عندما يعم المنزل السكوت وتختفي الكلمات والحروف ويحيط أحد الزوجين أو كليهما نفسه بأسطوانة زجاجية كاتمة للصوت، تمنعه من أن يسمع مَن حوله أو يصل كلامه لمن حوله، يدب الملل في المنزل ويتسرب الضيق إلى النفوس، وتبدأ رحلة البحث عن البديل بشتى أشكاله خارج المنزل، وتبدأ مأساة أسرة مع إنطلاق شرارة للحرب الباردة بين قطبيها.
قد يكون السكوت علامة للتفكير أو التعبد أو التأمّل أو في البحث عن حكمة ضائعة، ولكنّه يكون في أبشع صوره عندما يستعمل كعقاب أو وسيلة لأن تستمر الحياة، عندما يرغب السجّان أن يضاعف عقاب السجين يضعه في الحبس الإنفرادي ويحكم عليه بعدم التفاعل مع مَن حوله.
السكوت هنا نعني به الصمت الذي قد يسكله البعض رغبة في السيطرة على مَن أمامه ودفعه للقيام بما يريد، ويمكن تفسيره على أنّه نوع من سحب القبول ممن أمامك، وهو مخيف للكثيرين؛ لأنّه تعبير عن عدم قبولك لمن تمارِس ضده هذا الصمت، وهو دليل على أنّك أغلقت أبواب قلبك أمامه وأنّك ترفض التعامل معه بل ترفض وجوده.
من يستخدم الصمت كعقاب يتعامل مع الطرف الواقع عليه العقاب كأنّه إنسان غير مرئي ولا يتفاعل معه، أو قد يتفاعل بدرجة ضعيفة جدّاً، ومن يمارس هذا النوع من العقاب دائماً في حياته يكون هدفه أن تصل رسالته التي يكون مضمونها "إنّك قمت بعمل أزعجني وعليك أن تدفع الثمن، فلقد حرّمتك من حبي وتقديري"، وفي الحقيقة أنّه لم يحرمه حبه، فالحب عاطفة غير مشروطة، ولكنّه حرمه شعوره بأنّه يتقبل وجوده حوله، وهذا النوع من العقاب إن كان يؤتي ثماره في البداية، ولكنه مع الوقت يصبح له أثر عكسي، وتصبح نتائجه غير مرغوب فيها.
- الصمت كعقاب:
الصمت في موقف العقاب علامة على الرفض، وعندما يشعر الشخص أنّه مرفوض من الطرف الآخر, أو أنّه تم طرده معنوياً؛ فهذا الشعور يتحوّل إلى ألم؛ لأنّه يهاجم موقع الإحساس بالألم في الدماغ، وبعبارة أخرى عندما تتجاهل وجود شخص معيّن في حياتك، فأنت تسبّب له الألم بالرغم من عدم تعرضه لأي إيذاء جسدي.
قد يتحوّل هذا النوع من العقاب إلى تصرّف مدمر وخاصّة للعلاقات الإنسانية، فمثلاً إذا مارسه أحد الزوجين على الآخر؛ فسيشعر بالمرارة في داخله، وقد يعتبره نوعاً من العنف والإيذاء العاطفي.
وهنا، علينا ألا نخلط بين نوعين من الصمت، فهناك نوع من الصمت يستخدم لفترة قصيرة، ويكون بسبب الرغبة في تهدئه الأمور والنظر بروية للمشكلة، وهذا تصرف جيِّد، أمّا النوع الآخر من الصمت فهو الذي نلغي فيه وجود الطرف الآخر في حياتنا، والذي يستخدم كنوع من العقاب.
فأيهما أفضل في نظرك إذا ما وقع خلاف ما بين الزوجين، هل ترتفع درجة حرارة النقاش، ثمّ يأخذ كلا الطرفين فترة صمت للتفكير، ثمّ يعاودا الكرّة في البحث عن طريقة للخروج من المشكلة، أم أن يلتزم أحد الطرفين الصمت العقابي ويلغي وجود الطرف الآخر، وتظل المشكلة دون حل إلى أن يحدث الإنفجار الكبير؟ بالتأكيد، السيناريو الأوّل هو ما نرغب به.
ولقد وجد الباحثون أن من يلجأ لهذا النوع من العقاب هو الشخص الأقل إهتماماً بمصير أسرته.
قد يسبّب هذا النوع من العقاب لبعض الناس شعوراً بالضياع وعدم الإنتماء وضعف الثقة بالنفس وعدم الشعور بالأهمية، وقد تتراوح درجة تلك المشاعر من شخص لآخر.
كثيراً ما تكون البداية سبباً بسيطاً قد نصفه بالسبب التافه، وكثيراً إذا ما سألت الأَزواج المتخاصمين عن شعلة البداية لخلافهم قد لا يتذكّرون، وإن تذكروا لاستغربوا من تفاهة السبب الذي أوصلهم لهذه الدرجة من الخلاف.
يبدأ الصمت في العلاقة الزوجية عندما يظن كل طرف أنّه هو الذي على حق، وكلّما تمسك الطرفان كل برأيه زادت فترة الصمت بينهما، والغريب في الأمر أنّه كلّما كان الزوجان على درجة من الثقافة زاد الشقاق، فكلاهما واثق من رأيه، وكلاهما متمسك بأنّه على حق.
