لبست الغرفة عتمة الحزن، والأسى يثقل خواطر لا مجيب لشكواها إلا عباب يم هائج، بزبده يلهو الغلام ومن بذور ملحه يغرس في مطرحها ما سقط من الدمع من مقله، وبقبلات حزن مسحت على وجنتيه ما علق بهما من وسخ الكآبة، وارتدت زي أهل الدار المرسوم لتقاليد المواسم الكبار، وبحلي من الفضة والذهب رسمت لوحة لمقامها تبجل وجمالها تزيد زينة، ومن خلف خمار شفاف عيون جاحظة تلقي بنظرات تخاطب البحر حين يستضيف لحظة الغروب، تم ركبت عربة تجرها الخيول، وغلامها تحت جناحها يرتعد قلبه من خوف مجهول، ولما نقرت الخيول بقوائمها بوابة القصر، فتح لها الحراس المداخل، وبلغ جلواز سيده أن سيدة من حريم خدام المقام نزلت في حضرته ضيفا، فأدخلت إلى قاعة وبها تم الترحيب، قاعة مفروشة بالأرائك، وموائد عليها ألذ وأشتهى الأطعمة مختلف ألوانها وأشكالها، ومن كل طير بر والأنعام زينت صحون أكلها على الفقراء ممنوع، وخادمات وهن من زنوج الجنوب يقمن بطهارة أيدي الضيوف، وإذا سمع لاغ في نومه فإن القبر له مسكن، فالحرية في أحذية البؤساء راقدة، ولقد أعددت لها من الشمس جرسا أحباله من أسمالي تنتظر رسولا لها يقوم بالجذب.
وبعد وقت من الإنتظار في الإنتظار، أذن لها الجلواز بالدخول، فباركت الدعوة و ولجت فارتجفت دواخل الغلام من نهيق الباشا، السفيه المخادع للناس في صفاء الأعياد، وعندما يخرج إليهم بلباسه التقليدي الناصع البياض وكأنه ليوم جمعة مصل، وإن له في الحاضر نظير من نائب عليه حضور مكتوب لميعاده طاهر نقي وباطنه خبيث ولبه جاهل، فنادى، والنداء كان بنقر جرس من نحاس، والأمر له مطاع، واللعاب كالحمم من ثغره تتناثر شظايا الغضب، والعينان تتأجج فيهما نار وكأنهما فرن به جمر موقد، والوجه فناؤه متجهم منه الفزع يصفع الماثل أمامه، وبأنكر الأصوات يرعد ويديه من خلف ظهره يغلهما، والجوارح على طريدة من السجناء تتربص، ثم أشار بسبابته الى جرة من نحاس، فأحضرها خادم بخفة ورشاقة، وأخذ يصب له في فمه ما تحوي من نبيذ، والنبيذ ينساب على لحيته، ولما ارتوى منه رفع كفه، ونهق حتى سمع نهيقه من به الصمم، وعلى حافة منضدة أسند المرفقين يتلحس باللسان شاربه، فلا يهدأ له بال و لا نفسه تستقر آمنة إلا إذا تلذذ بقتل ما اختار من السجناء، وقال لصاحبه هيئوا أرضا بها أزرع قبورا، نباتها من أوباش في حبل النضال تعلقوا، ثم صاح كالمعتاد وأمر أن يأتوه بجناح من السجن، وكل سجين مكبل بسلاسل وزنها أثقل منه كيلا ، والعيون تفقع بمشهب حام، فرج قلب الغلام وخال أنه ظل السبيل إلى حياة الإنسان، وجنح عن طريق الخطأ إلى كون غير الذي كان يقصد، فأصابته غشاوة كاد من جرائها يفقد وعيه، ورأى في حاشيته أن لهم قلب أشد قساوة من الصلب، يخنقون جيل الأمة بحبال من الفقر ، وقد تفرعت جذورهم والتوت على رقبة التراب، إنهم كالقردة ينطون على أغصان تتدلى من جدع المخزن، فسمع الغلام: إن المستعمر لن يرحل من بلد إلا و وضع على عرشه ربيبا له .
فجاءته أمة لا تخشى الله ، وإنما تخشى سيدها أن تصيبها منه لعنة، إنها تبلغ من الكبر عتيا، وهامتها لا زالت منتصبة ، وكأن الزمان عجز على النيل من قدها، حول جيدها حبل مثقل بتمائم محفوظة في صفائح من نحاس، والكعب يلفه عقد منه تتدلى أقراص من فضة بريق لمعانها ساطع، انحنت مطيعة له وقلبت يديه تقبيلا، وعلى كتفها تحمل جرابا من معدن نفيس به من العطر ما لم يتشممه على الأرض مسكين .
