هم القمر بالمغيب مؤذنا للظلام ليفرض جناحيه على المكان، وتعذرت الرؤية على أودادس وقفل يسعى إلى حضن جدته وصورتها تملأ المكان ضوءا، وقد فر بها الزمان سريعا إلى الذبول كأقحوانة تموت عطشا في مراعي البسطاء، وبرد الحزن نفث على وجهها بسمة رضيع، رحيقها الأسمر الذي يسافر عبر الحقول مثقلا بعبق قصيدة لم تبح بها الطبيعة لشاعر، ودفعتها الشيخوخة إلى طرد ما بأحشائها من أجنة،لتصبح كشمعة على مشكاة داخل غرفة كوخ لا يسمع همس بكائها إلا حفيد يحمل في عيونه دمعة رثاء لها الإنسان جاهل، وهو يتقفى الخطى يستبق الزمان وصولا إلى الكوخ ليجدها بالباب منكمشة في قعودها، تدلي بنظرات مثقلة بالتجهم، وأصابعها المقرحة تغور في تجاعيد وجهها المكتئب،هوى عليها بقلب منكوب معانقا الروح التي شردت عنها، فصرته إلى صدر تجري في أغواره أنهار من رأفة الأمومة، تفجرت ينابيعها من ثدي أغدق عليه طعاما من لبان، تظللهما برهة صمت رهيب، وكأنه يحكي لها في باطنه ما رآه، وهي تتطلع إلى عينيه بنظرات حادة وكأنها تقرأ فيهما ما ظنت أنه عنها كاتم، وهي تخشى ما أوحى لها به الشقاء من كابوس أرهب مرقدها الذي غاب عنه دفء الزوج حين رحل مهاجرا إلى المدينة قسرا، صادا عن خطب مآذن، تكن له من السوء ما يكفي لحرق الأماني التي اقتحم بها تخوم رحم المجتمع على متن مراكب من سجون،أدرك أنها خلقت للفتك بجيل من أجنته، فاتخذ من مهده مقرا من بوابته تخرج القبائل متآلفة ومن حضوره تتخذ قياسا به تقيس عقب عهد أطفأ عن القرية كل المصابيح، واتخذها طريدة ضعيفة لاتقوى على الهجوم ،وخطاب الافتراس فظ، ينهش في الولائم لحمها الطري تاركا إياه على طبق الغد يتسنى، فحسب أنه الجحيم والناس فيه تحترق دون بكاء ولا صراخ، فإن كان لكل شيء ختام، فإنه اللابث عصيا إلى آخر الدهر ، والدهر قبل رحيله يكون له الفناء، ومن فوق هضبة ولى ظهره للقرية دون وداع ينشد البحر الذي تراجع عندما أبلغ بقدومه، ليكون رسولا واللحد رداؤه، ينبئ مبلغا خلقا أتى من خصوبة الأرحام.
أحس أودادس بالدفء في خضن الجدة وخلد للنوم وكأنه نطفة رسمتها الريح رغيفا على أوراق العنب، غارقا في وحل رحم عفن، يتخبط فيه خشية من الموت، كعلقة في غدير يكاد ماؤه أن ينضب ،ليستفيق على لمسات يد تتحسس جسده النحيف، إنها يد الجدة التي لم يمنعها استقاظته من استكشاف جسده، حتى تطمئن على أن ما رأته في منامها سوى كابوس أزعج دواخلها، استفزتها نظرات الحفيد وهي تسألها، لتخبره عن كونها رأت اثنتى وثلاثين يدا تمسك بخناجر تباينت ألوانها تهوي عليه طاعنة. خيم الصمت من جديد، وتتداول الأيام لتخبرها أنهم أولائك الذين يضعون الكثير من الطيب لطمر خبثهم حيث المبتاعون في ضلال يغرفون من ألوانهم سما، ويتخذون من رموزهم شارات يدخلون بها ضيعة يكنون لهم فيها عقابا بالفقر، ليمروا عبرها كغيمة ماؤها لا يروي عطش ظمآن ولو شرب منه شرب الهيم، يحيون فيها ترابا ويموتون ترابا ويخرجون ترابا تشيد به قبب ومآذن، توارت خلف أسوارها جثث حكم عليها القدر أن تكون مدعوة لتحتفل بقدوم زائرها، وهو يحمل على نعش مهترىء لتفتح له الأرض صدرها الرحب، وتضمه إليها مانحة إياه المسكن الذي كان في الحياة منه محروما، فينفض الجمع بعد أن غرسوا الجثة في الترى، دون أن يرجوا منها نباتا، مندحرين يلتقط من خلفهم الخطى فقيه المسجد،دون أن يعلم أحدهم سبب موته، حين أرداه قتيلا رب ضيعة بها من الفواكه والخضروات ما هو ممنوع على الفقراء أكله، أماته لما علم أن نفسه الحقيرة ،اشتهت ما بشجرة من ثمار قد حان قطافها، وبقلب فظ أمر بإخراجه من الضيعة مجرورا خلف دابة، في الموت لبث بضعة أيام حتى تسنه جسده، امتلأت الحارة نواحا وصراخا حين بلغ نعيه بالعشي، والليل يفتح أبوابه العتيقة، هرع حشد من الرجال إلى المكان ليحملوا الجثة المتورمة على عربة مهترءة ملفوفة بثوب رث، والموكب يلفه صمت رهيب، وقلوبهم تتقرب بأدعية إلى الله في صمت وهم يتعاقبون على جر العربة تناوبا، والفقيه تتربص نفسه على تنظيف الرجل الهالك، ويقترب الموكب من الحارة التي غصت بنسوة عويلهن كحريق شب ظهيرة يوم قيظ، فإن ناره لا تخمد إلا إذا صار الحطب رمادا، مأتم حوى من النساء محجبات بالبيوت، يعبرن فيه عما لحق بأنفسهن من ضرر يخرج صراخا والصدى به يجهر، تآلف مع صراخ من أمست بالعشي أرملة أرغمت على أن تطرد عن قلبها فرحة كان لها الراحل وقودا و كان له الطاغية غاصبا، فيعلو نواحها ومعها النسوة يتمردن وينتفضن على ما مسهن من جور، فالمآتم ليست محل رثاء ولا نواح على هالك وإنما صورة احتجاج على حرية منهن مفقودة، فإذا شرحت صدورهن تجد في مكامنها بذرة ثورة تنتظر من يمد غرستها مطرا.

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 38 مشاهدة
نشرت فى 25 نوفمبر 2014 بواسطة Aboyosefmohamed

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

266,354