إبان قيام ثورة الخامس و العشرون من يناير 2011 وانشغال المصريون بأحوال بلدهم و متابعتهم قضايا الفساد التي تظهر و تعاطي المجلس العسكري و الحكومة المؤقتة مها , و متابعتهم أيضا للأحداث فى ليبيا و اليمن و البحرين وسوريا وتأثيرات كل هذه الأحداث على مصر و على المصريين المقيمين فى تلك البلاد. ففي خضم هذه الأحداث المتسارعة و التي لا تعطى من يرقبها فرصة لالتقاط الأنفاس تفاجئنا بورندى في الأول من مارس 2011 بتوقيها على الاتفاقية الإطارية للتعاون الفني لدول حوض النيل و التي تدور حولها الخلافات بين مصر و السودان من جهة وعدد من دول الحوض من الجهة الأخرى. و يقع الخلاف في الاتفاقية بين دول المنبع و دول المصب على بندين هما بند الأمن المائي بمعنى انه لابد من ضمان توارد المياه إلى مصر و السودان بدون تأثير على كمياتها أو جودتها ( عدم تلوثها) أو ميعاد وصولها. وان لا تقل كميات المياه لدولتي المصب عن ما جاء فى اتفاقيتي 1959 , أما البند الآخر فهو يتعلق بالإبلاغ بمعنى إبلاغ مصر و السودان عن أية مشروعات سيتم تنفيذها والتأكد من إنها لن تمثل ضررا على الأمن المائي لدولتي المصب.
و هذان البندان موجودان فى الاتفاقيات التي تناولت مسألة مياه النيل منذ نهاية القرن التاسع عشر (1896 م) وحتى اتفاقية مبادرة حوض النيل (1999م) وكانت بشكل واضح ومركز ومحدد في اتفاقية 1929م وتم التأكيد على ذلك في اتفاقية 1953 م والتي وقعت عند رغبة أوغندا في بناء سد أوين بمدينة جنجا في منطقة منابع النيل و ارتكزت هذه الاتفاقية على مبدأ الإبلاغ كما تمت توقيع اتفاقية عام 1991م بين مصر وأوغندا لتؤكد على احترام الدولتين للاتفاقيات السابقة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن أوغندا وقعت مع مصر الاتفاقية الأخيرة التي تعترف فيها وتؤكد التزامها بالاتفاقيات السابقة بعد حصولها على استقلالها من الاستعمار بمعنى انه لا مجال للاحتجاج بأن الاتفاقيات تم توقيعها من قبل الاستعمار , نفس الأمر ينطبق على إثيوبيا التي وقعت مع مصر إطار تفاهم عام 1993 , يشير إلى احترام إثيوبيا للحقوق التاريخية لمصر فى مياه النيل.
و تكمن تبعات توقيع بورندى على اتفاقية الإطارية لتنمية حوض النيل فى خلق واقعا جديدا وهو التمهيد لدخول الاتفاقية حيز التنفيذ بتوقيع الدولة السادسة فقد سبقها خمس دول هي أثيوبيا, أوغندا, رواندا,تنزانيا, كينيا. وهنا ننتظر فترة للتصديق علي الاتفاقية من برلمانات الدول الست الموقعة , ثم بعد ذلك نرى ما سوف تؤول له الأحداث حيث سيدور جدل وصراع قانوني مرير بين الدول الموقعة من جهة ومصر والسودان من جهة أخرى يبرز لدينا الآن تساؤل وهو أي الاتفاقيات سوف تحكم العلاقة المائية بين دول الحوض؟ هل الاتفاقية الجديدة التي بدأ فتح التوقيع عليها في الرابع عشر من مايو 2010 ؟ أم مجموعة الاتفاقيات التي وقعت على مدار قرن وربع من الزمان بخصوص مياه النيل و ما اشتملت عليه من ضمانات وما تحصنت به من حقوق تاريخية معتبرة من القانون الدولي لدول المصب في مياه النيل بما لا يحق لدول المنبع المساس بها. مثل مبدأ الحقوق التاريخية ومبدأ عدم الإضرار ومبدأ توارث الالتزام بالاتفاقيات الدولية من الدول المستعمرة إلى الدول المتحررة؟ وهنا أود الإشارة إلى عدم وضوح الرؤية حول إمكانية تطبيق الاتفاقية الإطارية موضوع هذا المقال فوفقا للقانون الدولي، إذا قام ثلثا بلدان حوض النيل بالتوقيع على الاتفاقية الإطارية للتعاون الفني بين الدول الأعضاء، فإن ذلك يجعل الاتفاقية كيانا قانونيا، فهل نعتبر ستة دول من عشرة - أو من احد عشر دولة بالنظر إلى انفصال جنوب السودان- تعتبر ثلثي الدول, بالإضافة إلى أنها أي الاتفاقية تحتاج إلى التصديق من برلمانات الدول الموقعة حتى تدخل حيز التنفيذ , وهذا يعطى دولتا المصب فرصة لتحسين وضعهما القانوني في الاتفاقية.
