جاء في القرآن الكريم: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) (البقرة/ 237)، لكن، على الرغم من أنّ العفو هو بمثابة فضيلة مستحبة، إلا أنّه ليس كلّ الناس يتمتعون بالقدرة على العفو والسماح. وكيفما كانت الحال، فإنّ العفو هو عبارة عن سلوك يمكن أن نطوّره، وقد توصل علم النفس الحديث إلى أنّ هناك سبع مراحل محدّدة، لابدّ أن يمرّ بها مَنْ يريد أن يسامح الآخرين على ذنب كبير ارتكبوه في حقه.
العفو أو الغفران أو المسامحة، ليست نوعاً واحداً، فهناك المسامحة العادية، كأن تسامحي شخصاً غريباً دفعك بحركة لا إرادية وسط الزحام، أو أن تسامحي صديقة جاءت متأخرة عن موعد لكما بنصف ساعة. وهناك المسامحة غير العادية، كأن تسامحي شخصاً اقترف ذنباً كبيراً في حقك أدى إلى جرحك جرحاً عميقاً أثر في مجرى حياتك، كأن تسامحي أماً تخلت عنك وأنت في المهد، أو أن تسامحي مجرماً اعتدى على سلامتك البدنية والنفسية، أو أن تسامحي شريك حياة خان ثقتك. إن سامحته وعفوت عنه ستكون تلك مسامحة غير عادية وستحتاج إلى زمن طويل لكي تتوصلي إليها. طريق المسامحة في هذه الحالة طويل، يتكون من مراحل عدة، سيكون عليك أن تقطعيها على الرغم من صعوبتها وقسوتها، إن أردت أن تغفري لمن ظلمك.
أحياناً، تكون المسامحة فعل شجاعة، وأحياناً تكون فعل ضعف، هذا بالنسبة إلى مَنْ يفضِّل الإنتقام. لكن الأكيد، أنّ كلّ الضحايا الذين توصلوا إلى أن يسامحوا المعتدين عليهم، أصبحوا بعد ذلك ينعمون بالسكينة وتخلصوا من ثقل الماضي. فالمسامحة والغفران، هما قبل كل شيء، فعل تحرير للذات، ذلك أن ثمة أشخاصاً يتمنون أن يسامحوا الآخرين حتى يرتاحوا، لكنّهم عاجزون عن أن يسامحوا.
النجاح في مسامحة الآخرين، هو شأن يختلف من شخص إلى آخر، وذلك بحسب حجم الإساءة التي تلقتها الضحية، وبحسب الطريقة التي تلقت بها بالإساءة. فتخيلي مثلاً، أن هناك طفلين تم التخلي عنهما في سنّ المهد، أحدهما وجد أسرة تهتم به وتعتبره بمثابة ابنها الحقيقي، فكبر ليصبح شخصاً ناجحاً في المجتمع، بينما الآخر لم يجد عائلة بديلة ترعاه، فكان أن كبر في الشوارع وغاص في مستنقع الإجرام ليقضي بقية حياته في السجن. الأوّل قد يسامح بسهولة والديه البيولوجيين اللذين تخليا عنه، لكن على الأرجح أنّ الثاني لن يسامحهما أبداً.
المتخصصتان النفسيتان الفرنسيتان نيكول فابر وغابرييل روبان، اللتان ألفتا كتباً عن هذا الموضوع، قسمتا فعل المسامحة إلى سبع خطوات أساسية، فسرتاها كما يلي:
1- قرري أنك لن تعاني بعد الآن:
لا يمكن أن تبدأ المسامحة مادامت المعاناة مستمرة. ومادامت معاناتك مستمرة، فإنّك ستصبحين مشمولة غير قادرة على اتّخاذ أي إجراء إزاء سطوة من يسيء إليك. أوّل خطوة تبدئين بها رحلتك نحو المسامحة، هي أن تتخذي قراراً نهائياً بأنّك لن تعاني بعد الآن. إذن، سواء أكان المعتدي صديقاً أن رئيساً في العمل أم مجرماً، حاولي أن تضعي مسافة بينك وبين الشخص المسؤول عن إيلامك، وضعيه أمام مسؤولياته. إن كان مجرماً مثلاً، يجب أن ترفعى دعوى قضائية ضده، فكما قال الفيلسوف سايمون ويل: "لا يمكننا أن نعفو إلا عندما يكون في إمكاننا أن نعاقب". فعندما يتم إحقاق الحق بيد المجتمع، فإنّ ذلك يعني اعتراف المجتمع بجرحك وتحديد المذنب. أمّا المسامحة، فالضحية وحدها يمكنها أن تسامح وتعفو إن أرادت ذلك وليس المجتمع.
2- اعترفي بوجد الضرر:
لا تلجئي إلى النسيان، فلا جدوى منه، ذلك أنّه ليس سوى هروب من العذاب والكره والحقد فقط، وهذه أحاسيس تبقى موجودة في اللاوعي، وقوتها المدمرة تستمر في العمل بداخلك بعنف يتزايد مع مرور الوقت. تقول المتخصصة النفسية الفرنسية غابرييل روبان إن "إسناد الذنب إلى المعتدي يمكنك من أن تتصالحي مع نفسك". بالتالي، فإنّ من الضروري أن تعترفي بأنّ المعتدي مذنب، فذلك مهم لكي تعيشي بسلام، كما أنّه يجنبك الإصابة بأمراض نفسية أو بفشل مهني أو عاطفي متكرر، نتيجة تلك التجربة القاسية.
