعنون بـ «الحداثة في نسختها العربية» أن مأساتي مع النقد الحداثي وصدمتي فيه كانت مأساة وأزمة الكثيرين من النقاد والمتخصصين والمبدعين الذين صدموا فيه أيضاً، بل إنها كانت أزمة أغلبية صامتة من القراء العاديين فقد اتصل بي أساتذة جامعيون ليقولوا: إنك أنصفتنا وإننا نشعر بعد عشرين عاماً بالارتياح، فقد كنا طوال هذه السنوات ننحي باللائمة على ذكائنا الفطري والمكتسب ونتهم أنفسنا بأن العيب فينا وأننا لانفهم هذه التيارات الحداثية النقدية، فجئت أنت وأزلت هذه الحواجز جميعها وفتحت الباب واسعاً أمام التلقي الحر الناقد لهذه التيارات النقدية وما أنتجته من معرفة.
وهذه أزمة النقد الحداثي الحقيقية في ظني، أنه كان نقد نخبة تكتب لنفسها من ناحية، وعندما تختلف مع توجهاتها وتقول لهؤلاء الكتاب والنقاد إن ما يكتبونه يستعصي على الفهم يتهمونك بعدم القدرة على فهم ما يكتبون، بل وبالجهل أيضاً وبالرجعية.
من ناحية أخرى فالنماذج النقدية التي اخترتها بشكل عفوي لتكون محور الدراسة التطبيقية في الكتاب، وهي نماذج لنقاد بارزين منهم: تحليل كمال أبوديب لمعلقة امرئ القيس الشهيرة التي يسميها هو القصيدة الشبقية، وتحليل الناقدة حكمت الخطيب لقصيدة معاصرة وتحليل الدكتورة هدى وصفي لقصة الشحاذ لنجيب محفوظ، اخترتها لتؤكد الذات في النقد الحداثي وأزمة النقد الحداثي في الوقت نفسه، أنه ينطق النص بما ليس فيه، وهناك صورة جميلة يرددها الرافضون لهذا النقد الحداثي، يقولون إن الناقد الحداثي، وخصوصاً الناقد البنيوي، يشد النص على آلة تعذيب وهي آلة بشعة كان يُشد عليها المضطهدون في عصور أوربا الوسطى حتى تتفكك مفاصلهم ويعجزوا عن الحركة.
*كيف تسرب إليك هذا الشعور وتجاه أي نص من النصوص التي ذكرتها؟
- شعرت بذلك على وجه التحديد وبصورة كبيرة في تحليل كمال أبوديب لمعلقة امرئ القيس وهو تحليل مطول يرغم القصيدة على النطق بما ليس فيها، من ناحية أخرى، فما حدث تحت شعار علمية النقد، أن الناقد الحداثي لجأ إلى رسوم بيانية، مثلثات ودوائر وخطوط متداخلة ومتقاطعة، ولجأ إلى معادلات جبرية في ظاهرها، ولكنها ليست كذلك، فكما قلت في الكتاب فمعادلات الجبر تحكمها قواعد تصل بها إلى دلالة وإلى معنى ولكن المعادلات التي تتمسح بالجبر «لهدى وصفي» و«لكمال أبوديب» لاتصل إلى دلالة، فتحت إطار هذه العلمية لجؤوا إلى مايزيد من غموض النص، وتحت هذا الشعار لجؤوا إلى مقولة إن النقد لايقل في مكانته على النص الأدبي، مما دفعهم لتحويل النص النقدي إلى منافس للنص الإبداعي بتعسف شديد أفقدهم للدور الذي على الناقد أن يقوم به دون أن يقدموا علمية حقيقية كما يدعون.
الوسيط الغائب:
*ما الانحراف، أو ما طبيعة هذا الانحراف الذي مثله شعار «علمية النقد» عن طريق النقد في العصور المختلفة؟
- النقد منذ أفلاطون وأرسطو وحتى القرن الحالي أو حتى نشوء مثل هذه التيارات الحداثية كان يلعب دور الوسيط بين الكاتب أو المبدع شاعراً أو روائياً وبين القارئ قد يقترب الناقد في مرحلة من المبدع وقد يقترب في مرحلة أخرى من المتلقي لكنه كان دائماً يلعب دور الوساطة بقصد مساعدة القارئ أو المتلقي على تذوق النص بصورة أفضل، وهنا كانت وظيفته الحقيقية هي «إنارة النص» كما يقولون في النقد الحداثي!
