نسبه ومولده: هو: أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال العربي العدناني الشيباني إمام الفقه والحديث، يكنى بأبي عبد الله قدِم به أبوه من مرو حملًا في بطن أمه فهو مروزي. وولد ببغداد ونشأ فيها فهو بغدادي. وقد ولد الإمام في شهر ربيع الأول عام 164 هـ. عِلمه: طلب العلم طلبًا عاديًّا فلم يطلب الحديث، ولم يجلس بين يدي رجاله إلا بعد أن بلغ السادسة عشرة من عمره، كما ذكر ذلك غير واحد من المؤرخين له، غير أنه فارق دياره ورحل في طلب الحديث والفقه فيه، فجاب البلاد طولًا وعرضًا، ورحل إلى اليمن ماشيًا على قدميه، لقلة ذات يديه، وأقام بها زهاء العامين يطلب الحديث من رجالها كعبد الرزاق صاحب المصنف، ونالته في ذلك مشقة كبيرة ظهرت على جسمه وصحته العامة. ولمّا وصل مكة وقيل له: أجهدت نفسك يا أبا عبد الله قال -رحمه الله- ما أهون المشقة فيما استفدنا من عبد الرزاق كتبنا عنه حديث الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه، وحديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة . كما روى الحديث عن يحيى بن معين وإسحاق بن راهويه والشافعي -رحمهم الله تعالى- وقد دعاه إلى زيارة مصر فلم يقدر لعجزه المادي، ولما التقى به في رحلته الثانية إلى بغداد قال له: يا أبا عبد الله إذا صح الحديث عندك فأعلمني به أذهب إليه حجازيًّا كان أو شاميًّا، أو عراقيًّا، أو يمنيًّا، قال ابن كثير -رحمه الله تعالى- إن في قول الشافعي هذا لأحمد لإجلالًا كثيرًا وشهادة في العلم عظيمة. وحسب الإمام شهادة مسنده الذي خرَّجه من سبعمائة ألف حديث وخمسين ألفًا، وجمع فيه من الحديث ما كاد يحوي الكتب الستة إلا قليلا، وقال ولده عبد الله كان أبي يحفظ ألف ألف حديث، أي: مليون حديث. شهادات العلماء بسعة علمه: وها هي ذي شهادات العلماء بالعلم والسعة فيه، والفضل والكمال لديه. قال الإمام الشافعي خرجت من العراق فما تركت رجلا أفضل ولا أعلم ولا أورع ولا أتقى من أحمد بن حنبل . وقال البخاري لما ضُرب أحمد بن حنبل كنا بالبصرة فسمعت أبا الوليد الطيالسي يقول: لو كان أحمد في بني إسرائيل لكان أُحدوثة. وقال أبو عمر النحاس وقد ذكر أحمد يومًا: في الدين ما كان أبصره! وعن الدنيا ما كان أصبره! وفي الزهد ما كان أخيره! وبالصالحين ما كان ألحقه! وبالماضين ما كان أشبهه! عرضت عليه الدنيا فأباها، والبدع فنفاها! وقال علي بن المديني إذا ابتليت بشيء فأفتاني أحمد لم أُبَالِ إذا لقيت ربي كيف كان؟ وقال يحيى بن معين كان في أحمد بن حنبل خصال ما رأيتها في عالم قط، كان محدثًا وكان حافظًا، وكان زاهدًا وكان عاقلًا. وقال أبو زرعة الرازي ما أعرف في أصحابنا أسود الرأس أفقه منه، يعني أحمد بن حنبل -رحمهم الله تعالى- أجمعين. قوة حجته في علمه: فحسبنا للكشف عنها وإثباتها أن نورد بعض ما كان يرد به على أسئلة المبتدعة المبطلين من المعتزلة المارقين في مجلس الامتحان أيام المحنة. قال المعتصم ناظره يا عبد الرحمن كَلِّمْه، فقال عبد الرحمن ما تقول في القرآن؟ فأبى أن يجيب ويسأل عبد الرحمن قائلًا: ما تقول في علم الله؟ فلم يجب عبد الرحمن المعتزلي فيقول أحمد إن القرآن من عِلم الله فمن زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن علم الله مخلوق، ومن قال بذلك فقد كفر. فقال المعتزلي إن الله كان في الأزل ولم يكن معه القرآن. فيقول الإمام أحمد لقد قلت: إن القرآن من علم الله، فإذا قال قائل: كان الله ولا قرآن معه فكأنه قال: كان الله ولا علم له. المعتزلي هو ضال مبتدع يا أمير المؤمنين. الإمام أحمد يا أمير المؤمنين يأتوني بآية من كتاب الله أو بسنَّة من سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أجيبهـم إليها. المعتزلي فأنت لا تقول إلا ما في كتاب الله وسنَّة رسوله؟ الإمام أحمد وهل يقوم الإسلام إلا بهما. المعتزلي إن الله يقول: خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ والقرآن شيء فهو إذًا مخلوق! الإمام أحمد إن هذه الآية عامة أريد بها الخصوص لا العموم، كقوله -تعالى- عن الريح التي أهلك بها قوم هود تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فهل دمرت كل شيء حقًّا، أو أنها لم تدمر إلا ما أراد الله؟ المعتزلي إن الله -تعالى- يقول: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فهل يكون مُحْدَثًا إلا المخلوق؟ الإمام أحمد إن الذكر هو في القرآن جاء في قوله -تعالى- ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ فهو هنا معرف بالألف واللام، وفي الآية الأولى بدون الألف واللام فهذه غير تلك. المعتزلي إن عمران بن حصين يروي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوله: إن الله خلق الذِّكر وفي ذلك تقرير من النبي-صلى الله عليه وسلم- بأن القرآن مخلوق. الإمام أحمد أخطأت، فالرواية التي رويناها عن عمران وغيره من ثقات أهل الحديث هي: إن الله كتب الذكر . المعتزلي أليس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: تقرَّب إلى الله ما استطعت، فإنك لن تتقرب إلى الله بشيء هو أحب إليه من كلامه . الإمام أحمد بلى، رُوي ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. المعتزلي إن فيه دليلا على أن القرآن مخلوق! الإمام أحمد لست أجد فيه هذا الدليل! المعتزلي إذا قرأت القرآن لتتقرب به إلى الله -تعالى- أليست كلمات مؤلفة من حروف وأصوات، وهل يتألف من حروف وأصوات إلا الكلام المخلوق ؟ فهل نجد لك مفرًّا بعد إذ أمرنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن نتقرب إلى الله بتلك الألفاظ إلا أن تسلم بأن القرآن مخلوق! الإمام أحمد القرآن كلام الله قديم غير مخلوق، وأما أفعالنا فيه إذا كتبناه أو تلفظنا به فهي مخلوقة، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: زَيِّنوا القرآن بأصواتكم فالقرآن إذًا غير أصواتنا المخلوقة التي نُزَيِّنه بها، الكلام كلام البارئ، والصوت صوت القارئ . المعتزلي إن تشك بأن القرآن كلام الله غير مخلوق معناه أنك تنسب إلى الله -تعالى- جوارح يتكلم بها كالمخلوقين وتشبيه الخالق بالمخلوقات كُفر!. الإمام أحمد : هو أحد صمد، لم يلد، ولم يولد، لا عدل له ولا شبيه، وهو كما وصف نفسه. حدثني عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إن الله كلَّم موسى بمائة ألف كلمة وعشرين ألف كلمة وثلاثمائة كلمة، وثلاث عشرة كلمة، فكان الكلام من الله والاستماع من موسى فقال موسى أي ربِّ، أنت الذي تكلمني أم غيرك؟ قال الله -تعالى- يا موسى أنا أكلمك لا رسول بيني وبينك فهذا ما يخبر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ربه، وأنا ما أقول إلا ما يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. المعتزلي كذبت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. الإمام أحمد إن يك هذا كذبًا مني على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فقد قال الله -تعالى- وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا . وقال: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ فهو قول منه، وليس خلقًا. من خلال هذا الحوار الذي دار بين الإمام وبين المعتزلة الخصوم، تتجلى لنا حقيقة أن أحمد بن حنبل كان قوي الحجة وذلك ما رُمناه من عرض هذا الجزء من المناظرة التي دامت أيامًا بين الإمام وخصومه وانتصر فيها حقه على باطلهم. تلامذته: وخلَّف الإمام عددًا من العلماء أخذوا عنه الحديث والفقه وكانوا جهابذة محققين، خدموا السُّنّة وحققوا مذهب أحمد وكان لهم مؤلفات وتلاميذ إلى يومنا هذا. وهذه نتيجة حمل العلم والعمل به، ومن تلاميذه عدد من شيوخه كان يأخذ عنهم العلم مثل يزيد بن هارون وعبد الرزاق وابن مهدي . ومن تلاميذه: البخاري ومسلم وأبو داود وعلي بن المديني وابناه صالح وعبد الله وابن عمه حنبل بن إسحاق وأبو زُرعة الرازي وأبو بكر أحمد بن محمد بن هانئ الطائي وأبو حاتم الرازي وموسى بن هارون وعثمان بن سعيد الدارمي . مؤلفاته: أهم مؤلفات الإمام أحمد المسند الذي ارتبط باسمه فلا يُذكر الإمام إلا ويذكر المسند. وهو كتاب عظيم القدر كبير الفائدة. قال عنه الإمام: إن هذا الكتاب قد جمعته، وانتقيته من أكثر من سبعمائة وخمسين ألفًا فما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فارجعوا إليه فإن كان فيه وإلا ليس بحجة. وقد التزم بألا يجعل فيه سوى الحديث الصحيح المتن والإسناد، حيث انتقى ما بين الثلاثين والأربعين ألف حديث، وجعلها في مسنده، وشملت هذه الأحاديث الرواية عن سبعمائة صحابي -رضي الله عنهم-. وكان الإمام يحفظ السبعمائة والخمسين ألف حديث وغيرها. والمسند الموجود بين أيدي الناس مأخوذ عما دوَّنه الإمام بيده ونقله عنه ابنه أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد وقد أمضى الإمام سنين طويلة في تأليفه، وشملت أحاديثه جميع أبواب الحديث التي نظمها المحدِّثون، لكن كان جُلّ هدف أحمد من جمع المسند هو انتقاؤه وتخليصه من الشوائب. وقد قرأه بنفسه على ابنيه صالح وعبد الله وعلى عمه إسحاق بن حنبل إكمالًا لضبطه، وصدقًا في روايته. ومن المناسب هنا أن نثبت السبب في عدم انتشار المسند بين أيدي المسلمين جميعًا انتشارًا متداولًا كصحيحي البخاري ومسلم لأنه -رحمه الله- رتَّبه على أسانيد الصحابة، ولم يجعله على الترتيب الذي اصطلح عليه المحدِّثون والفقهاء، فكان ذلك عائقًا للبعض عن اتخاذه مرجعه الأول، وكذلك طوله وعدم قيام أحد بترتيبه في الزمن الأول...! أما ما عدا المسند فلم يهتم الإمام أحمد بالتأليف بعد هذا وانشغل بالتدريس؛ لاعتقاده أن العلم يؤخذ من أفواه الرجال.. وله بعض رسائل صغيرة كتبها في مناسبات، منها: 1- الرد على الجهمية.. 2- كتاب الصلاة.. 3- كتاب السُّنَّة.. 4- كتاب الورع - الإيمان.. 5- كتاب الزهد.. 6- كتاب فضائل الصحابة.. زهده وورعه: إن الزهد لتقليل الدنيا وهي قليلة، واحتقارها وهي حقيرة، ولو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة لما سقى الكافر منها جرعة ماء، والرغبة عنها إلى الآخرة إيمانًا بها وبخيراتها ودوامها والآخرة خير وأبقى، كما أن الورع هو الكف عن شهواتها وترك محرماتها والتقلل من مباحاتها، والبعد عن متشابهاتها طلبًا للسلامة منها حتى يترك ما لا بأس به مخافة ما به بأس. وبناءً على هذا، فإن الزهد والورع كل منهما صفة كمال في الإنسان المسلم، وهما سلم إلى درجات الفضل والكمال