كيف يمكن أن تصوغ الأسر أبناءها صياغة تتناسب مع أهداف التربية الشاملة بينما تعتمد التربية التي يتلقاها الفرد على تحييد عقله عن التفكير في المهمات التي يطالب بتنفيذها، إلى جانب تنحية لغة الحوار وتبادل الآراء، والتخلي عن تكوين قناعات داخلية في نفسية الأبناء للأوامر والتوجيهات التي تصدر من الأبوين.
ولأن المقدمات الخطأ تؤدي بطبيعتها إلى نتائج خطأ، فإنه من غير الممكن أن يؤدي العقم في الأساليب التربوية والعجز عن تنشيط خلايا التفكير لدى الناشئة إلى تكوين شخصيات تثق بنفسها، وتجيد الدفاع عن قناعاتها حتى الرمق الأخير.
الغريب أن الأسر التي تعتمد مفهوم الطاعة العمياء كإحدى الوسائل التربوية التي تثق بها يغيب عنها أنها تهزم بتلك الوسيلة الضعيفة الأبناء من الداخل، وتعودهم على تعطيل ملكاتهم الفطرية في الإجابة عن مختلف الأسئلة التي يبحث لها العقل عن إجابة شافية، كما تصيبهم بحالة من عدم المبالاة في معرفة ماهية الأفكار التي يتداولها الناس ومدى صلاحيتها للقبول والتطبيق.
إن واقع الأسرة الذي لا يفتح مجالا للحوار والأخذ والرد سيؤدي إلى حرمان الأبناء من وجود بيئة إيجابية واعدة تحفزهم على التفاعل الأفكار المختلفة، وتدربهم على ممارسة البحث عن أرضية مشتركة في الحوار كما تعودهم على احترام الرأي الآخر، والوقوف بجانب الحق دون أن يكون للنفس أو الحظوظ الشخصية مكان.
إن الشيئ المتوقع حدوثه هو ألا يعتني أفراد هذه الأسرة بالمنهجية في التفكير، أو بمناقشة أفكارهم وآرائهم الخاصة ناهيك عن القبول بسماع الرأي الآخر، وإفساح المجال له ليدلي بما لديه.
فمثل هؤلاء الأفراد تتخفض قدرتهم على استيعاب المخالفين لهم في التوجيهات والاهتمامات، وتتميز لغتهم بالصرامة والحدة في التعامل مع الناس. والسبب خلو الأساليب التربوية التي مورست عليهم في الصغر من اعتماد لغة الحوار المفتوح وتقديم نماذج سلوكية في احترام كافة الأفكار والآراء.
فالأب الذي عاني من الحرمان العاطفي صغيرا يتسم سلوكه العام- في أحيان كثيرة- بالخشونة، من ذلك أن دخوله للبيت يتسبب عادة في إحداث شلل مؤقت في نشاط أبنائه فالمستلقي على الأريكة يجلس بمجرد سماع صوت سيارة الأب، والذي يلعب يكف عن اللعب ويبحث عن مكان هادئ لينزوي فيه ويلجأ للصمت غير الجميل حتى يغادر أبوه المكان!! ومن كان يتحدث في الهاتف يقرر إنهاء مكالمته فور رؤيته له، ومن كان يمارس هواية ما فإنه يستبدل تلك الهواية بكتاب مدرسي يخطفه على عجل من حقيبة المدرسة ليظهر للوالد أنه ممتثل للقوانين الداخلية التي أصدرها!!
والسؤال الذي يفرض نفسه: أو تخرج مثل هذه التربية المتعسفة العظماء والقادة والشخصيات الطموحة المتحفزة للنجاح، والمتهيئة لدفع الضريبة المطلوبة لتميزها وبلوغ أهدافها؟!
وهل يمكن لقلب احتضن الخوف عشرين عاما أو يزيد أن يحول صاحبه في مرحلة تالية إلى شخص جسور ومقدام؟
إن المقدمات الصحيحة وحدها هي التي تقود إلى النتائج الصحيحة.
وما كان مؤسسا على الهجوم والنقد السلبي واللغة الفوقية المتسيدة فإنه لن ينتج إلا نجاحا وهميا ينهار من الاختبار الأول، ويتلاشى أمام تحديات الحياة.
ساحة النقاش