كانت
............
كانت ..تحصي في ذاكرتها مقدار دموعه .تشعل له شموعه المختنقة في ثغر الظلام.تسمع صوت انفاسه من خلف ألف جدار .تعلم ما يشغل فكره ويذيب جمود ذاكرته .تعلم أسفار روحه على متن قاطرة الشرود.ترسم له أحلامه على مخملية الليالي الهادئة.تزين فراشه بباقات من منثور الورود بأنفاس الياسمين والبنفسج.كانت تناجي فراشات هيامه عندما تطوف في ترياق لعابها ..لترويها بكؤوس همساتها الرقيقة.كانت ..تسبق الشمس لاحتضان نافذة حجرته ..ترسل دفئها ليحتوي صقيع الزوايا.تقترب من سريره ..كما يقترب النور من عطش الظلام .كما يحن الثغر لارتوائه من خد مشتاق طال غيابه.كانت لا تنام الليل إلا على عناقيد شوقه ..لا تطبق الجفنين إلا تحت ظلال أهدابه .لا تستكين نفحات أنفاسها قبل أن يقدس ثغره محراب جبينها .كانت..تفر بخيول أحلامها بعيدا عن ميادين سنينها المجبورة علي الخضوع لشيء ربما ليس له دلالة للوجود..وهي تطوي عباءات الخوف وسط مخزون الأماني.في غربة الذات دفنت أمانيها وناحت مباهجها وهي تحيك لها كفنا من رداء الخنوع والإنقياد..تاهت الأحزان على مدارج أيامها عاما بعد عام.كانت بالأمس الذي كان لغة صباحاته.. تحاور دفء المخارج في نوافذ صوته ...تلتصق بنبض شفتيه ظامئة.هي أقرب من وقع النبض لقلبه ..هي حضن أمه المشبع بزفرات الدفء..هي زهده الذي زهد بنفحاته العاشقين ..وأشبعت من براعمه توائم الأرواح..أمست كما أمسى المساء ...كما الشمس ترتحل على رواحل الأفق ..لكن عطر مجالسها ما زال ها هنا ..ماكث .. مختزل بين إحتباس الأنفاس ..يغفو على مساند الأرائك ..عالق على صدر الستائر ..تملك أفواه الكؤوس ..وعبق أنفاسه في قهوة الذكريات..تغيب لكنها لن تغيب أبدا عن حدقات العيون الحالمة بعناق لن يوقفه رحيل.. رغم حقيقة الظلام ..وما يخفي تحت جناحي قسوته من أوجاع الوداع..وداع اللحظات حينما تهرول الساعات مسرعة لأحضان الأرق ..فيمضي الليل حزينا برحيله ..لكنه بلا سفر .. كمصير زورق حاصرته الأمواج ..وتقاذفته رياح هوجاء..مزقت أحلام أشرعته ..وحطمت مجاديف إبحاره ..فما عاد يملك إلا الغرق ليأخذه نحو أعماق الغيب وحيدا دون جليس .بين كانت وأمست ..ها هي قد أصبحت . فبدأت تجمع أركان قوامها..نهضت من رواكم الفراش ..من وسط حطام كوابيسها ..تبسمت إبتسامة مثقلة بثغر الألم ..ضحكت بعيون الدمع دمعات الدرر ..لكنها الصامتة الصابرة الراضية منذ أن تريق الدهر في جوفها أوجاع حرمانه.. شيئا فشيئا بدأت تهزم أثقال كآباتها .. تنزع من جنباتها أشواك الآه .أصبحت تتعافى من ليلة طال بها المكوث فوق ملاءات أسقامها .جاءت تتهادى على جدائل الشروق ..كنسيج نور على جبين الأسى..إقبال عينين على شوق الرؤى..وعلى راحتيها كتبت باقة من أمنيات ..رسمت فراشات أحلامها فوق نافذة كساها الضباب . . اقتربت رغم ما حفر علي إطارها لا للإقتراب..تردد بصوت أشجانها قصائد الذكريات على باب الصباح ..تقف أمام مرآتها ..تلتقط أنفاسها المثقلة بزفرات الحنين.. لكنها تعلم بأنها كانت ..وأمست ..فأصبحت ترقد بين واقع وخيال ..وآمال وعذاب ..وغربة واقتراب..وما عرفت يوما لما الهروب الذي يجتاحها كلما زادت نبضات فؤادها..أو تحلق الشوق حول اهدابها............محمد العطار