فألمحت إليه بكفها، وكأن الشارة منها لجدار الزمان تمزق، ومن خرقه ترضع شهوته من ثدي به تجمد الوقت، ومن حلمة بها اللبان تنحبس لم يمسسها من المهد رضيع، وعندما اقتربت من غرفة الحمام أزالت ستارا، همست بنداء ولطم على الكف خفيض الصوت، فبزغت مرجانة، ولم تبلغ من الصوم إلا بضعة أعوام، يتدلى وشاح الجمال على محياها، إنها فتاة مكتنزة تكاد تحجب ما خلف باب الغرفة، ولباسها كاشف عن فاكهة أنوثتها، والوجه من خديه ينساب ندى من بخار الحمام الساخن تكون قطرة، فاختلت به وكأنه رضيع في حضنها، خلعت عنه ثيابه ، فالأمر بينهما معتاد ومألوف ، فهم بها وقضى صنيعه، وفرائض الوضوء كان لها في الاغتسال حضور، وبموسى قامت بإزالة كل الزوائد من منابتها، وبماء مقطر من نوادر الورد عطرت جسده، وأكست عورته بملابس لا يظهر بزينتها إلا في مطلع الأعياد، قفطان أخضر لونه والجلباب قماشه ناصع شفاف، والبرنس من حرير هبت من لف جناحيه ترفرف ، والخف أصفر فاقع من فرو وحوش البراري كان صنعه، والعمامة من سندس والجوارب ناصعة البياض، وربطة سوداء بالخز مطرزة بها خنجر مرصع غمده بعقيق أحجار كريمة، ومصحف في صدر محفوظ من جلد ناعم على اليمين حمله، فأطل على الحاشية كبزوغ بدر في عسعسة الليل متبخنس الخطى من مدخل محرم الولوج منه على الخدم ، والأمة تخطو أمامه بعكازها لحضوره معلنة، فتصنم المجلس قاطبة، وارتجفت صدورهم منه خوفا، وكأن الأرض تحت أقدامهم رجت، فتهاوت الهامات حضيضا له ساجدة، والمكان جثم عليه صمت فيه لا يسمع لنفس زفيرا، و لا عن بعد يسمع في الصدى لغو لاغ، ثم دمدم عليهم بكلمات: القتل ...، لكل من كفر بآياتي، ولو يكن رضيعا أو عجوزا مسنا، وحتى وإن كانت إمراة في خيمتها تضمد جراح عاص قد أصابته منا طعنة، وعقيدتي يجب أن تكونوا بها معتصمين، قتل واعتقال وتنكيل ومن يدعي أنه من أهل حق فكونوا له هالكين، إني المشتهي إلى فاكهة الإنسان، حتى أسمع زمهرير احتراق الفقراء في الصلاة، وبناب من معدني ومخلب، مزقوا وجه الأرض حتى يغمر الدم حوافر جوادي، ثم ألقوا بهم بين شق الألواح التي بها تبنى الأسوار ، أمواتا أو أحياء منهم يكون لها الطين، وهجروا من صدورهم أرواحا لمقامنا تبين أو تخفي العداء، إنكم الأقرب منهم ولا تشدكم عنهم غفلة، وإذا زهقت الروح من بلعوم لباسها، انقضوا عليها وبها آتوني في قفص من حديد، فإني لها القاتل ولو تفر إلى الله تحتمي به، وقال لصاحبه بصوت خشن : لا تسقوا عجينة الطين ماء، أريدها طينا لازبا من دم أحمر فاقع.
واعتلى رفقة أمته شرفة تطل على الورشة، تربع على أريكة والمائدة عليها أباريق من نبيذ مختلف أحجامها وأشكالها، من معادن مختلفة ألوانها، بريقها في عين ناظر ينغمس، وكأن الغسق الذري حبا وشاحه من حضن المغيب، ومن يد الأمة يستشف الخمرة، ويحرق في السماء جنة للفقراء أعدت، فيها يزرعون أمانيهم، فانقض عليهم وهم في الكرى يحلمون، ومنها أخرجهم ضعفاء بالأغلال يساقون، فعصا نفسه وأقر بطغيانه أن ما في الكون من ثروات هي له ملك و في سجلاته مدونة، و لا إله يصدر إلى البلد مصحفا يحمله رسول و يخرج إلى الطاغية منقلبا.
فأوقد نارا في حجر عينيه الجاحظتين من ألسنة لهبها يخطف طائرا من كبد السماء فيصيره رمادا، محرقة أخذها عن السلف إرثا،يحمل نفسا تتبهج بالمساجين الذين بنا بهم تاريخا من الصوامع و الأسوار، يسلط عليهم رقيب من غلاظ القلوب حاله مستنفر، والسوط في يده لا يترك لحظة استراحة لسجين يحمل على كتفه بردعة مثقلة بطين لازب تحدث أقراحا يمج منها قيح يشم حموزته المصاب بالزكام، والرقيب راكب ظهر بغله، ذراعه لا تنام قيلولة تدثر بالسوط ظهور منتفضين أعياهم التعب وأثقل ممشاهم وصدورهم بها ينحبس نفير الشهيق و الزفير ما دامت الرافعات و حبالها دواليب من نواعير بها ترفع جثث القتلى، وبين فك الألواح التي بها السور يقام تلقى، فيعطي أمرا للأمة أن تنقر الجرس، وما كان أن يسكت النقر من الصدى حتى حضر بين يديه جلوازه وقال له والصوت زئير : أبلغ رقيبنا أن يطعم معدة السور بالمزيد من رغيف الإنسان، فلدينا من السجناء حشودا، وليدل بهم أمام عيني أحياء، حتى يكتمل بناء السور من طينهم.
نشرت فى 1 سبتمبر 2014
بواسطة Aboyosefmohamed
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
266,517