وهنا يبرز دور البيئة المحيطة الحاضنة لهذه الاتفاقيات واقصد هنا العلاقات و التعاون بين دول الحوض وكذا الدول من خارج الإقليم التي لها أجندات تريد تنفيذها في الإقليم وكذا الأسرة الدولية بالكامل وكيفية تعاطيها مع القضية, بالإضافة إلى الإرادة السياسية لدول المنبع ودول المصب و سبل وصور التعاطي بينها في الأزمة الحالية و لا يخفى على احد أن دولتي المصب مصر و السودان تمران بظروف مفصلية خاصة بكلا منهما لوجود تطورات داخلية تتعلق بالثورة في مصر, ومسألة انفصال الجنوب و المشكلات الداخلية الأخرى في السودان. هذه الظروف قد يكون لها تأثير سلبي على مقدرة الدولتين على التعاطي مع المشكلة, وحتى المحيط العربي الذي يفترض أن يكون حاضنا ومساعدا لهما في هذه الظروف, نراه وقد انكفئ على نفسه لتوقع المد الثوري لأغلب أن لم يكن لكل دول المنطقة العربية.
ولكن ما الذي دفع بورندى للتوقيع على اتفاقية الإطار الفني لتعاون دول حوض النيل فى هذا التوقيت تحديدا بعد امتناعها عن التوقيع طوال الفترة الماضية؟ سؤال هام يتبادر إلى الذهن ولو حاولنا الإجابة عليه بالقول انه ربما كانت جهود مصر الدبلوماسية فى الفترة الماضية حالت دون توقيع ثلاث دول منها بورندى التي ربما تكون قد حصلت على وعود مصرية بمساعدات أو تنفيذ مشروعات تنموية على أراضيها لم تحدث ثم بقيام الثورة استشعرت أنها لن تحصل على شيء فكان البديل لديها هو التوقيع, أم أن هناك دولا أخرى من داخل أو خارج الحوض مارست علي بورندى ضغوطا للتوقيع. مثل هذا حدث مع كينيا فى فترة سابقة, اغلب الظن أن الطرحين معا ربما يجيبان على التساؤل لماذا التوقيع البورندى المشعل للازمة. والواضح للعيان أن أكثر الدول النيلية تشددا فى هذا الأمر هي أثيوبيا و أوغندا فالدولتين تبذلان جهودا مارثونية للوصول بالاتفاقية الجديدة إلى حيز التنفيذ ولكن ما الداعي لهذا الموقف؟ هل هو دافع وطني صرف أم تدخلا خارجيا فى الشأن النيلي..... وهنا لنا عدة ملاحظات:
أولا: ودائما وفى كل ما يحيق بمصر من مصاعب ومشكلات علينا البحث عن إسرائيل ومن ورائها أمريكا فهما دوما تبحثان عن مصر الضعيفة المنكفئة على مشكلاتها الداخلية.
ثانيا: أن كل دول المنبع التي وقعت الاتفاقية لا تعانى نقصا فى المياه ومما يؤكد هذا الطرح أن احتياجات هذه الدول من مياه نهر النيل متواضعة بالمقارنة مع الضجيج الذي تحدثه فمثلا أوغندا لا تحتاج أي مياه من النيل أما كينيا وتنزانيا فحاجتهما من مياه النيل هي 2% من إجمالي الاحتياج المائي لهما. فى حين أن إثيوبيا لا يزيد احتياجها من مياه النيل عن 6 % من إجمالي احتياجاتها المائية بينما احتياجها الحقيقي هو إدارة جيدة و مستدامة للمياه. في حين أن بورندى تحتاج من نهر النيل إلى 15%. فضلا عن إن هذه الدول لديها موارد أخري للمياه أهمها الأمطار و انهار أخرى مثل نهر الكنغو أو الزامبيزى و بحيرات خارج الحوض بالإضافة إلى وجود أكثر من عشرة أنهار فى أثيوبيا خلاف نهر النيل. فى حين أن شمال السودان و مصر تعتمدان بشكل شبه كامل علي مياه النيل.
