إنّ تزامن مرحلة النشء مع ظاهرة "البلوغ" يجعل هذه المرحلة من أكثر الفترات أهمية وحساسية في حياة الإنسان.
تعتبر مرحلة النشء من أصعب مراحل حياة الإنسان من الناحية التربوية فهي تتضمن فترة عمرية من 12-18 سنة، وفي هذه المرحلة تظهر أكثر المشاكل التربوية، وغالباً ما يتحدد فيها مصير الأبناء فأمّا ان يضيعوا، وأما أن يخطوا على طريق السعادة.
إنّ هذه المرحلة، هي مرحلة إنتقال من حياة الطفولة إلى مرحلة الشباب والإدراك وما بعدها. ويكون الناشىء قد انتقل من إرتباطات فترة الطفولة من جهة، ومن جهة أخرى تنشأ عنده حالات الإضطراب الفكري والضعف النفسي، والقلق وأحياناً التشويش والغموض، حيث تسلب منه الإستقرار النفسي.
ففي هذه المرحلة ينتهي الإستقرار الذي كان يتمتع به الطفل في مرحلة الطفولة – وذلك بسبب جهل الطفل بكثير من مسائل الحياة – فالطفل يحصل على الإستقرار لأنّه يعتمد كلياً على الأفراد المحيطين به، والذين يحتمي بظل رعايتهم، غير أن ظهور النمو الفكري، ويقظة بواعث الطاقة الفطرية عند الناشىء تقلل من الإستقرار في هذه المرحلة إلى حد كبير.
- حساسية فترة البلوغ:
إنّ تزامن مرحلة النشء مع ظاهرة "البلوغ" يجعل هذه المرحلة من أكثر الفترات أهمية وحسّاسية في حياة الإنسان، فالبلوغ كالزلزال الأرضي في شدته، يحدث هزات عنيفة وشاملة في شخصية الناشىء، تحرك وتخرج كل مكامن شخصيته، وتجعله يواجه واقعاً جديداً ومجهولاً، وكأنّ التصور، وتوجهه إلى العالم الباطني، فيصبح في تردد من الأمور التي كان بالأمس لا يشك فيها، ويحاول أن يعيد النظر في أفكاره ومعتقداته، ويبحث عن نظام فكري جديد يحل قضاياه الجديدة ويجيب على أسئلته.
وبقليل من الدقة يمكن إدراك ما في أعماق الناشىء من طوفان هائج، فمن جهة يجره تحرك الغرائز والعواطف في كل لحظة إلى طرف، ومن جهة أخرى، يتزعزع إستقراره النفسي، بحيث أن أنواع الشكوك والتردد التي تتولد عنده تجعله يواجه الحيرة في إتخاذ القرار. وفي خضم هذا الواقع، يعتبر الغموض والضياع من أكثر الأمور التي يعانيها الناشىء، لأنّه للمرّة الأولى يجرب وضعاً كهذا، بينما لا يجد في نفسه القدرة اللازمة لمواجهة هذا الصراع الداخلي، وعلاوة على ذلك، أنّه قلق بالنسبة إلى مستقبله، حيث لا يعرف ماذا سيكون مصيره، وهذا القلق من المستقبل يزيد من ضغوطه النفسية أيضاً. وبسبب ذلك يفقد الناشىء إتزانه الشخصي، وينفعل ويضطرب من أبسط الأمور، وكأنّ الضغوط النفسية المستمرة تقلل من قواه الروحية وتجعله منكسراً أو حساساً جدّاً. كما أنّ ميوله العاطفية غير ثابتة على وتيرة واحدة، فيشعر بالسعادة والسرور، وبسرعة يسيطر عليه الهم والحزن، وهكذا يمكن أن نجد عنده خلال فترة قصيرة حالات متضادة، أي لا يتعامل بحالة ثابتة، وبسرعة يفقد إتزانه وتعادله. فهو قلق من تصور الآخرين حول شخصيته، لاسيما مقربيه وأقرانه، كما أن تصرفاتهم وتعاملهم معه يغير بسهولة من وضعه النفسي.
إنّ هذه التغيُّرات المستمرة، التي تكون أحياناً عميقة، تجعله متعباً ومعذباً، وتسلبه الصبر والتحمل، وكأنّه لا يملك الطاقة لتحمل كل هذه الضغوط. ونتيجة لذلك، فإنّه يرى في إثارة أبسط خلاف معه فرصة لإفراغ عقد نفسيته المتعبة.
