<!--<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"جدول عادي"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-qformat:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0in 5.4pt 0in 5.4pt; mso-para-margin-top:0in; mso-para-margin-right:0in; mso-para-margin-bottom:10.0pt; mso-para-margin-left:0in; line-height:115%; mso-pagination:widow-orphan; font-size:11.0pt; font-family:"Calibri","sans-serif"; mso-ascii-font-family:Calibri; mso-ascii-theme-font:minor-latin; mso-fareast-font-family:"Times New Roman"; mso-fareast-theme-font:minor-fareast; mso-hansi-font-family:Calibri; mso-hansi-theme-font:minor-latin;} </style> <![endif]-->
ربما لم ينم في أيامه الأخيرة مجدداً شبابه بما يشاهده، ربما باغته التعب متابعاً الحدث الجلل الذي يجري أخيراً فوق الأرض العربية، في تونس ثم في مصر، ما كان ينتظره، ويحاول صنعه وبناءه، لبنة لبنة، فيلماً فيلماً، على مدى عشرات السنين مع حفنة من المغامرين، المؤمنين بأضواء بداية حياتهم، تلك الأضواء التي أخمدتها هزيمة 67 وهزائم أخرى، كان أصعبها وأشدها وطأة هزيمة ذات المواطن في أرضه، وغبن الحسرة على أحلامٍ هشمت الوهمَ منها مخارزُ واقع لم تطفئ الضوء في العين.
كان إصرار عراب السينما التسجيلية السورية عجيبا ، وإيمانه بمستقبل أفضل لا بد آتٍ رغم ما يبدو من تشاؤم في الظاهر يصبغ أفلامه التسجيلية الراصدة لتردي وتردي واقع ما فتئ يزداد انشراخاً، منذ أول أفلامه: محاولة عن سد الفرات 1972؛ الفيلم الذي "أعاد توثيقه" بفيلم الطوفان في بداية الألفية الثالثة، معيداً تقييم ذاته أولاً فكراً وممارسة، قبل أن يفند تاريخ وطن
الرأي، هي الكلمة الأبرز، المجاز الأبلغ الذي يلخص ويكثف أميرلاي فكراً وإنتاجاً إبداعياً، قولاً وفعلاً: في تصريحاته المباشرة وفي "نواديه" السينمائية التي ساهم في تأسيسيها وتفعيلها في بلده سورية ابتداءً من النادي السينمائي في دمشق أواسط سبعينات القرن الماضي حتى بداية الثمانينات، ومساهمته مجدداً في تأسيس اتحاد نوادي السينما في سورية 1982.
الرأي، وما يتبع تلك الكلمة العجيبة: الحرية، الاستقلالية، الحوار، مناهضة القمع، قمع السلطة الرسمية، قمع السلطة الاجتماعية، قمعُ عنجهيةِ التخلف، وتجبر أحادية الرأي، صناعة أفلام كضربات حداثية متعاقبة على جدار سميك عالٍ مصمت بدا أنه لا ينهار، الضربة تلو الضربة والفيلم تلو الفيلم، في أشد الظروف صعوبة، فكرياً وأمنياً؛ لقد وثق أميرلاي الحرب اللبنانية مواجهاً بكاميرته الرشاشات والبنادق، لم تغيبه وطأة أحداثها ولم تغمره ولم تبعده عن قول ما يريده هو ذاته، لم تردعه البندقية كما لم يمنعه الرجل المتسلط بزيّ شرطي، أو بلباسٍ مدني يلاحقه، عن تصويب كاميرته كمشرط يزيل أورام مجتمعه مصوباً في كل اتجاه، وراءً أماماً، يميناً يساراً، إلى الأعلى وإلى الأسفل.
في فيلم "الدجاج" الذي أنجزه في أواسط السبعينات خالف أميرلاي الآراء النضالية السائدة وخرج إلى قرية سورية تعتاش على تربية الدجاج شاهراً كاميرته في وجه الإنسان العادي، مطاولاً بالسخرية المريرة منه تخلفه وجهله، سكونه وتخاذله، انكساره وتكسيره لكل بارقة محتملة، حيوانيته، "دجاجيته" إذا حاولنا لغوياً مجاراة سخريته سينمائياً... واضعاً "شخصيات أفلامه" في خطة سينمائية محكمة. "متطرفاً" حرّك شخصياته، ثبّتها، أطرها في مدجنة، محققاً ذروة تصعيدٍ كثيرون اعتبروا أنه وصل به إلى مشارف سادية سينمائي -كما يأخذون عليه أيضاً في تجربته اللبنانية، وفيلمه مثير الجدل "الطوفان"- لكن جواب أميرلاي عن كل ذلك، وردّه، كان سينمائياً في فيلمه أيضاً "الدجاج"، عندما تدخل متعمّداً في اللعبة السينمائية بكل ذاته بأكثر الطرق فجاجة: فجّر دجاجة أمام كاميرته الراصدة، تطايرت أشلاء وريشاً، محولاً كل عدوانيته الشخصية إلى ما تعنيه الدجاجة وما تشترك به مع الشخصيات "الموثقة" مصدراً حكمه الحاسم عليها، معبراً عن غيظه العميق وخذلانه من قبل من يحاول إنهاضهم، وقاصداً ربما: "ما باليد حيلة" لو استطعت لفجرتهم أيضاً.
شعرية قاسية حسمت إبداعية السينمائي التسجيلي عمر أميرلاي ووضعته على مساريْ إنجازين كبيرين: فعمر اختار السينما الوثائقية عازفاً عن الروائية، واضعاً نصب عينيه ترسيخ هذا النوع كوسيلة آمن بها للحديث عن مجتمعه كما يراه، ولكنه أيضاً ومن جهة أخرى، ارتقى بعمله وأوصله كما كبار التسجيليين إلى درجة الإبداع الصرف، مرسخاً كل ذلك كمفاهيم لها ما يثبتها على الأرض عند أجيال جديدة من السينمائيين الشباب وغير الشباب، ممن وافقوه أو اختلفوا معه في "الرأي" مصعداً على الدوام ما تعنيه "الرأي" أيضاً: رصد الواقع من منظورات مختلفة... وجهات نظر متناقضة ..تمرد.. وصولاً إلى الثورة.. مروراً بفيلمه عن المسرحي سعد الله ونوس و فيلم عن رفيق الحريري... وفي النهاية الفيلم الذي كان يستعد لإنجازه بعنوان "إغراء".
واليوم بعد أن رأى النار توقد من جديد؛ غاب عمر أميرلاي الذي طالما استمات موقظاً بصيص الذاكرة في مشاهدي أفلامه، كي يحفاظ على أضوائه القديمة التي خذلها سد الفرات.
ساحة النقاش