ولكن تحت شعار العلمية ومن منطلق غرور غير مسبوق في تاريخ النقد الأدبي على مدى خمسة وعشرين قرناً بدأ النقاد يلفتون النظر إلى النص النقدي بعيداً عن النص الأدبي، فتقرأ النص النقدي فتضيع في متاهاته وتفشل في فك طلاسمه ومثلثاته وخطوطه ودوائره ومعادلاته، وفي النهاية تجد النص الأدبي المبدع قد ضاع، ولذلك فأنا في بعض الأحيان أدهش من بعض الشعراء الحداثيين الذين يختلفون مع «المرايا المحدبة» فعلى العكس، «المرايا المحدبة» كتاب جاء لينصف المبدع الحداثي لكنه يأخذ موقفاً مناهضاً للناقد الذي يفرض نفسه على النص الأدبي ويقول إنه أكثر أهمية من النص الذي يعالجه.
*هل يمكن القول إذن إن النقد الحداثي قد أضاع الجهد النقدي بالغموض وأضاع الجهد الإبداعي بالتعالي عليه وعدم استطاعته توضيحه وتحليله تحليلاً مفهوماً؟
- تماماً، لقد أضاعوا الإبداع والنقد معاً والنقطة التي أحب التكلم فيها، أن النقاد الحداثيين كانوا يتعمدون المراوغة والتي تتكرر في قاموسهم وكذا الإبهام والغموض المتعمدين، حتي يجهد القارئ نفسه في فك طلاسم النص النقدي، لكي يتأكد في النهاية أن النص النقدي يفوق من حيث الأهمية النص الأدبي الذي يعالجه الناقد.
الأصوات الخافتة:
*هل كان هذا الاكتشاف لخواء النقد الحداثي جديداً تماماً أم أنه كان معروفاً لدى البعض لكنهم كانوا يواجهون بما يجعل أصواتهم خافتة؟
- أتفق معك في كون هذا الهجوم والتشريح اللذين اعتمدتهما وصولاً إلى تبيان خواء هذا النقد وقلة محصول أصحابه لم يكن جديداً تماماً، بل كان اتجاهاً أساسياً عند كل من نقدوا البنيوية مثلاً والتفكيك فيما بعد.
*أين البنيوية والتفكيك الآن؟
- هذا سؤال وجيه، وفي رد فعل مبكر لأحد البنيويين الكبار في عالمنا العربي، اتهم كاتب «المرايا المحدبة» بأنه ذهب إلى الحج بعد أن عاد الحجيج، لماذا يكتب عبدالعزيز حمودة عن البنيوية ونحن نعرف أن البنيوية قد انتهت في أوروبا منذ عام 1968، وقد كانت هذه التهمة مثار سخريتي وقد ضحكت ملء شدقي عندما قرأت هذه التهمة التي تشير بالإفلاس عند صاحبها، لسبب بسيط، فإذا كانت البنوية قد انتهت منذ عام 1968م، لماذا فتحوا لها بوقاً «مجلة فصول» وهو بوق كان كبيراً ومؤثراً، منذ عام 1980م، هذا من ناحية، ثم «المرايا المحدبة» من باب «نقد النقد» وهو تيار نقدي ما بعد حداثي، يسمى الآن «بالمتيانقد»، وهي تتخذ موقفاً ضدياً من البنيوية، هذا الموقف النقدي الذي يمكن أن يتخذه المؤرخ النقدي بعد خمسمائة عام من وجود تيار نقدي بعينه فيستطيع أن يأخذ موقفه هذا باعتباره موقفاً نقدياً يستحق النظر والنقد أيضاً لا الهجوم والتجهيل وأن الذي يذهب إلى الحج بعد عودة الحجيج حقاً هو من يزال يدعو حتى اليوم إلى البنيوية.
ويضيف الدكتور عبدالعزيز حمودة:
ـ البنيوية فعلاً قد انتهت، وليس في عام 1968م كما يدعي هذا الناقد البنيوي الكبير، وإنما في عام 1966م إذا شئنا الدقة بمحاضرة جاك دريدا الشهيرة في جماعة «جونز هوبكنز» الذي اعتبرت أول ما ينقستو عن التفكيك الذي لم يطل به العمر بدوره، وعندما بدؤوا الحديث عن البنيوية في بداية الثمانينيات كانت البنوية قد انتهت في أوربا وكان التفكيك أيضاً قد انتهى، بمعنى أننا حين نقلنا، نقلنا متأخرين، وإذا كان ذلك مسموحاً به في القرن التاسع عشر، فإن ذلك لايغتفر في أواخر القرن العشرين، حيث عصر الاتصالات السريعة وعصر الثورة المعلوماتية، إلى آخره.