في هذه المرحلة، يكون الصراع جدياً بين الميول الغريزية للناشىء من جهة، وبين تطلعاته نحو السمو والرفعة من جهة أخرى، ففي بعض الأحيان ينساق مع أهوائه، وفي أحيان أخرى، يميل نحو القيم المعنوية، ويتذوق بقلبه الطاهر اللذة المعنوية لتساميه، بينما يشعر بالحقارة والغم والندامة والذنب، حينما تغلبه أهواؤه ويستجيب لغرائزه، كأنّه جازع من نفسه، ويؤنبه ضميره، وهذا الشعور يتكرر عنده بإستمرار.
وفي بعض الأحيان يشعر الناشىء بالحقارة والضعف، ويظن انّه غير قادر على إصلاح نفسه والسيطرة عليها، وهذا الإحساس يبعث في نفسه القلق.
ومع التغيرات التي تحصل خلال البلوغ، تتوسع معلومات الناشىء ويهتم بنفسه بصورة أكثر، ولهذا السبب يصبح أكثر حساسية وتأثراً للتصرفات والأفعال التي ترتبط به، كما يتخلى عن حالة اللامبالاة وعدم الإهتمام التي كان يتعامل بها في مرحلة الطفولة، وأن بروز ظاهرة إهتمام الناشىء بنفسه مع نمو الغرائز، يزيد من حبه لذاته، كما ويهيء في نفسه أرضية الغرور.
تستغرق التغييرات الحاصلة في مرحلة البلوغ، والمتزامنة مع التحولات العاطفية الحادة والنمو السريع لجسم الناشىء مدة بحدود ثلاث سنوات، تكون في الذكور من 13-16 سنة، وفي الإناث أقل من ذلك بسنة أو سنتين. ويعتبر هذا المقطع من عمر الإنسان أكثر المقاطع صعوبة وتأزماً، ويحتاج الناشىء فيه إلى طاقة أكثر بسبب سرعة النمو، ويتطلب رعاية ومراقبة أكثر حتى يستطيع إجتياز هذه المرحلة الخطرة بسلام.
- شكايات الناشئة:
ما احصيناه من خصوصيات مرحلة المراهقة، رغم انّه يعتبر شيئاً قليلاً من خصائص تلك المرحلة، الا أنّه يشير إلى مقدار الضغوط التي يواجهها المراهق والناشىء، فالمحللون النفسيون يعرّفون هذه المرحلة بمرحلة "العاصفة والضغوط" و"الثورة والتمرد".. وأمثالها، وكلها تشير إلى الظروف الحسّاسة التي يعيشها الناشىء في تلك الفترة، والشيء المهم هنا هو ضرورة معرفة المشرفين على الناشئين، خصوصاً الآباء والأُمّهات، العوامل الداخلية للناشئين، لكي يتمكنوا من مساعدتهم وأهم مسألة في هذا المجال، هي المعرفة بأساليب التعامل مع الناشئة. وعادة يشكو هؤلاء من عدم تفهم آبائهم وأُمّهاتهم لهم، وعدم معرفتهم المشاكل التي يتعرضون لها، والعبارات من قبيل: انّهم لا يحسبون لنا أي حساب، لا يعيرون إهتماماً لآرائنا ولمتطلباتنا، انّهم غرباء عنّا لا يفهموننا، و... وعبارات أخرى كثيرة مماثلة يمكن أن يسمعها الذي يحتك بهمومهم ومعاناتهم، كأنّهم يشعرون بأنّ الكبار غرباء عن العالم الداخلي الذي يعيشونه، وليست هناك لغة مشتركة بينهم وبين والديهم.
وغالباً ما يظنون بأنّ الكبار ينظرون إليهم نظرة "الأطفال". ولم يصدقوا لحد الآن بأنّهم أصبحوا كباراً وقادرين على التفكير وإتّخاذ القرار كالكبار، وهذا التصور يعذبهم بشدة ويضعف إرتباطهم بوالديهم، وبالطبع يجب أن لا ننسى انّه لا يوجد واقع حقيقي لكثير من تلك التصورات، لأنّ هذه المرحلة هي مرحلة نسج التخيلات أو "أحلام اليقظة" أيضاً، والناشىء كثيراً ما يخلق لنفسه أموراً بمساعدة خياله، وينميها بحيث يتصور انّها حقيقة، ولكن بأي حال فإن أرضية هذه التصورات موجودة.