والتفاوت بينهما عظيم جدًّا، ومن هنا لم يكن أهل الورع والزهد في درجة واحدة بل بينهما من التفاضل ما الله به عليم، وهذا الإمام أحمد بين أهل الزهد والورع، يعتبر مثالًا عاليًا، وقدوة صالحة فلم يسبقه في هذا المجال أحد، ولم يلحقه آخر، والروايات التالية، وهي صحيحة السند إلى الإمام أحمد أخرجها البيهقي ورواها عنه ابن كثير في بدايته تثبت الحقيقة وتؤكدها. ولنكتفِ في باب الورع بروايتين منها فقط: الأولى: قال يومًا الشافعي لهارون الرشيد يا أمير المؤمنين، إن اليمن يحتاج إلى قاض، فقال له الرشيد اختر رجلًا نُوَلِّه إياه، فقال الشافعي لأحمد وكان يتردد عليه لطلب العلم: ألا تقبل قضاء اليمن يا أحمد ؟ فقال أحمد إنما أختلف إليك لطلب العلم المزهد في الدنيا، فتأمرني أن آتي القضاء، ولولا العلم لما كلمتك بعد اليوم!! فاستحى منه الشافعي وسكت. إن رغبة أحمد عن الولاية وهي مما يتسابق الناس إليه ويتنافسون في الوصول عليه، بل مما يتقاتلون على طلبه والظفر به لم تكن إلا ورعًا منه؛ إذ طلب الولاية مباح، ولكن تركها أحمد وهي لا بأس بها خشية الوقوع فيما به بأس. والثانية: أنه جاع ثلاثة أيام؛ لقلة ذات يده فاستقرض دقيقًا من أحد إخوانه ولمَّا وصل إلى أهله عرفوا حاجته إليه فأسرعوا في خبزه وإنضاجه ووجدوا تنورًا لولده صالح مسجورًا فأنضجوا قرص الخبز فيه، فلما قُدِّم إلى أحمد وكأنه لاحظ سرعة تقديم الخبز له فسألهم فأخبروه أنهم طبخوه في تنور صالح ولده وكان صالح يتقاضى راتبًا من الدولة فامتنع من أكله وواصل جوعه من ورعه. فأي ورع أعظم من هذا الورع، أمن أجل أن ولده يأخذ الجوائز المالية من السلطان يمتنع من أكل خبز يطبخ في تنّوره المسجور، وهو ولده والولد وماله لوالده؟ فضرب أحمد بهذا رقمًا قياسيًّا في الورع لا يمكن أن يناله أحد سواه. أما عن زهده -رحمه الله تعالى- فحدِّثْ ولا حرج، قال أبو داود -رحمه الله تعالى- كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة، لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا، وما رأيت أحمد ذكر الدنيا قط. ولم يكن هذا منه -رحمه الله تعالى- إلا احتقارًا للدنيا وعدم التفات إليها؛ وذلك لقلتها وسرعة زوالها وهذا هو الزهد في الدنيا. وحكى ولده عبد الله -رحمهما الله تعالى- معًا فقال: كنا في زمن الواثق الخليفة العباسي في ضيق شديد فكتب أحد الصالحين إلى أبي- لا شك أنه سمع بحاجة أحمد وما هو فيه من ضيق- كتب إليه: إن عندي أربعة آلاف درهم ورثتها من أبي، وليست صدقة ولا زكاة، فإن رأيت أن تقبلها أبعثها إليك. فامتنع أحمد من قبولها، فكرَّر عليه الرجل قبولها فأبى أن يقبلها ورضي بحاجته وما به من خصاصة. وعرض عليه أحد التجار عشرة آلاف درهم ربحها من بضاعة جعلها باسمه فأبى أن يقبلها، ورد عليه قائلًا: نحن في كفاية، وأنت جزاك الله عن قصدك خيرًا، كما عرض عليه شيخه عبد الرزاق باليمن يومًا ملء كفه دنانير وهو في أَمَسِّ الحاجة إليها لنفاد ماله وانقطاعه عن بلده فلم يقبلها. وأعظم من هذه وسابقتها أنه سرقت ثيابه باليمن فجلس في بيته ورد عليه الباب، وفقده أصحابه فجاءوا إليه فسألوه فأخبرهم فعرضوا عليه ذهبًا فلم يقبله، ولم يأخذ منهم إلا دينارًا واحدًا، ليكتب لهم به، فكتب لهم مقابله فكان أخذه منهم بأجرة عمل، ولم يكن بإحسان. صبره على المكاره وثباته على المبدأ: إن كان الصبر هو حبس النفس على الطاعة بحيث لا تتركها في سراء ولا ضراء، وحبسها عن المعصية فلا تغريها في