<!--الدكتور سعيد بنكراد: استراتيجيات التواصل الإشهاري
استراتيجيات التواصل الإشهاري
دار الحوار - سوريا - 2010
المقدمة
قد لا نخالف الرأي كل الذين أطلقوا نيرانهم على الإشهار وشككوا في مقاصده ونواياه؛ فآلياته وغاياته وأساليبه المرئية منها وغير المرئية تستند إلى "حيل" تواصلية نادراً ما ينتبه إليها المستهلك. فهو "يضلل" و"يُبَسط" و"يفسد" و"يشوه" و"يقلب الحقائق" ويحول ما يأتي من الثقافة إلى حالات طبيعية لا تنكرها العين ولا تستهجنها. بل يمكن أن تكون وظيفته أوسع بكثير من هذا، وربما أخطر أيضاً من كل الأحكام السابقة وغيرها، فهو "يتعامل مع الإنسان باعتباره مجرد حيوان تطبق عليه كل أساليب الترويض والتحكم الآلي حيث يفقد حريته ويصبح مجرد دمية كراكيز لا تتحرك إلا بما تشتهيه الأصابع"(1)، أو "يتعامل معه كما لو أنه من أشد الحيوانات بلادة"(2).
لذلك لا يجب أن تخدعنا مظاهر البراءة والعرض المحايد للسلعة والخدمات. ففي ما وراء الرضا والطمأنينة التي يودعها في المنتج المعروض للبيع، يسرب القلق والكآبة والتوق الدائم إلى "مطلق وهمي" في الكينونة والامتلاك على حد سواء. إنه لا يقود، من خلال الاستهلاك المتزايد، إلى تحرير الفرد من قيود الحاجات بإشباعها، بل يخلق حالات استعباد لا يمكن إشباعها أبداً. فهو أصل الحاجات ومصدر ديمومتها.
ومع ذلك، فإن التقدير القيمي لا فائدة منه في هذا المقام. فالأمر يحتاج إلى ما هو أبعد من الأحكام التصنيفية التي لا يمكن أن تقف في وجه آلة رهيبة يتسع مداها كلما اتسعت دائرة الاستهلاك وتنوعت حاجات الإنسان وتعددت. فعادة ما يقود الحكم الخارجي إلى تكريس الظاهرة وتأبيدها عوض تقويض الدعائم التي تقوم عليها. ومن هذه الزاوية، فإن ما نقدمه لقراء العربية في هذا الكتاب يندرج ضمن المحاولات المتعددة التي تهدف كلها إلى الكشف عن "أسرار" الإشهار وآلياته في "التواصل" مع محيط أعزل لا يحضر العقل في ردود أفعاله الاستهلاكية إلا نادراً.
وذاك هو المدخل الرئيس لفهم كل شيء. فالإشهار ليس خبراً، ولا تشكل معطيات الوجود الموضوعي داخله سوى حيز بسيط لا يتجاوز حدود الإحالة على ما يمَكِّن المتلقي من تحديد المضمون المباشر للوصلة وغاياتها الظاهرة في غالب الأحيان. وذاك أمر جلي، فالخبر محايد ووصفي وموضوعي لأنه يشير إلى المشترك، أو إلى ما يمكن تقديره من خلال المعاينة المجردة. أما الإشهار فموقف من العالم، من أشيائه وموضوعاته ومن كل ما تعج به الحياة من سلع وخدمات وأفكار وحالات وجودية. فالأشياء والموضوعات والخدمات وأحلام النجوم وطموحات السياسيين كلها سلع تحتاج إلى تسويق، وهو ما يتكفل به الإشهار وفق آليات يجب أن تقود جميعها إلى البيع ثم البيع ولا شيء سواه.
لذلك، فإن الإشهار ذاته يعد جزءاً من الخدمات ولا يمكن أن يفهم إلا ضمنها. إنه خدمة مؤدى عنها يقوم بموجبها الإشهاري بتحديد استراتيجية المؤسسات ويساعدها على اكتساح الأسواق، أو يقوم بصناعة "لوك" النجوم والسياسيين والرياضيين. ومن هذه الزاوية فهو لا يعبر عن موقف خاص، إنه مجرد وسيط، أو هو "مرتزق" يبيع خبرته وذكاءه. إن الإشهاري لا انتماء له، إنه يعير صوته للمؤسسة التي يتحدث باسمها ويعلي من شأنها استناداً إلى نسق قيمي مودع في هويتها اللفظية منها والبصرية.