- شكايات الآباء والأُمّهات:
من جهة أخرى، انّ الآباء والأُمّهات توجد لديهم أيضاً شكايات مماثلة على أبنائهم، فهم يقولون يتغير إبننا بصورة كلية بعد إتمامه مرحلة الإبتدائية، لا يسير على الطريق السوي، مهما نبدي له من محبة وعطف فإنّها لا تؤثر، يخالف، ودائماً يتعامل بخشونة وحدّة مع إخوانه الصغار، لا يطيع ولا يسمع الكلام، يضعف إرتباطه بالأسرة كثيراً، ينطوي على نفسه ولا ينسجم مع أحد، لا يؤدي واجباته المدرسية بصورة جيِّدة، وهبط مستواه الدراسي بشكل ملموس، وأصبح كثير الخصومة والعراك، مستبد برأيه، و...
- أهمية توطيد العلاقة بين الآباء والأبناء:
هذه الشكاوى من الوالدين والأبناء تشير إلى وجود مشاكل جدية في علاقاتهما، حيث تأخذ هذه المشاكل أبعاداً واسعة في المجتمعات الغربية.
يجب أن نلتفت إلى ملاحظة وهي انّ هذه المرحلة يمكن أن نطلق عليها مرحلة "قلة سيطرة الأسرة"، فالقدرة والسيطرة التي كانت تمتلكها الأُسرة في مرحلة الطفولة على الأبناء، وكذلك طاعة الأطفال وامتثالهم لتوجيهات الأُسرة، تقل تدريجياً في مرحلة المراهقة، ولهذا عندما يتصرف أو يتعامل الآباء والأُمّهات مع أبنائهم في هذه المرحلة، بنفس الطريقة التي كانوا يتعاملون بها معه في مرحلة الطفولة، عليهم أن لا يتوقعوا الموفقية والنجاح، بعبارة أخرى، عليهم أن يقبلوا بأن إبنهم قد انهى مرحلة الطفولة "التي هي مرحلة الإرتباط، والطاعة، وعدم الإطلاع" ودخل مرحلة جديدة من حياته، ولهذا السبب ومن أجل توطيد العلاقة معهم يجب عليهم التعامل بأساليب مناسبة لهذه المرحلة، وإذا لم يستطع الوالدان بناء علاقة فكرية وعاطفية مع إبنهم الناشىء، فإنهما سوف لن يوفقا في تربيته وهدايته قطعاً، يعني ذلك أن أصل المسألة هو توطيد هذه العلاقة وذلك أيضاً مرهون بمعرفة الأسرار التي إذا لم يعرفها الأب والأُم أو المربى لا يستطيعون النفوذ إلى عالم الناشىء، ولا يقيمون معه علاقة فكرية وروحية، وبعد توطيد هذه العلاقة، يمكن أن يلعب الأب والأُم دوراً أفضل في الإرشاد والتربية، أمّا إذا لم تتوطد مثل هذه العلاقة فإن مساعيهما لن تصل إلى النتيجة المطلوبة، بل قد تعطي في بعض الأحيان نتيجة معكوسة.
وللأسف ان أُسراً كثيراً، بسبب عدم إهتمامها أو جهلها بأساليب توطيد العلاقة مع أولادها الناشئين، لا تتمكن من بناء علاقة معهم، ويمكن أن تفقدهم بسهولة، وبما أنّ الناشىء في هذه الفترة يحتاج إلى الصحبة، والتوجيه، والحماية، والمراقبة أكثر من أي وقت آخر، فإن إنقطاع العلاقة الروحية بالنسبة إليه يكلفه ثمناً باهظاً، فالبعض من هؤلاء ينساقون تدريجياً منذ البداية نحو طريق الهلاك ويقطعون رابطتهم السليمة بالحياة، ويجب أن لا نغض النظر من تأثير العوامل المحيطة في ضلال الناشئة، امّا النقطة التي لا يمكن أن ننساها هي أنّ الأسرة تعتبر الحامي الأكبر والملجأ الأوّل للناشئة في هذه المرحلة الصعبة، وإذا لم تتمكن الأسرة من تأدية وظيفتها بصورة صحيحة، يخرج الأبناء من دائرة جذب الأسرة، ويصبحون عرضة لجذب واستقطاب العوامل المحيطة بهم، وغالباً ما يسلكون طريق الإنحراف بسهولة.
ولكن عندما يرتبط الأبناء بالوضع الأسري بروابط متينة، وينجذبون نحو جو أُسرهم، حيث الدفء والوئام، فإنّهم يظلون في أمان من كثير من الآفات.
ساحة النقاش