يسر ولا في عسر، وحبسها على البلاء فلا تضجر ولا تجزع، فإن الإمام أحمد كان بذلك إمام الصابرين، وقدوتهم بحق. فقد صبر في مواطن الصبر كلها فلم يضعف ولم يهن بحال من الأحوال حتى غدا صبره في محنته مضرب الأمثال، وأغنى بمحنته تلك التي امتحن فيها ببدعة القول بخلق القرآن حيث أن الخليفة المأمون العباسي كان قد استحوذ عليه جماعة من المعتزلة فأزاغوه عن طريق الحق -كما قال ابن كثير - وزينوا له القول بخلق القرآن ونفي الصفات عن الله -عز وجل- واتفق أن خرج إلى غزو الروم فكتب إلى نائبه ببغداد وهو إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره أن يدعو الناس إلى هذه البدعة، فلما وصل الكتاب إليه قام فاستدعى أئمة الحديث ودعاهم إلى هذا الباطل فامتنعوا فهددهم بالضرب وقطع الرواتب والأرزاق فأجاب أكثرهم مكرهين، واستمر على الامتناع أحمد بن حنبل وآخر يقال له: محمد بن نوح فحملهما على بعير وسُيِّرَا إلى الخليفة، حيث أمر بهما، وكان ببلاد الرحبة جاءهما رجل من الأعراب يقال له: جابر بن عامر فسلم على الإمام أحمد وقال له: يا هذا، إنك وافد الناس فلا تكن شؤمًا عليهم وإنك رأس الناس اليوم فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه فيجيبوا، فتحمل أوزارهم يوم القيامة، وإن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت عليه فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تُقْتَل، وإنك إن لم تُقتل تَمُتْ، وإن عِشْتَ عِشْتَ حميدًا، قال أحمد وكان كلامه مما قوَّى عزمي. ولمَّا اقتربا من جيش الخليفة ونزلا بمرحلة دونه جاء خادم وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه ويقول: يعز عَلَيَّ أن أقول لك يا أبا عبد الله المأمون قد سَلَّ سيفه، وهو يقسم بقرابته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لئن لم تُجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنّك بسيفه، فجثى أحمد على ركبته، ورفع طرفه إلى السماء وقال: اللهمَّ فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مئونته، فلما كان آخر الليل خرج الصريخ ينعي موت المأمون ولم تكد تنفرج حتى ولي الخلافة المعتصم والتف حوله غلاة المعتزلة وشحنوه بالباطل، وكان أشد على أهل السُّنّة من المأمون فرُدّ إلى بغداد في سفينة مع بعض الأسارى ومات ابن نوح في الطريق، وأودع أحمد السجن مدة ثمانية وعشرين شهرًا، قضاها والقيد في رجليه لم ينزع عنهما، فكان يصلي إمامًا بأهل السجن، والقيد في رجليه -رحمه الله تعالى- ولما تمت هذه المدة أُحْضِرَ أحمد أمام الخليفة ليُسأل ويُضرب ويُطلب إليه القول بالبدعة، فيرفض ويعذب، حتى ملّ سائلوه ومعذبوه. وضجَّ من هول العذاب من حوله من السامعين والمتفرجين، والإمام صابر ثابت يقرع الحجة بالحجة، ويدفع ضجة الباطل بلجة الحق، فيضمحل الباطل ويعلو الحق، حتى كتب الله له النصر وفاز بلقب بطل المحنة وإمام الثبات والصبر. وهكذا صبر أحمد وثبت على مبدأ الحق فلم يبدل ولم يغير فكان مثال الكمال في الصبر والثبات على المبدأ، فرحمه الله رحمة واسعة وخَلَّدَ ذِكْرَاه، وجعل الجنة مثواه. ربّانيته: إن ربانية أحمد وهي قوة صلته بربه -تعالى- ونسبته إليه، ولصوقه بجنابه -عز وجل- حتى ما كان يعرف إلا به -تعالى- فمبلغ القول فيها: إنها كانت ربانية قائمة على التوحيد الخالص، والعلم اليقين الكامل، والزهد إلا فيما عند الله، والفقر إلا إلى الله، ولتجلي هذه الربانية القوية نورد