ولم يعد ممكنا الحديث الآن عن الاستهلاك دون توسط الإشهاري. وما زالت الحملة الانتخابية الفرنسية التي قادت فرانسوا ميتران إلى سدة الحكم حاضرة في أذهان كل المشتغلين بالميدان الإشهاري. بل يمكن القول إنها شكلت تحولاً جذرياً في تاريخ التواصل الإشهاري. ويكفي أن نشير هنا إلى كتاب جاك سيغيلا "هوليوود يصبن أحسن"، وهو مهندس الحملة المذكورة ومنفذها، لنتأكد من حجم التحولات التي طالت فلسفة الإشهار وطرق عمله. فقد صاغ في هذا الكتاب المبادئ العامة التي يجب أن يحترمها الإشهار لكي يكون ناجحاً. فليس عالم التسوق هو ما يغري، بل الأحلام المرتبطة به. لذلك فالامتلاك لا قيمة له قياساً إلى ما يمكن توحي به الكينونة.
وهو ما يعني أن الاستراتيجية الإشهارية ليست واحدة ولا تحتكم إلى نمط تواصلي واحد. فعمل الوصلة وتأثيرها ليسا منفصلين عن التقديرات الأولية السابقة لمناطق الانفعال والعقل عند الإنسان. ويكفي في ذلك أن نذكر بتنوع وتعدد خطاطات التسويق، إنها، في جميع الحالات، تكشف عن وجود سند إيديولوجي يتحكم في صياغة الوصلات ويحدد طريقة الاحتفاء بالمنتج، بدءاً من المدرسة السلوكية التي تعتقد في إمكانية تكييف السلوك الإنساني وشرْطه وفق غايات مودعة في الوصلة، وانتهاء بالخطاطات التي تؤمن بإمكانية مخاطبة منطقة الانفعال وحدها عند المستهلك وتحييد عمل العقل عنده. إن السبيل إلى وجدان المستهلك متنوع، فالمنتج واحد لكن الخطابات الحاملة له تتغير بتغير سياقات التلقي، ووفق تقديرات خاصة بالحاجات وطريقة إشباعها. ولقد فصلنا القول في هذا الأمر في مناسبات سابقة(3).
لذلك، فإن الإشهار يصنف ضمن ما يطلق عليه "التواصل الفعال"، أو ما يمكن إدراجه ضمن حالات إقناع تستند إلى الانفعال باعتباره الطاقة الأساسية التي تحرك الكائن البشري وتتحكم في سلوكه، بما فيها السلوك الشرائي بطبيعة الحال. إنه تواصل أحادي الاتجاه يثق فيما يجب أن يعرفه عن مستهلك مجهول تتحدد هويته من خلال القسم الذي ينتمي إليه، لا من خلال حالة فردية بلا نظير. ولأنه كذلك، فإنه لا يقدم المنتج مفصولاً عن سياق ثقافي، ولا يخاطب المستهلك من خلال خصائصه أو محاسنه، إنه يغري ويغوي ويصفي الوجود ويقدمه خالصاً نقياً طاهراً لا مكان فيه للتردد أو الخوف أو المرض. إنه الترياق السحري الذي ينقل من حالة إلى حالة وفق عجلة زمنية تنحاز إلى الآتي باستمرار.
وليس غريباً أن يُنظر إلى الإشهار في أغلب التوجهات الإشهارية على أنه يقوم على الإغراء والإغواء، وهو ما يعني في جميع الحالات استدراج المستهلك، من خلال الإشباع النفعي، إلى عوالم الاستيهام. وهي الطريقة الوحيدة التي يتم من خلالها تصنيف المنتج باعتباره حاملاً لقيمة رمزية لا مادة مكتفية بذاتها. فالوقوف عند الوظيفة المباشرة للمنتج لا يمكن أن تقود إلى الشراء. فليس من اللائق أن تتوجه الوصلة إلى جموع النساء لتذكرهن أن العطر يتيح لهن فرصة التخلص من الروائح الكريهة التي يفرزها الجسد نتيجة مجهودات ما. فالإرسالية في هذه الحالة تذكر بالحقيقة، لا بما يمكن أن يوهم بغيابها.
فعلى الرغم من أن تلك هي الوظيفة الأصلية للعطر، فهو البديل الثقافي لاستقطاب أصلي يقابل بين الطيب والخبيث، فإن هناك دائماً مضافاً يجعل العطر رديفاً للشبقية أو الجاذبية أو ما تشاؤون من الحالات التي تشكل الكينونة الاحتمالية للمرأة أو الرجل على حد سواء. وهو ما يأتي به الإشهار، بل تلك هي مهمته الأساسية: تحويل الحاجة النفعية إلى أسلوب في الحياة أو نمط في العيش. وليس سراً أن نقول إن النفعي لا يغري، فإشباع الحاجة المباشرة يحد من سلطته. فلا وجود لوصلة تتغنى "بالشبع"، بل هناك دائماً احتفاء بالرشاقة أو المتعة التي يجب أن تستزيد لا أن تقود إلى التخمة.