3- عبّري عن غضبك:
حتى تسامحي، يجب أن تعلني معاناتك، أن تعترفي بها وتخرجيها إلى الملأ، لا تخجلي من عنفك أو غضبك أو حتى كرهك الذي يمكن أن يظهر أمام الآخرين، لأنّ هذه كلّها قد تكون مظاهر صحية ومفيدة في هذه المرحلة الأولى من رحلة المسامحة والغفران، هذه المشاعر السلبية هي علامة على أنك نفسياً إنسانة سوية وطبيعية، وأنك كضحية لا تحمّلين نفسك الذنب الذي ارتكبه المذنب. وكما تقول المتخصصة النفسية غابرييل روبان إنّ "الكره شعور عنيف جدّاً، لا يمكننا أن نتخلص منه. لهذا، فإنّ الضحية، إذا لم توجه كرهها نحو الجاني عليها، فإنّه بالضرورة سوف توجهه نحو نفسها". صحيح أنّ التعبير المباشر للمذنب عن كرهنا له غالباً ما يكون غير متاح، فالمذنب قد لا يعترف بأنّه مذنب. في هذه الحالة، يمكنك كضحية أن تجدي حلاً آخر للتعبير: اكتبي على الورق كلُّ ما تشعرين به، انفصلي عن عذابك عن طريق الكتابة، أو بوحي بمعاناتك لشخص آخر تثقين به، أو استعيني بمتخصص نفسي إن كان الوضع مؤلماً جدّاً.
4- كفي عن الإحساس بالذنب:
أغلب الضحايا يشعرون بأنّهم مذنبون في ما حصل لهم. ولكي تتخلّص الضحية من هذا الإحساس المرهق، عليها أن تحاول معرفة ما هو الجزء الذي تضرر بداخلها، وما إذا كان كرامتها، أم سمعتها أم بدنها. فتحديد ذلك، "سيمكنها من التوصل إلى أنّها ليست متورّطة في المسؤولية عما حدث من ضرر". كما تقول المتخصصة النفسية نيكول فابر: "أن تسامحي نفسك هو أمر ضروري، خاصة في حالات مأساوية مثل التعرض للاغتصاب، الوقوع ضحية جريمة زنى المحارم، لأنّ الضحية هنا تصبح عاجزة عن مواصلة حياتها إن لم تسامح نفسها أوّلاً".
5- افهمي الشخص الذي أساء إليك:
أحياناً، يكون على الضحية أن تتعلّم كيف تكره حتى لا تتعذب بدلاً من جلادها الذي سبب لها الأذى. وفي هذا السياق، تقول المتخصصة النفسية غابرييل روبان: "إن مرضانا، أي الضحايا، هم الأبرياء الذين يعانون ثقل الشعور بالذنب. أمّا الجلادون، فإنّهم غالباً ما يكونون بخير". اعلمي أنّ الكره قد يكون مفيداً أحياناً، لكن يجب التخلص منه كيفما كان الوضع، لأنّ الكره، إذا استمر بداخلك، قد يدمرك. ولكي تتخلصي من هذا الإحساس، ضعي نفسك مكان الشخص الذي أساء إليك، إنّ هذا يجعلك ترين الجرم الذي ارتكبه في حقك بعين أخرى، وقد تنظرين إليه إلى حدٍ ما على أنّه مقبول، أو على الأقل سيبدو لك أقل مأساوية مما ترينه أنت من موقع الضحية. إن وضعت نفسك مكان الذي أساء إليك، فسوف ترين دوافعه إلى ما ارتكبه، ليس بغرض أن تسامحيه، لكن بغرض أن تعرفي أنّ له هو أيضاً نقاط ضعف.
6- استغرقي ما يلزمك من الوقت:
أن تسامحي من أساء إليك، أمر لا يمكن أن تحققيه بجرة قلم، ولا أن تضغطي على زر فتسامحي. إن المسامحة، أو العفو الذي يتم بسرعة وفي عجلة، لا يريح أحداً، لا الضحية ولا المذنب. لهذا، ينصحنا المتخصصون النفسيون بالتريث قليلاً قبل اتّخاذ قرار العفو والمسامحة، حيث تقول المتخصصة نيكول فابر: "يجب أن نترك بعض الوقت يمر قبل أن نعلن سماحنا للطرف الآخر وذلك حتى نكون مقنعين أكثر".
ومن جهة أخرى، قد يكون العفو السريع مجرّد وهم تتوهمه الضحية، التي تعتقد أنّها نسيت وسامحت، لكن الحقيقة غير ذلك، وهذا أمر خطير، إذ يمكن بعد وهلة، أن تنقلب هذه المسامحة السريعة على الضحية وتعود عليها بالأذى وليس بالراحة، لأنّها لم تفكِّر جيِّداً قبل أن تتخذ قرارها بالمسامحة فتجد أنّها أعلنت السماح وهي لا تزال تشعر بالضغينة والكره تجاه المذنب الذي سامحته.
7- أمسكي بزمام حياتك من جديد:
كيف تعرفين ما إن كنت قد سامحت حقا أم لا؟ تقول المتخصصة النفسية غابرييل روبان: "تكونين قد سامحت حقاً عندما يختفي من صدرك كل شعور بالذنب حول كلُّ ما مضى". وتضيف: "العلامة الأخرى على أنّك سامحت، هي أن تمري إلى مرحلة الفعل وأن تعودي إلى ممارسة حياتك الطبيعية بشكل عادي". وتفسر نيكول فابر ذلك بالإشارة إلى أنّ "المسامحة هي فعل تحريري، يحرِّر الضحية من الألم ويعطيها الشجاعة لمواجهة الحياة من جديد، وأن تكون هي الفاعلة في حياتها وألا تقبل أن يعتدي عليها الآخرون. لهذا، فإنّ الضحية بعد السماح الحقيقي قد تعود أقوى من السابق".
ساحة النقاش