الناس مختلفون فيما أدركوه اختلافاً بيناً، وهذا شيء تراه بأم عينك، فليس من ترف من الرجال ولا النساء سواء فيما لديهم من المال والجـاه والجمال والأخلاق وغير ذلك، وتلك مساحات شاسعة والاختلاف فيها كبير وتراه رأي الحين غير أن هناك مساحات شاسعة أخرى يختلف الناس فيها اختلافاً كبيراً لا يرى. تلك هي ميادين الهموم والأحلام، فإن بعض الناس لا تتعدى همومه مشاكله الشخصية ولا يتجاوز نظره أرنبة أنفه، ولا يحلم إلا بتراب إلى تراب- أكرمكم الله- تأسى له لما يعتريه من الهم الزؤام الذي يكاد يجتث قلبه وقد حرمه لذيذ الطعام ووثير الفراش، وفتح للشيطان عليه كل باب، فإذا نظرت في همومه وجدتها لا تتعدى سيارته ومنزله وزوجة ثانية يريدها لنفسه، فقد غاظته تلك السيارة وضاق به ذلك المنزل ورغب في زواج آخر كفلان وفلان، ولم يزل يستجلب أنواعاً من الهموم كهذه حتى ملأت عليه حياته وأغلقت دونه مسالك النجاة فتيقن أنه أتعس الناس وليس بين أهل الدنيا أحد أعظم منه هماً، ولا البأس منه-عيشاً، فلم يهنأ له عيش ولم يهدأ له بال وهذا خطير عليه كما ترى، ولكن بعده ما هو أخطر منه إذ قد يفضي به ذلك إلى التسخط من أقدار الله والضيق بما قسم الله له، فيكون أول نتائجه الوساوس والهموم والأمراض النفسية المستعصية وآخرها زعزعة الرضا بالقدر وإنكار ما عنده من نعم الله الكثيرة.
هموم دونية دنيوية ترابية تفسد على المرء دينه ودنياه، فتضيء عليه كل واسع، وتقبح له كل جميل، ولئن صدقتك قلت إني أكون بين مطرقتها وسندانها غير مرة فحسبي الله ونعم الوكيل، ولا يكاد أحد يسلم منها، ولكن المسلم الحصيف إذا استعان بالله عليها فلم تبلغ به ذلك الحد الذي ذكرت آنفاً، فإنها تكون عليه نعمة إذ تصبح من مكفرات ذنوبه كما ثبت في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أصاب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
كل تلك الهموم وما إليها إنما تزيد المرء غيظاً على غيظه وقهراً على قهره، ولا تنفعه شيئاً، ولذا أوصى الناصح الأمين صلوات الله وسلامه عليه أن ينظر المرء في أمور الدنيا إلى من دونه ولا ينظر إلى من فوقه وليست هذه تهدئة بالخداع وحاشاه من ذلك، بل نصيحة مشفق ومنهج حياة يرتاح بها الإنسان كل راحة ويسلم من نكران نعم الله التي عليه كما قال عليه الصلاة والسلام ( فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم).
وليس من شك أننا حين نحاول دفع تلك الهموم ومنعها من الورود على النفس فلا نعني جعل الإنسان خالياً من كل هم سليماً من كل خاطرة، وأنى لأحد ذلك وفي النفس مساحات لا بد أن تملأ؟!! وحول المرء قضايا ومشاكل لا يستطيع دفع ذكرها عن نفسه ولا يمكنه إلا أن يفكر فيها؟! فكيف السبيل إلى ما نريد؟! وكيف الخلوص من هموم وخواطر تكاد تعصف بالإنسان فضلاً عن تطويرها كما في العنوان؟!
إنك تستطيع يا أخي الحبيب- بفضل الله جل وعلا- أن تنقل همومك وأحلامك من أبواب القهر إلى أبواب الأجر، وهذه الرحلة هي عين ما أريد منك حين قلت في العنوان ((طور أحلامك))، وإني أتمنى على كل مسلم واثق بالله متوكل عليه يعلم يقينا أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه وأن أهل الأرض لو اجتمعوا على أن ينفعوه لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولو اجتمعوا على أن يضروه لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه أتمنى على هذا المسلم الواثق المتوكل أن يتشاغل عن هموهه وأحلامه التي تدخل عليه من باب القهر وتفتح عليه آلافاً من أبواب القهر ويستبدل بها هموماً وأحلاماً تدخل من باب الأجر وتفتح له آلافا من أبواب الأجر، فإن قلت كيف ذلك؟
قلت لك: بدل أن تفكر فيما تريد من دنياك فتنشغل بذلك، فكر فيما يريده الله منك ومن عباده جميعاً واشتغل بذلك، فكر في تقصيرك في جنب الله وتفريطك في الاستعداد مع سرعة تقضي الأيام ودنو الأجل، كن مهموماً لأنك لا تحافظ على التكبيرة الأولى، وكن ضائق الصدر لأنك لا تقوم الليل، وأصبـح مشغولاً بحاضر المسلمين ومستقبلهم ومن لهذا الدين أن ينصره، كن مغيظاً لما ترى من مكر أعداء الله وخفاء دسائسهم ومؤامراتهم وصريح أقوالهم ومؤتمراتهم، كن محزوناً لما ترى من تخاذل المسلمين وغفلتهم وبعدهم عما يريده الله منهم، كن مشغولاً لأنك لم تبر والديك ولم تحسن صحبتهما؟! وكن حزيناً لأن أطفالك يؤمن لهم ما يشتهون من الطعام واللباس وفي المقابل كم تعرف ولا تعرف من أطفال المسلمين الذين لا يجدون ما يكفيهم، بل ولا من يواسيهم عند فقد كفايتهم.
كم من الأمثلة مثل هذه! وجماع ذلك أن تطور أحلامك وتنقل همومك من أبواب القهر إلى أبواب الأجر، وأنت أعرف بما أنت فيه،فلا أراك- رعاك الله- مهموماً لحطام الدنيا، مغيظاً لمتاع فان، وليس في همومك المتراكمة مفحص قطاة لهم ترجوه عند ربك وتبتغي به وجه الله.
ترى كم من المسلمين يتمنى ألا تفوته صلاة الصبح مثلا؟! أو أن يكون عبداً صالحاً مرضياً عند ربه؟! إنك ستجد كثيـراً لا يفكرون في هذا مجرد تفكير ليس لأنهم لا يتمنون شيئاً، بل هم يتمنون كل شيء ولكن من حطام الدنيا الزائل !
لقد صح عند مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه) فبلغ أهل الهموم الدنيوية والأحلام المنحطة بتلك الأنواع من الأماني لعلهم يتقون قبل أن تستحكم عليهم همومهم وأحلامهم فيتمنوا الموت قهراً مما يرون أو يفعلون بأنفسهم انتحار، ولسان حالهم يقول: كفى بك داء أن ترى الموت شافياً وحسب المنايا أن يكن أماني.
إن تلك النفوس هي السالمة من القلق والأمراض النفسية وهي المتنعمة بهومها وأحلامها، ومن لم يكن كذلك فحري ألا يدرك ذلك .
ساحة النقاش