لقد صار العمل الخيري مفهوماً عالمياً تبناه العالم، وأرسى له القواعد والأسس. أما في مجتمعنا الإسلامي، حيث المنظومة القيمية تجعل من فعل الخير مرادفاً للعبادة، وتجعل من المشاركة في مشاريع الخدمات الاجتماعية جزءا مقدساً من الأخلاق يفوق العبادات الفردية، ويجعل الساعي في خدمة الناس يحرز أجراً يفوق عبادة الطائفين العاكفين الركع السجود، فإن الاستجابة لهذه القيم لا زالت دون المستوى المنتظر. لذلك، فلا بد من العمل على إعادة ترسيخ هذا المفهوم وتلك الثقافة، منطلقين في ذلك من ثقافتنا الإسلامية، التي هي المنبع الأصيل لكل خير
فمما لاشك فيه أن العمل الاجتماعي الخيري والتطوعي قديم قدم الإنسان نفسه، ولكنه أخذ العديد من الصور والأشكال والطرائق التي يؤديها. وكان للعرب باع طويل في هذا المجال، فرغم الصراعات والحروب الطاحنة التي كانت سائدة بين القبائل، إلا أن الشهامة والشجاعة في إنقاذ المصاب ومساعدة الغريب وإغاثة الملهوف والأخذ بيد الضعيف كانت من الصفات النبيلة التي يتمتع بها العرب في ذاك الزمان، حتى جاء الإسلام ليؤكد على هذه المعاني، ويعلي من شأنها. وغدا التعاون والتكافل سمة تتمتع بها الشعوب العربية والإسلامية في كل مكان وزمان. و"الوقف" من أبرز صيغ العمل التطوعي الذي حض عليه الإسلام ومارسه المسلمون على مر العصور وتعاقُب الدهور، وجوهر "الوقف" ينبع من فكرة الصدقة الجارية، كما جاء في الحديث النبوي: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له. وفكرة "الوقف" ـ بهذا المعنى ـ تنتمي إلى منظومة العمل التطوعي، وفقًا لتعاليم الإسلام الحنيف. وقد جاء الأمر بالوقف على سبيل الترغيب والندب إلى فضائل الأخلاق والأعمال، وليس على سبيل الإلزام أو الأمر الجبري الذي لا يملك المخاطب به إلا الانصياع له
وتظهر أهمية التطوع والحاجة إليه كلما تقدم المجتمع وتعقدت العلاقات الاجتماعية، فكلما كانت العلاقات بسيطة ومباشرة تكون الجهود التطوعية جهوداً فردية ومباشرة أيضاً، وترتبط بالموقف ذاته، وتكون إحدى سمات العلاقات الاجتماعية، فمجتمع القرية بمحدوديته يتسم بالتضامن الآلي وتداخل العلاقات، ويتصف بالتساند والترابط، والتطوع فيه يؤدي وظيفة ضرورية، ويرتبط ذلك عند الناس بقيم الشهامة والمروءة والكرم. أما مجتمع المدينة فاتساعه يُضعف العلاقات الاجتماعية؛ لأن احتياجات الناس تشبع من خلال المنظمات والهيئات، وعلى الرغم من توفر تلك الخدمات، إلا أن ذلك قد أظهر حاجة تلك المجتمعات أكثر إلى التطوع، والذي يكون في صورة نشاط مؤسسي، يتم من خلال المؤسسات الاجتماعية، فالدول مهما كانت إمكانياتها المادية لا تستطيع إشباع كل احتياجات أفرادها، حتى مع اتساع أنشطتها وتعدد مجالاتها، خصوصاً في ظل تزايد الاحتياجات، فما كان ينظر إليه على أنه من الكماليات في وقت من الأوقات، قد يصبح من الضرورات في وقت لاحق
ساحة النقاش