طرفًا من موجز كلامه وآخر من مظاهر كماله فنقول: لما حمل أحمد من دار الخلافة إلى دار إسحاق بن إبراهيم وهو صائم أتوه بسويق ليفطر من الضعف الذي أصابه فامتنع واستمر في صومه، وحين حضرت الصلاة صلى معهم فقيل له: صليت في دمك، فقال: صلى عمر وجرحه ينضب دمًا، ولما أقيم ليضرب بالسياط انقطعت تكة سراويله فخشي أن تنكشف عورته فحرك شفتيه بالدعاء، فعادت سراويله كما كانت، وما حرك به شفتيه هو قوله: يا غياث المستغيثين، يا إله العالمين، إن كنت تعلم أني قائم لك بحق فلا تهتك لي عورة. وقيل له يومًا: ادع الله -تعالى- لنا، فقال: اللهم إنك تعلم أنك على أكثر مما نحب فاجعلنا على ما تحب دائمًا وسكت، فقيل له: زدنا، فقال: اللهمَّ إنا نسألك بالقدرة التي قلت للسماوات والأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا فقالتا أتينا طائعين، اللهم وفقنا لمرضاتك، اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك، ونعوذ بك من الذل إلا لك، اللهم لا تكثر لنا فنطغى، ولا تُقِلَّ علينا فنسيء، وهب لنا من رحمتك وسعة رزقك ما يكون بلاغًا لنا في دنيانا، وغنى من فضلك. وقال صالح ولده: كان أبي لا يدع أحدًا يسقي له الماء ليتوضأ، فرمى بالدلو فخرج ملآن فقال: الحمد لله، فقلت له: يا أبت، ما الفائدة بذلك؟ فقال: يا بني، أما سمعت قول الله -تعالى- قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ . وعن مظاهر كماله نقول: لما انكشفت الغمة، وزالت المحنة، وولي أمر المسلمين المتوكِّل على الله وكان سلفيًّا يحب أهل السُّنّة والجماعة، بعث بصلة للإمام أحمد فلم يقبلها، فأصر الخليفة إلا أن يقبلها، وأصر أحمد على عدم قبولها، جعلها الخليفة في ولده وأهله، فقال أحمد لولده وأهله يلومهم: إنما بقي لنا أيام قلائل، وكأننا وقد نزل بنا الموت، فإما إلى الجنة وإما إلى النار، فنخرج من الدنيا وبطوننا قد أخذت من مال هؤلاء!!! فاحتجوا عليه بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- لعمر ما جاءك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مستشرف فخذه رواه البخاري وابن عمر وابن عباس قَبِلَا جوائز السلطان، فقال: وما هذا وذاك سواء، ولو أعلم أن هذا المال أخذ من حقه وليس بظلم ولا جور لم أبالِ. ولمَّا علم المتوكل ببراءة أحمد مما نُسِبَ إليه حيث وَشَى به الواشون، فحُوصِرَ بيته ليلًا، وفتشه تفتيشًا دقيقًا عما يثبت ولاءَه للعلويين، وتواطؤه معهم، بعث إليه الخليفة مع أحد أصحابه بعشرة آلاف درهم، وقال: هو يقرئك السلام ويقول لك: استنفق هذه، فامتنع من قبولها، فقال الحاجب: يا أبا عبد الله إني أخشى من ردك إياها أن تقع وحشة بينك وبين الخليفة، والمصلحة لك قبولها، فوضعها عنده ثم ذهب، فلما كان من آخر الليل استدعى أحمد أهله وبني عمه وعياله، وقال: لم أنم هذه الليلة من هذا المال، فجلسوا وكتبوا أسماء جماعة من المحتاجين من أهل الحديث وغيرهم من أهل بغداد والبصرة ولما أصبحوا فرقوها كلها حتى الكيس الذي كانت به تصدَّقَ به، ولم يعطِ منها أهله وأولاده وعياله شيئًا وهم في غاية الجهد والفاقة والفقر، وهكذا تجلت ربانية أحمد وصدقه فيها فكان بذلك إمامًا وقدوة فيها وفي غيرها من سائر الكمالات النفسية. وفاته: مرض أحمد متى صح ذلك الجسم الذي أضناه الصيام، وأقعده القيام، مرض مرضه الذي توفي فيه أوائل شهر ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين ومائتين، قال ابنه صالح دخلت على والدي يوم