إنه أبي، لازلت أذكر ذاتي بعيداً في ضباب طفولتي المبكرة، كنت ابن الأربع سنوات أراه بطلاً أسطورياً مثل السوبر مان، وفارساً نبيلاً مثل الذين أشاهدهم في برامج الأطفال. كنت أشعر به ملاكي الحارس، وحملت في نفسي يقيناً أنه يراقبني من بعيد أثناء ذهابي وعودتي من المدرسة كي يحميني من الأخطار. كنت أجلس في فصلي بالحضانة شتاء وأشعة الشمس تدخل بزاوية مائلة من النافذة التي أجلس تحتها لتضايق عيني، ورغم ذلك لا أرفع عيني عن مبنى عال خارج النافذة، وأشير إلى زميلي الجالس بحواري باعتزاز " أنظر ذلك المبنى العالي ، إن أبي فوق ذلك المبني ليحرسني" كان بالنسبة لي مثابة الدرع للمحارب والشاطئ للغريق، لا أظن أني أحببت بحياتي أحداً مثلما أحببته. لم أكن أجلس إلا على قدمه وأمطره طوال الوقت بأسئلتي الطفولية التي لا أذكر له مرة واحدة أنه مل منها، بل أجاب عليها جميعاً بكل حب وسعادة. كنت أنتظر عودته من العمل كل يوم حتى أعدو عبر المنزل لأستقبله بقبلة كبيرة وأخذ غطاء رأسه العسكري ونظارته الشمسية والجريدة وحقيبته ثم أعدو إلى غرفة النوم لأضعها بالترتيب على " الشيفونيرة" أولاً الكاب العسكري ثم الجريدة وفوقها النظارة الشمسية وإلى جانبهما حقيبة اليد الصغيرة التي يمسكها دائماً، كنت فرحاً للغاية بتلك التي تخيلتها مساعدة له حيث أني أحمل أشيائه، حفظت رائحة أشياء أبي وأحببتها وواظبت على تلك العادة حتى بدأ إخوتي يكبرون وينافسوني غي استقبال أبي ويأخذون أشيائه بدلاً مني.
في أحياناً نادرة كان أبي يوصلني مدرستي، فكنت أسير بجانبه وقد ملئني الفخر ممسكاً بيده بينما هو يرتدي بذته العسكرية الأنيقة التي يشير لونها الرمادي لانتمائه لسلاح الطيران، وقد زينها عدد من الأوسمة اللامعة، كان يبدو رائعاً إذ كان اللباس العسكري يبرز قوامه الرشيق في حين كانت نظارته الشمسية تضفي على وجهه الوسيم مسحة أبطال السينما، لازلت أذكر جديداً أحد تلك المرات عندما كنا في الطريق إلى المدرسة فقابلتني معلمتي، وكانت جميلة شقراء بعيون خضر، فنادت علي وأخذتني معها للمدرسة بينما لوح أبي مودعاً، سألتني باهتمام واضح " يقربلك أيه " ولم أنسى خيبة الأمل على وجهها عندما أخبرتها بكل فخر "بابا".
على قدر ما أحببت أبي على قدر ما كنت أطيعه دون نقاش، فثقتي به كانت لا متناهية، كان عنده أجوبة لكل أسئلتي وكنت أشاهده من صغري يقضي جل أوقاته في القراءة، في مكتبته الكبيرة بدأت صدر طفولتي أسحب منها وأتربي على علومها وآدابها، كان الجميع يحب أبي ويجل مقامه في العائلة وبين الجيران، كان الكل يستشيره في أمورهم ويطلب منه النصح لرجاحة رأيه واستقامته التي اشتهر بها، تركز حلم حياتي كلها أن أكون مثل أبي، أريد أن أصبح ضابطاً عسكرياً وأن أجعله فخوراً بي، من أجل ذلك جعلت كلماته دستوري وقرأني التزم بها واقبلها كحقائق لا تقبل الجدل.