فوضى الاصطلاح:
*نريد إضاءة نقطة هي مثار جدل وأخذ ورد لا ينتهيان، فالمصطلح النقدي أصبح مشاعاً لكل ناقد وباحث وناقل عن اللغات الأخرى، بل وأصبح صكه من أسهل العمليات المتاحة أمام الناقد المحنك والباحث المبتدئ.. من المسؤول عن ذلك؟
- أعتقد أن هذا هو لب المشكلة: «أزمة المصطلح النقدي»، بل إن ذلك هو العمود الفقري في كتابي «المرايا المحدبة» ففي الكتاب أدعي، وقد أكون مخطئاً وقد أكون مصيباً، أن المصطلح النقدي الحديث الذي أخذنا عنه، سواء في الشرق أو الغرب، ارتبط ارتباطاً وثيقاً في القرون الثلاثة الأخيرة، وقد خصصت الفصل الثاني كله من الكتاب لمناقشة العلاقة العضوية بين الفلسفة الغربية من اليقين إلى الشك وبين المصطلح النقدي.
فالمصطلح النقدي الفلسفي النشأة والمعرفي الدلالة تم نقله بعوالقه المعرفية وعوالقه الدلالية والقيمية إلى تربة ثقافية لم تعرف هذه القيم المعرفية، فالثقافة العربية لم تعرف الكثير، ليس معنى هذا أنها في مرتبة أدنى، على الإطلاق، بل إن الفلسفة والثقافة العربيتين تختلفان بالقطع عن الفلسفة والثقافة الغربية، وعندما أنقل مصطلحاً نقدياً بعوالقه المعرفية إلى ثقافة مختلفة لها قيمها المعرفية الخاصة به، يصبح هذا المصطلح منذ لحظة وصوله مصطلحاً غريباً يزيد من ارتباك الدلالة.
*والدليل على ذلك الاختلاف الكبير في ترجمات المصطلح الذي أحدث بلبلة زائدة بين المغاربة والشوام والمصريين.
- هذا صحيح ولهذا يعقدون حول ذلك المؤتمرات، وفي الحقيقة، كنا نعتقد، حتى فترة قريبة أن مشكلة المصطلح، هي في الأساس الأول مشكلة ترجمة وكنا نلقي باللوم على الترجمة وأن أزمة المصطلح النقدي أزمة ترجمة بالدرجة الأولى، ما يضيفه الكتاب الآن وهو نقطة الإيلام للنقاد الحداثيين العرب أن الأزمة هي أزمة بنية ثقافية أنقل عنها قيماً معرفية وأجتزئ منها دون تنقية حقيقية، ولهذا فالمقولة التي يثيرها الكتاب: أية حداثة يمكن أن ننحاز إليها، حداثة فلسفة الشك؟ أم حداثة الثقافة العربية بمقوماتها المختلفة ولنا الحق أن نعتز باختلافنا.
مرحلة التحولات:
*إذا كان كتاب مثل المرايا المحدبة يضيء ويكشف المحاولات النقدية الزائفة التي شوشت على العقل الإبداعي العربي، فما هي المسؤولية الملقاة على عاتقنا لتصحيح هذا الوضع في المستقبل القريب؟
- لا أعتقد أنني شخصياً قادر على الإجابة عن هذا السؤال في هذه المرحلة، فالإجابة عن هذا السؤال ليست سهلة وتتطلب مني فترة أخرى من التفرغ، لأنني أفكر أن يكون مشروعي القادم: «نحو منهج نقدي عربي»، وفيه سأحاول تخيل أو تصور مشروع نقدي عربي، «فالمرايا المحدبة» أثبت عدم جدوى عملية النقل عن الحداثة الغربية الغريبة عليه، والسؤال المثالي المنطقي سيكون إلى أين؟ وهي تحتاج إلى دراسة، بل إلى تضافر جهود النقاد، وكنت أتخيل أو أطمح أن تتضافر جهود أساتذة النقد الأدبي تحديداً، والذين قضوا ردحاً من الزمن دفاعاً عن الحداثة الغربية، من أجل البحث عن الحداثة العربية عبر جذورها في تراثنا العربي الإسلامي وتطوير مشروع نقدي عربي فذلك أجدى بهم، ولايكفي أن يقول كمال أبوديب إنه يؤسس بنيوية عربية يسبق بها الفرنسيين بمراحل!
* * *
*نشر الحوار بالملحق الأدبي «الأربعاء» لصحيفة «المدينة» السعودية الصادر في 17جمادى الآخرة 1419هـ الموافق 7تشرين الأول/ أكتوبر 1998م..ص 18 ـ 19.
نشر في مجلة (الأدب الإسلامي ) عدد (21)بتاريخ (1419هـ)

المصدر: كتاب «المرايا المحدبة» للدكتور عبدالعزيز حمودة
  • Currently 20/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
6 تصويتات / 158 مشاهدة
نشرت فى 9 إبريل 2011 بواسطة Alhafedh

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

41,492