نشرت صحيفة المصري اليوم في عددها الصادر في 2 مارس الجاري خبرا عن اجتماع لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشعب ذكر فيه وزير الري المصري أن هناك خلافات مع دول منابع النيل من جهة ومصر والسودان من جهة أحرى تسبب في تأخير توقيع اتفاقية الإطار المؤسسي للتعاون بين دول الحوض والتي كان مخططا أن توقع منذ عامين.و الحقيقة انه في خمسينات و ستينات القرن الماضي كانت مصر متواجدة في هذه الدول -دول حوض النيل-وغيرها من دول القارة الإفريقية بقوة واستطاعت مصر أن تجعل من هذه الدول حلفاء مرتبطين بالأجندة المصرية. و لكن الذي حدث فيما بعد هو ما وصفه أعضاء لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشعب المصري و الذي نشرته الصحيفة المشار إليها في صدر المقال هو اتهام أعضاء اللجنة الحكومة بعدم الحفاظ على المكانة التاريخية لمصر في دول حوض النيل، وعدم الاهتمام بحق دول الحوض في التنمية، وتجاهل مساعدات الدول الأخرى مثل إسرائيل وتركيا والصين في إقامة مشروعات علي النيل وروافده هذه المشروعات يمكن أن تؤثر على حصة مصر و السودان من المياه. أذن هناك تراجع في التواجد المصري إلى جانب أن دولا أخرى ظهرت لتعبث في المنطقة سواء من اجل أهداف خاصة بها أو أن هدفها يتمثل في الإضرار بمصالح مصر والسودان المائية. وفى الحالتين النتيجة واحدة وهى ضربة في صميم الأمن المائي للبلدين. وهذا الأمر ليس جديدا بل هناك العديد من المحاولات في هذا الصدد كانت أولاها في القرون الوسطى عندما فشل الصليبيون في الاستيلاء على مصر واسر المصريون الملك الفرنسي لويس التاسع فكان هناك تفكير وتحرك ومحاولة تعاون مع إثيوبيا لمنع المياه عن مصر. أما ثاني المحاولات فكانت من الولايات المتحدة الأمريكية للرد على توقيع مصر اتفاقية بناء السد العالي مع الاتحاد السوفيتي فأرسلت إلي إثيوبيا بعثة ضخمة درست حوض النيل الأزرق و روافده وأفرعه واستمرت الدراسة أربعة أعوام كاملة إلا إنه اتضح صعوبة أن لم يكن استحالة, وقف جريانه, فضلا عن أنه لا توجد أراض في حوض النيل الأزرق يمكن زراعتها. وبتغير الأحوال وتحسن علاقات مصر بالولايات المتحدة الأمريكية وتحالف إثيوبيا مع الاتحاد السوفيتي جاءت المحاولة الثالثة من الاتحاد السوفيتي نفسه حيث قام بتوصيل رسالة إلي مصر تلوح بإمكان أن يتعاون مع أثيوبيا في بناء سد علي النيل الأزرق.
وفى هذا الخبر السابق الكلام عنه والمنشور فىصحيفة المصري يوم الاثنين الثاني من مارس 2010. نلحظ تحولا جذريا في تناول الموضوع فلأول مرة يعترف مسئول كبير هو وزير الموارد المائية و الري الدكتور نصر الدين علام بوجود مشكلة وقد دأبت الحكومة على التأكيد بعدم وجود أي خلافات مع دول الحوض وان الأمن المائي المصري مصان وحقوقنا التاريخية في مياه النيل محل احترام الجميع بالرغم من الإشارات العديدة التي تلوح في الأفق تنبئ بخلاف ذلك. وكذلك أراء متابعي الشأن النيلي.
والقصة من البداية أن اتفاقية وقعت عام 1929 بين مصر وبريطانيا (ممثلة للدول التي تحتلها آنذاك و التي تقع في الهضبة الاستوائية وكذلك السودان), تنص على ضرورة موافقة مصر على أي مشروعات تنفذها هذه الدول على نهر النيل وروافده والبحيرات المغذية له, تحسبا من التأثير على تدفق المياه إلى مصر و السودان, إلى جانب الاعتراف بحق مصر و السودان الطبيعي و التاريخي في مياه النيل. هذين البندين بالذات سببا خلافات في عدة اجتماعات عقدت في عنتيبى بأوغندا و كنشاسا بالكونغو ولم يناقش الموضوع من الأساس في الإسكندرية الصيف الماضي.