إذن فلماذا كل هذا الضجيج الذي لا ينقطع حول المياه؟..... أن دول حوض النيل فقيرة جدا بالنسبة لمصر وهذه الدول لا تحتاج إلى المياه قدر احتياجها للتنمية , إن هذه الدول حينما تقارن واقعها بمصر ترى أن مصر دولة كبرى و غنية و متقدمة وتعتقد أن الثراء التقدم المصري راجعا إلى مياه النيل التي تنبع من أراضيها متجهة صوب مصر لذلك فدول المنيع ترى أن مصر يجب أن تدفع فاتورة هذا التقدم للدول التي تصدر إليها المياه. و فى الخمسينات و الستينات و السبعينات كانت مصر تفعل ذلك بامتياز فقد ساهمت و بقوة فى حركات التحرر الوطني لهذه الدول و أقامت العديد من المشاريع التنموية على أراضى كل دول حوض نهر النيل وكان هناك تبادل تجارى معها إلا, أن ذلك بدء يقل و ينحسر فى نهاية الثمانينات و التسعينات حتى تضاءل فى الآونة الأخيرة و لم يتبق منه إلا بضعة مشاريع هزيلة كانت تنفذها وزارة الموارد المائية والري المصرية و كذلك إرسال القليل من خبراء الصندوق الفني للتعاون مع أفريقا لهذه الدول, واستقبال بعض المبعوثين من هذه الدول وللأسف لم يتم التركيز إعلاميا على هذه الجهود. كل ذلك دعا دول حوض النيل محاولة تذكير مصر بتقصيرها. بالإضافة إلى أن دولا أخرى من خارج الإقليم بدأت فى التدخل إما بقصد خنق مصر أو بقصد تنفيذ مشاريع زراعية فى بعض هذه الدول وهذه المشاريع حتما تحتاج إلى مياه يتم خصمها بالطبع من حصة مصر و السودان . ومن هذه الدول الاتحاد السوفيتي السابق الذي تحولت مصر عنه إلى أمريكيا فى فترة حكم الرئيس الأسبق أنور السادات فكان الرد السوفيتي على هذا التحول المصري هو محاولة خنق مصر من الجنوب مستخدما علاقاته مع إثيوبيا. أيضا إسرائيل التي تتعاون مع كل دول الحوض لتختلق مشكلات مائية لمصر أو للحصول على مياه النيل, فإسرائيل لديها حلم قديم متجدد بان تروى ظمؤها من مياه النيل وهو أمر معروف منذ نشأت هذا الكيان. ثم دولا أخرى مثل الصين و إيران و ايطاليا وتركيا و الإمارات..... وغيرها تبغي تنفيذ مشروعات زراعية تعود عليها بالنفع بغض النظر عما يترتب على ذلك من ضرر على مصر و السودان. وفى المقابل تستفيد هذه الدول من جزء من عائد المشروعات وربما تشتمل تنفيذ هذه المشروعات بناء سدود للتأمين المياه لهذه المشروعات وكذلك لإنتاج الطاقة الكهربائية وهذا ما تحتاجه دول حوض نهر النيل وبشدة للتحقيق التنمية لديها. وهذه الحالة تتضح جليا وبقوة فى أثيوبيا وهذا تحديدا يشكل اكبر الخطر على مصر الأمر الذي يتوجب على مصر سرعة التعاطي معه وحسمه بالتعاون مع هذه الدول بأقصى سرعة قبل أن تتفاقم الأمور ويتسع الخرق على الراقع. وهذا يقودنا إلى اقتراح الحلول لتحديد خارطة طريق لحل الأزمة:-
أولها: العودة مرة أخرى إلى طاولة المفاوضات بشأن الاتفاقية الإطارية ولكن العودة هذه المرة يجب أن تكون مع كل دولة من دول الحوض بشكل منفرد لان لكل دولة متطلباتها التنموية المختلفة عن الأخرى وتحتاج لتعامل مختلف عن غيرها و التفاوض المنفرد يقوى موقف مصر ويسهل الوصول إلى حلول مقبولة لكلا من الطرفين. ويمكن البناء على ما توصلت إليه لقاءات وفود الدبلوماسية الشعبية المصرية التي زارت أوغندا بعد الثورة و تعقد العزم على زيارة أثيوبيا, ومن المؤكد أن دول حوض النيل سوف تقبل بالمفاوضات لان احتياجات هذه الدول للتنمية اكبر بكثير من احتياجاتها للمياه, فهي تحتاج إلى الطاقة أي تحتاج إلى بناء سدود أو بناء محطات توليد كهرباء, واعتقد أن بناء سدود لديها تحت أعيننا خير من أن يبنى بعيدا عنا, وتجربة بنا سد أوين فى أوغندا تجربة رائعة فقد درست مصر المشروع وتصميمات السد وطلبت ان يتم التنفيذ بشكل لا يسبب ضررا لمصر وترتب على ذلك أن تتحمل مصر تكاليف التعديلات التصميمية فى سد أوين من موازنتها الخاصة , وأيضا قامت مصر ببناء محطات توليد كهرباء فى أوغندا تنتج حاليا 20% من الطاقة الكهربائية فى أوغندا كلها, أليس هذا مثال يجب علينا العمل على تكراره؟.