- وهنا، علينا أن نوضح نقطة مهمة؛ فعندما تمس الأمور علاقاتنا الأسرية والزوجية علينا أحياناً أن نختار ما بين كوننا على حق، أو راحتنا وسعادتنا الزوجية، ففي طبيعة عمل الطبيب والقاضي الحق مسألة مصيرية وفاصل بين النجاح والفشل، فمثلاً عندما يصف الطبيب العلاج المناسب تكون المسألة فاصلة بين الحياة أو الموت، أمّا المشاعر بين الطبيب ومريضه تأتي في المرتبة الثانية، فكون الطبيب على حق هي النقطة المهمة هنا.
- أمّا في الحياة الزوجية، مَن مِن الطرفين على حق لا يعني شيئاً أمام محافظتنا على العلاقة وقوتها، فأحياناً كثيرة يكون علينا الإختيار بين كوننا على حق، وكوننا نريد أن تستمر علاقتنا الزوجية بنجاح، وأحياناً قد يسبّب تصميم أحد الطرفين أنّه على حق التعاسة للجميع، والنصيحة هنا أنّ الكثير من الأمور والخلافات الأسرية والزوجية تحل بالحب وليس بالمكابرة، وقد تنجح بالذكاء العاطفي أكثر من نجاحها بالذكاء العقلي (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم/ 21).
- كيف نتعامل مع الصمت؟
كثيراً ما يلجأ أحد الزوجين للصمت لحل مشكلة الصمت عند الطرف الآخر، فلا يشتكي أو يبدي أي إعتراض أو ينشد المساعدة من الآخرين وخاصّة المختصين، كونه يشعر أنّه هو فقط مَن يعاني من مثل تلك المشكلة، إنّه هو فقط من يعاني من زواج غير مثالي، وفي الحقيقة التي لا يعرفها البعض أنّ الزواج خليط من الأمور المثالية والأمور الغير مثالية والأمور المختلفة الأخرى، وما يجب أن نفعله عندما تسوء الأمور في حياتنا الزوجية هو ما سننهي موضوعنا معه:
- تعلّم كيف تنجح مشروعك الزواجي: كثيرة هي الدورات التي ينتسب لها الكثيرون من أجل تعلّم العمل على الحاسب الآلي أو ممارسة رياضة معيّنة أو تعلّم مهارة، ولكن عندما يأتي الأمر إلى الحياة الزوجية وخاصّة تلك التي تحتاج إلى بعض الإصلاح؛ نجد أنّ الكثير يتكاسل عن البحث عن المعلومة المفيدة والإستشارة العملية من أجل إصلاح حياته الزوجية، تلك العلومة أصبحت متوافرة بشكل كبير عن طريق الدورات أو البرامج الأسرية والثقافية في التلفاز أو في الكتب أو المجلّات المتخصّصة.
- تعلّم الذكاء العاطفي: فهذا النوع من التفكير يدعم قدرتك على الإتّصال بالآخرين والنجاح في علاقاتك معهم، وهذا النوع من التفكير أصبحت له كتب ودورات ومؤتمرات تقام من أجله، وأصبح من السهل تعلمه وممارسته.
- لا تسمح بعقاب الصمت أن تنجح بإيذائك: إذا ما شعرت يوماً أن مَن أمامك كثيراً ما يدفعك للتفكير أنّك دائماً على خطأ وأنّك تشعر بالوحدة والخوف والقلق جراء صمته؛ فاعلم أنّك واقع تحت تأثير العقاب بشكل كبير، وأنّك أنت مَن ألغيت نفسك وجعلت الطرف الآخر هو المسؤول والمسيطر عليك.
وهنا، أن تتحمّل مسؤولية مشاعرك وتتعامل مع نفسك بحب وتقدير، وهذا الحب والتقدير سيجعلك تنظر لنفسك بشكل مختلف وتتعامل مع الأمور بطريقة أخرى، وتعلّم أنك لست مسؤولاً عن تعامل مَن أمامك مع مشاعره وما سبّب له الضيق، وكما أن هذا التقدير للذات سيجعلك تشعر أنّك شخص ليس بهذا السوء الذي يحاول مَن أمامك إقناعك به وأنك تستحق الحب والتقدير.
كما عليك أن تتصرّف في فترات الصمت بحكمة، فتقوّي إيمانك لتسد أمام الشيطان كل الأبواب التي يمكن أن يدخل لك منها، وتحاول الخروج من آثار الموقف؛ كأن تقرأ كتاباً أو تتّصل بصديق أو تقوم بأي عمل يشعرك بالسعادة.
لا تعاقب مَن أمامك بالصمت كما عاقبك هو، بل اجعل دائماً خطوط العودة مفتوحة، حتى إذا ما قرّر العودة فلا تكون هناك رواسب للماضي في داخلك، وأنت بذلك لا تعطي لعقابه فرصة للنجاح.
وحقيقة لابدّ من إدراكها، أنّه إذا ما أحببنا أنفسنا بالطريقة السليمة وقدرناها سيتوقف الآخرون عن عقابنا بالصمت، وأن الحب وتقبّل الطرف الآخر والمودّة والرحمة من الأمور التي يجب ألا يُتلاعب بها، فتمنح مرة وتأخذ مرّة أخرى، لأنّ المشاعر الإنسانية أرفع من أن نستغلها لنؤذّي مَن حولنا.
ساحة النقاش