و السؤال هنا لماذا تأخذ دول المنبع هذا الموقف؟. هل من أجل تحسين حصتها من مياه النيل؟ الواقع يقول لا فهذه الدول لديها وفرة من المياه أو تملك مصادر أخرى للمياه . أمطار , انهار خلاف النيل, أو أن هذه الدول تقع أجزاء صغيرة من أراضيها ضمن مساحة حوض النيل. أذن لماذا موقفها هذا من مصر والسودان؟ هذه الدول تحتاج إلى تنمية .. تحتاج إلى طاقة .. تحتاج إلى صناعة.. تحتاج إلى تبادل تجارى ... الخ.
أذن القضية قديمة متجددة فهل نعى ذلك؟ و ما السبيل إلى مواجهة هذه التهديدات؟ العقل يقول لا سبيل إلا العودة إلى إستراتيجية الخمسينيات و الستينيات القرن الماضي وإعادة قوة وزخم الدور المصري في منطقة حوض النيل واستعادة المكانة المفقودة مرة أخرى والحفاظ على العمق الأفريقي لمصر. وبالتأكيد أن ذلك سيعود علينا بالنفع في الحفاظ على حصتنا من المياه وزيادتها بتنفيذ مشروعات للحفاظ على المياه من الإهدار, وكذلك في فتح أفاق أوسع للتبادل التجاري مع هذه الدول. إذن الحل هو تحويل رمزية الدور المصري في دول حوض النيل إلى زخم تنموي وتواجد قوى. فهذه الدول لا تحتاج إلى المياه التي تحاول منعها عنا, بل تحتاج إلى تنمية و تعليم وتدريب وهذا لن يكلفنا الكثير بل سيكون عائده لمصر اكبر كثيرا من تكلفته.
إلى فترة قربيه لم يكن واضحا نهاية هذا العنت من الدول النيلية و التربص من الدول التي ترغب في إلحاق ضررا بمصالحنا. ولكن الآن وبعد الاعتراف الحكومي العلني بوجود صعوبات صار مواجهتها و التعامل معها شيء سهل وذلك شيء بديهي. وما زيارة رئيس الوزراء المصري احمد نظيف إلى أثيوبيا نهاية العام الماضي وتوقيع عدة اتفاقيات اقتصادية وتنموية, وأيضا زيارات مشابهة تمت في الفترة الماضية لدول عديدة إلا خطوة ممتازة لو تم تفعيلها ودعمها. أيضا هناك جهات حكومية وغير حكومية يمكن أن تفيد في هذا الصدد لو أحسنت تنفيذ دورها ومهامها. فقطاع مياه النيل بوزارة الموارد المائية والري ماذا يعمل؟ هل مطلوبا إعادة النظر في دوره وآلية عمله؟ وكذلك الصندوق الفني للتعاون مع إفريقيا يحسن به أن يركز في عمله على دول حوض النيل وكذلك تسهيل مهمة القطاع الخاص ودعمه لتنفيذ أنشطة اقتصادية في دول حوض النيل. والاهم في هذا كله هو استخدام ورقة لم نستخدمها بعد وهى الدبلوماسية الشعبية اقصد المنظمات الأهلية فهل يمكن أن ننشط دورها؟ أرجو ذلك.
ثم السودان الشقيق عليه دور هام لو تم لكان خيرا للبلدين و لكافة دول حوض النيل ومن أهم مفردات هذا الدور تكريس وحدة السودان والحفاظ على كينونته وحل الخلافات الداخلية به. وكذلك العمل مع مصر وبكل قوة على الحفاظ على كميات هائلة من المياه تذهب سدى في منطقة حوض بحر الغزال الذي تسقط عليه أمطار تقدر بأكثر من 500 مليار متر مكعب لا يصل للنيل منها شيء. إذن جهد كبير لحل هذه المعضلة تدعوا الله أن يساعدنا على إتمامه.
ساحة النقاش