..... إنســـــــــــان .......
..عذاب النفس ..
من مؤلفات / ياسر عبد المطلب محمد يوسف
إنسان هو هذا الرجل الذي سخر نفسه لخدمة أهله وجيرانه وأبناء بلدته الصغيرة التي تقع على الشريط الجنوبي لدلتا مصر .
مشهور هو هذا الرجل الذي أطلق عليه أهل بلدته أسم ... إنسان ... حتى أصبح هذا الأسم ملاصقا له لا يفترق عنه أبدا .
طبيبا كان هذا الإنسان وقد اختار هذه المهنة من أجل رفع المعاناة عن أهل بلدته الذي رأى الكثير منهم يسقطون صرعى وباء الكوليرا عندما كان صغيرا .
كم هو متواضع هذا الطبيب الإنسان الذي لم يقف عند حد مهنته بل كان يمتهن مهن أخرى كثيرة من أجل أحبائه ...فكان يعمل بالزراعة أحيانا كثيرة ليساعد الشيخ رزق أستاذه الذي علمه حين كان صغيرا في كتاب القرية .
هذا الشيخ الهرم الذي فقد زوجته وولده الوحيد في معركته مع الحياة والذي كان دائم التحدي معها وكثيرا ما كان يخرج من معركته منتصرا وكيف لا وهو الشيخ حافظ القرآن وإمام القرية .. ولكنه مع فقدان الزوج والولد أحس بهزيمته وبانحناء ظهره في معركته الدنيوية .. فلم يعد يقوى على حمل الفأس ليضرب به باطن الأرض التي أشرفت على البوار... لولا وجود هذا الإنسان الذي حمل عنه فأسه وراح يضرب به باطن الأرض ليبعث فيها الحياة من جديد ... وكأنما أراد أن يجتاز معركة الحياة نيابة عن معلمه الأول ... من علمه كيف يمسك القلم ليكتب ..بسم الله ..فيصرعها ويحملها بين يديه ليضعها تحت قدميه لعلها تبعث إليه هو الآخر الحياة مرة أخرى فيجده وقد ارتسمت الابتسامة الغائبة منذ زمن عن شفتيه قبل أن يفنى مع الزمان .
كما لم يقف هذا الإنسان عند حد الزراعة بل كان يعمل أيضا بالتجارة ليساعد عم على فقيه القرية ...هذا الفقيه الضرير الذي كافح من أجل تعليم أولاده ليكونوا سندا له عند الكبر ... ولكن ما أن اشتدت سواعدهما وتخرجا هجراه كما هجرا بلدهما وارتحلا إلى بلاد أخرى سميت قديما ببلاد النفط من أجل حفنة من الدنانير أو الريالات تاركين أباهم الضرير فى معركته مع الحياة وحيدا .
كان إنسان هذا الإنسان الذي كان يلبى دائما نداء الواجب فكان يسخر نفسه لخدمة الآخرين دون أن يطلب على ذلك أجرا .
إلى أن كان يوما تكاسل فيه عن غير قصد .. عندما جاءه بعض من رجال القرية يطلبون مساعدته في إنقاذ أحد الصبية الصغار قد صدمته سيارة مسرعة .. بينما كان يصلى ... مجرد لحظات قليلة مرت عليهم وهم ينتظرون ثم مضى معهم مسرعا .. ولكن بعد أن نفد القدر ومات الصغير .
لم يتذكر أهل القرية ما قد قام به من خدمات سابقة ولكنهم تذكروا فقط تكاسله عن إنقاذ الطفل الصغير فكانوا ينظرون إليه وكأنما هو من قتله هو الذي داسه بأقدامه وليست تلك السيارة المسرعة والتي فرت هاربة بعد الحادث .
بات الإنسان وقد أصبح منبوذا داخل بلدته الصغيرة ... ومع مرور الأيام أحس بالوحدة فلم يعد يسأل عليه أحد أو يطلبه أيا من رجال القرية .وباتت حياته بين أهله أصبحت مستحيلة ...
لم يفكر كثيرا عندما قرر المضي بعيدا عن قريته وأحبائه .. فمن غير المعقول أن يكون هو الذي على صواب وبني قريته على خطأ أحس أنه هو بالفعل من قتل الطفل الصغير .
ومع تباشير الصباح كان يسير وحيدا تاركا كل شيء خلفه .. ومرت عليه الساعات بطيئة وهو يسير على غير هدى .. كانت السماء من فوقه تميل إلى الزرقة بينما كانت الشمس قد أشرفت على المغيب عندما أحس بالعطش الشديد و لم تعد قدماه قادرة على حمله ... كان يتحامل على نفسه يقسو عليها يعنفها على ما قد بدر منها تجاه أحبائه حتى سقط على الأرض فلامست شفتاه ترابها وأحس برائحته الذكية تملأ رئتاه .. راح يحدث نفسه هذا التراب وهذه الرائحة ليست غريبة عليه .. مال برأسه قليلا ناحية اليمين فوجد لفيفا من الناس ينظرون إليه وهم يمصمصون شفاههم ... أمال برأسه الناحية الأخرى فرأى الكثير من الرجال ينظرون إليه وكأنما نزل عليهم الطير وقليلا من النساء وقد بكت أعينهم ...
ما هذا ... إنهم أهل بلدته ... أراد أن يصرخ .. فخرج صوته ضعيفا ... فلم تقوى قدماه على حمله بعيدا عن قريته التي عشقها وأحب أهلها ... نظر إليهم وقد ارتسمت على شفتاه شبه ابتسامة غير مقصوده .. فلقد أرادها ابتسامة تتبعها اشراقة اللقاء بالأهل .. كان صوت الأذان يحلق فى سماء الكون الله أكبر .. الله أكبر ..عندما أحس بروحه تخرج من بين جوانحه في يسر ...أراح رأسه على التراب .. اقترب منه الشيخ زيدان ليحمله فوجده قد فارق الحياة وعلى وجهه شبة ابتسامة مخنوقة
قصة قصيرة
من مؤلفات / ياسر عبد المطلب محمد يوسف
1992