الأربعاء ثاني ربيع الأول وهو محموم، يتنفس الصعداء وهو ضعيف فقلت له: يا أبت ما كان غذاؤك قال: ماء الباقلاء، وأقبل الناس الأفاضل على عيادته، وتوافد الأكارم على بيته، فكتب -رحمه الله تعالى- وصيته، وكان يئن في مرضه، ولما بلغه عن طاوس كراهة الأنين تركه، حتى كانت ليلة وفاته أنَّ، وهي ليلة الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول، ومن غريب ما حدث له في تلك الليلة أنه سمع وهو يقول: لا، بعد، لا، بعد، فقال له ابنه صالح ما هذه اللفظة التي تلهج بها؟ فقال: إن الشيطان واقف بزاوية البيت وهو عاضٌّ على إصبعه ويقول: فُتَّنِي يا أحمد فأقول: لا، بعد، لا، بعد، ولما دنا الأجل قال لأهله: وضئوني وخللوا أصابعي. فوضئوه، ولما فرغوا من وضوئه فاضت روحه وهو يذكر الله -تعالى-. فإلى رحمة الله يا أسوة الصالحين وقدوة الزهاد والورعين. والسلام عليك في الآخرين والأولين. وصيته: ولما قرُبت وفاته أمر ابنه أن يحضر وصيّته التي سبق أن كتبها ويقرأها عليه، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أوصى به أحمد بن حنبل أوصى بأنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.. وأوصى من أطاعه من أهله وقرابته أن يعبدوا الله في العابدين، ويحمدوه في الحامدين. وأن ينصحوا لجماعة المسلمين. وأوصي أني قد رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا، وأوصي أن ( لعبد الله بن محمد المعروف ببوران ) عليَّ نحوًا من خمسين دينارًا، وهو مصدَّق فيما يقول، فيقضى ما له عليَّ من غلَّة الدار إن شاء الله فإذا استوفى أعطي ولد صالح وعبد الله ابنا أحمد بن حنبل كل ذكر وأنثى عشرة دراهم بعد وفاء مال أبي محمد شهد أبو يوسف وصالح وعبد الله أبناء أحمد بن محمد بن حنبل . ولما توفي أطبقت بغداد كلها لشهود جنازته التي جهزت بعد الظهر بما فيهم الحاكم والعلماء وسلالة الهاشميين والصحابة والتابعين.. فقيل إن من شهد الصلاة وتبع الجنازة يقدر بألفي ألف وخمسمائة ألف.. وقيل: حضر مع ذلك ستون ألف امرأة وأسلم يوم وفاته عشرون ألفًا من ديانات مختلفة. وفتحت البيوت كلها للوضوء والانتظار، ودُفن في مقبرة (باب حرب ببغداد )، وما زال قبره معروفًا إلى أوائل القرن التاسع الهجري. فرحمه الله ورضي عنه وجزاه عن المسلمين خير الجزاء. رثاء الإمام: نكتفي بذكر قصيدة واحدة من مراثيه قالها جعفر السراج سقـى الله قبـرًا حل فيـه ابن حنبل مـن الغيث وسميًّا على أثره ولي على أن دمعـي فيـه روى عظـامه إذا فـاض ما لم يبل منه وما بلي فلله رب النــاس مــذهب أحمـد فإن عليــه ما حييت معــولي دعـوه إلى خلـق القرآن كمـا دعوا ســواه, فلم يتبع ولــم يتأولِ ولا رده ضــرب السيــاط وسجنه عن السُّنّة الغراء والمذهب الجلي ولمــا يزدهم - والسيـاط تنـوشه فَشُلـَّت يميــن الضارب المتقتلِ على قوله: القرآن -وليشهد الورى- كلامـك يا رب الـورى كيفما تلي فمــن مبلغ أصحــابه أننـي به أفــاخر أهل العلم في كل محفل وألقــى به الزهاد في كل مطلــق مــن الخوف دنيـاه طلاق التبتل منــاقبه إن لم تكـن عـالمًا بهـا فكشف طروس القوم عنهن واسأل لقـد عاش في الدنيا حميـدًا موفقًا وصـار إلى الآخرى إلى خير منزلِ وإنــي لراج أن ينـور الله قلب من إذا سـألوا عـن أصله قال: حنبلي
Alaa Marei
دراسه اللوجستيك والتجا ره الخا رجيه والتصدير والاستيراد والجما رك والامداد والتموين »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
2,056,493