بعد توقيع بورندى على الاتفاقية أعلنت إثيوبيا عن رغبتها فى بناء أربعة سدود.. لماذا لا نكون طرفا فى تنفيذ السدود الأربعة سواء بالتمويل أو التنفيذ أو تقديم استشارات فنية أي بيت خبرة مشارك بأي شكل حتى نقلل بقدر الإمكان من حجز المياه. وحتى المياه التي سوف تحجز إلا يصح أن نقيم مشروعات زراعية بالقرب من هذه السدود فالمياه التي تحجز عنا فى أثيوبيا نستفيد بها بالزراعة هناك. وأيضا الاستفادة من الميزة النسبية للإنتاج الحيواني فى أثيوبيا وبالتالي إذابة الجليد الذي يغطى علاقتنا بكبرى دول المنبع. من الأهمية بمكان إقامة حوار مع أثيوبيا أنني أطلق على إثيوبيا شريكنا الصامت الذي لم نتفاوض معه أبدا بشأن المياه وربما كان خطأ تاريخيا عدم إشراكها كطرف ثالث فى اتفاقية 1959 بشأن الانتفاع الكامل بمياه النيل. إلا أن مصر قد تداركت ذلك بعض الشيء فى إطار التعاون الذي تم توقيعه فى القاهرة فى الأول من يوليو 1993, وكانت هذه بداية للأسف لم يتم البناء عليها وقد آن الأوان لنبدأ حوارا مع شريكنا الصامت وهو أمر ليس صعبا.
ثانيها: التركيز فى التعاون مع كلا من الكنغو الديمقراطية التي تؤكد وحتى وقت قريب عدم توقيعها على الاتفاقية, وارتريا التي ترفض الاتفاقية بشكل قاطع بالإضافة إلى السودان الشريك الأساسي لمصر فى هذه المعضلة.
ثالثها: أن نوثق روابط التعاون مع السودان الجنوبي فموقف هذه الدولة له أهمية كبرى فلا يجب أن ينضم إلى دول المنبع وذلك يكون بالتعاون الكامل معها وهذا ما بدأته مصر حاليا, فبالتأكيد هذه الدولة الوليدة تحتاج إلى التنمية وبشدة وأيضا تحتاج إلى التخلص من المستنقعات التي تشغل جزءا كبيرا من مساحتها ونحن نحتاج إلى هذه المياه فسيكون أهم مشروع لها و لنا تجفيف المستنقعات وتوجيه المياه إلى مجرى النيل الأبيض, ويمكن البدء فى هذا باستكمال مشروع قناة جونقلي. بالإضافة إلى إرسال المدرسين إلى مدارسها و البعثات من الأزهر الشريف و من الكنيسة المصرية و استقدام أبناء الجنوب فى بعثات تعليمية و لابد أن نسبق الجميع بتقديم خدماتنا لهذه الدولة الوليدة التي هي الآن واقعا فعليا, استقلال جنوب السودان الذي كنا لا نتمناه و لكننا نحترمه كونه اختيار الشعب يمكننا الاستفادة منه فى الصراع القانوني حول الاتفاقية, فكما يقولون السياسة فن الممكن.
رابعها: التعامل الجدي الحازم مع الدول الغير نيلية التي تعبث بأمننا المائي بقصد الضرر أو تنفذ مشروعات بغرض تحقيق فائدة لها, والتحاور معها أو الضغط عليها حتى لا تسبب لنا مشكلات كبرى لا نستطيع تحملها.
الأفكار كثيرة وكلها تؤدى إلى حل مشكلة توقيع بورندى على الاتفاقية ومن المؤكد أن الصورة ليست قاتمة إلى حد دق طبول الحرب. و المؤكد أن الحل الوحيد هو وجوب العودة بدول حوض النيل إلى مائدة المفاوضات و لا نتركها أبدا حتى نحقق ما نريد لنا و لإقليم حوض النيل بالكامل.
ساحة النقاش