كان أبي نموذجاً فريداً في التضحية بل لعلني لا أبالغ إذ قلت أنها صفته الأبرز على الإطلاق، فهو يقدم الجميع على نفسه بل وعلى أسرته أحياناً إذا ما أضطره الواجب إلى ذلك، كان يملك قدرة فريدة في تقديم الواجب على العاطفة، كانت تلك القدرة هي بداية الشرخ في ذاتي الصغيرة، كنت بكر أبي الحبيب وكان يحمل لي أحلاماً كثيرة ، غير إن نفسي لم تكن بقوة نفسه، لسبب أجهله لم أرث عنه تقديم التضحية من أجل الآخرين لتكون مبدأي الأول الذي أحيا عليه، فعندما بدأت أشب وجدت العدالة تأخذ محل التضحية عندي لتكون مبدأي الأول ومحور حياتي، ورويداً رويداً بدا عجزي عن أكون الابن الذي يستحقه أبي يظهر، كنت أسجل درجات جيدة في دراستي لكني لم استطع أن أحصد المراكز الأولى مثلما اعتاد هو أن يفعل، لسبب أجهله كنت طفلاً مستوحشاً، كنت أفضل القراءة على اللعب مع أقراني، وأحيانا كنت اجلس بالساعات أدير قصصاً وهمية في ذهني الصغير، وبينما كان هو شجاعاً مقداماً كنت أكره العراك إلى أقصى درجة، وبذلك بدأت بوادر عدم الرضى تظهر على أبي، حزنت حزناً عميقاً وقتها ولم أدر ماذا أفعل، اكتشفت وقتها حساسيتي المفرطة لأي رد فعل سلبي من أبي لفرط حبي له.
لا اعرف لماذا كنت لا اخبر أبي كم أحبه، كنت أجري إليه وأتقافز حوله فرحاً دون أن أخبره أبداً أني أحبه ، من فرط حبي له توقفت في سن مبكرة للغاية عن طلب أي شئ منه، اذكر وأنا ابن الخمس سنوات أن أتى عيد ميلادي وسالني أبي الحبيب ماذا أريد كهدية، فأجبت " طبق طائر" لم أكن شاهدت لعبة بهذا الشكل من قبل، لكني كنت أشاهد الطبق الطائر في أفلام الكارتون. أذكر جيداً أن أبي اصطحبني مع أمي ونزلنا نبحث عن تلك اللعبة وبعد بحث طويل وجدناها، وكان سعرها خرافياً بمقاييس تلك الأوقات رأيت ذلك في عينيه، رأيت حيرة خفية تطل خلف عيني أبي، تمزق قلبي ولم اعرف ماذا أفعل، وقفنا أمام محل الألعاب نظر أبي إلى الألعاب المعروضة وأشار إلى طائرة هليكوبتر وقال لي" إيه رأيك يا حبيبي في الطيارة دي مش أحسن" هززت راسي على الفور دون أن أنظر إلى الطائرة ولا أدري ما شكلها، كنت أريد ألا أكلفه فوق ما يستطيع، وبعد أن رجعنا للمنزل اكتشفت إن سعر هذه الطائرة أغلى من سعر الطبق الطائر وان أبي اشتراها لي لأنها اللعبة الأفضل وليست الأرخص. من وقتها بدأت لا أطلب من أبي أي شئ مهما كان بسيطاً، كثيراً ما كنا نخرج ويسألني أبي عما أريد فأجيبه أني لا أريد شيئاً على الإطلاق، وفي حال إصراره اختار باكو بسكويت ذو الخمسة قروش لأنه أرخص شئ اعرفه، لكنه في أغلب الحالات لم يكن يقتنع ويحضر لي أشياء أخرى. كان أبي ولا زال رجلا ًعظيماً وشخص يندر وجود مثله، لازلت أذكر أنه كان يدبر لي مصروفاً من مصروفه الشخصي غير المصروف الذي كانت أمي قررته لي كمصروف شخصي لي لأنه لم يستطع أن يقنعها بزيادته، فأبي كان ديمقراطياً جداً رغم أنه رجل عسكري.
أكثر ما استشعرت فيه عظمة أبي كان حب جنوده الغامر له، والكثير منهم كان يزورنا مرات ومرات بعد نهاية خدمته العسكرية، كان يعاملهم كأبناء له ويولم لهم من حين لأخر، أدركت وقتها أن المثالية عند أبي ليست مجرد مبدأ بل هي أسلوب حياة.
مر الزمان وصرت شاباً ثم رجلاً ثم أباً لطفلين، وكلما تقدم بي الوقت أكتشف إن أبي أعظم كثيراً مما كنت أظن فهو كان طفلاً أفضل مني وشاباً أفضل منى وبالتأكيد هو أب أفضل كثيراً مني.
إني اعتذر منك يا أبي، لم استطع أن أكون الابن الذي تستحقه، لكني لا أعتقد أن ذلك الابن الافتراضي كان ليحبك مثلما أحبك، وأرجو أن يكون هذا تعويضا ًكافياً، لعلني قصرت كثيراً في صغري ولم أخبرك كم أحبك، لكن الوقت لم يفت، أحبك كثيراً يا أبي.
المصدر: بقلم أحمد سيد إبراهيم
نشرت فى 16 مارس 2010
بواسطة AhmedIbrahim
أحمد سيد إبراهيم
أسعى أن يكون قلمي منارة، في عالم اعتاد الناس فيه الخلط بين الحقائق ووجهات النظر »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
142,572
ساحة النقاش