وهو ما يعني أن الاستهلاك في عمقه ليس سلوكاً فردياً، فهو لا يحتكم إلى قناعات الفرد القادر على بلورة رغبات يمكن التعاطي معها في انفصال عن المحيط الاجتماعي. إن الاستهلاك، بالإضافة إلى كونه إشباعا لحاجة، هو نوع من الرقابة الاجتماعية التي تشتغل كضابط صارم لكل محاولات الانزياح عن النموذج السلوكي الذي تبلوره الجماعة وتهتدي به. صحيح أن الوعي بالحاجة هو من طبيعة فردية، ولكن بلورته لا يمكن أن تكون إلا جماعية بالضرورة. "فالاختيارات الأساسية للمستهلك هي في نهاية الأمر قبول أو رفض لأسلوب حياتي خاص بثقافة بعينها"(4).
وهو ما يعني أيضاً إمكانية الحديث عن مستهلك ثقافي يشتغل باعتباره النوع الذي يبلوره التصنيف الثقافي المسبق لكل الذوات المستهلكة الممكنة. وهو ما يطلق عليه بعض الباحثين "الشخصية الأساس" وهي "صيغة سيكولوجية خاصة بأفراد مجتمع بعينه ولا يمكن أن تتجلى إلا من خلال أسلوب في الحياة يمكن لكل فرد، استناداً إليه، أن يبلور سلوكه الخاص"(5). وهذا ما يقود، بصيغة أخرى، إلى الفصل بين "الوضع" الذي يحدد لكل فرد موقعاً داخل نسق اجتماعي ما وفي لحظة تاريخية ما، وبين "الدور" الذي يحيل على مجمل النماذج الثقافية السلوكية المرتبطة بكل وضع(6). فالوصلة ليست استجابة لحاجة فردية، بل هي الصيغة الجماعية التي يتعرف فيها كل فرد على ما يوهمه بالتفرد.
استناداً إلى هذا، فإن الإشهار يمثل حالة من حالات التواصل الاجتماعي الذي يكف الفرد داخله عن التصرف كحالة مفردة قابلة للانكفاء على ذاتها، لكي يصبح تجسيداً لدور اجتماعي لا يمكن فهمه إلا من خلال النموذج الثقافي العام. وقد لا حظنا في مناسبة سابقة(7) أن الشعار الإشهاري قائم على مبدأ أساس: خلق حالة تنافس بين الفرد ونظرائه من المجتمع (كن أكثر غنى وأكثر سعادة وأكثر نجاحاً...). وهي الحالة التي يتم إسقاطها، خارج النموذج الاجتماعي، على المنتجات ذاتها (المسحوق "س" يصبن أحسن، المؤسسة "س" تقدم لك أفضل الخدمات....).
ومع ذلك، فإن ما هو أساسي في الوصلة الإشهارية ليس مضموناً، ولا وصفاً لحالة من حالات منتج معزول. فبالإضافة إلى كل ما يمكن أن تصرح به أو تلمح إليه أو تتغنى به بشكل مباشر، فإنها في المقام الأول خطاب، أي سلسلة من الصنائع البلاغية والجمالية التي يجب أن تغطي على الوظيفة لتفتح الباب واسعاً أمام حالة من حالات حلم يجب أن يقود الفرد إلى الانتشاء داخله بكل أشكال السعادة والطمأنينة. وهو ما يعني، بعبارة أخرى، أن قيمته ليست مستمدة، كما توحي بذلك المظاهر، من مادته أو وظيفته المباشرة، بل مودعة في الخطاب الحامل له. فخارج هذا الخطاب، تتساوى كل المنتجات وقد لا تثير اهتمام المتلقي إلا عندما تستدعي الحاجة استعمال هذا المنتج أو ذاك.
إن الأمر يتعلق، بعبارة أخرى، ببناء نص مكتف بذاته وخالق لآثار معنوية هي الضابط الأساسي لكل أشكال التلقي. فالكيان المفتوح لا يمكن أن يكون سندا لعالم دلالي مكتف بذاته. وكما هي كل حالات النصوص، فإن ما هو أساسي في الفن هو القدرة على اقتطاع جزئية من موسوعة ممتدة إلى ما لا نهاية، وإدراجها ضمن عالم يتم تلقيه باعتباره كذلك. "فالأثر" الدلالي ممكن فقط في حالة ارتباطه بعالم "منته"، أي حاصل عالم يفصل بين بياضين دلاليين. وهو ما تجسده "الوضعيات الإنسانية" المحتفى بها. فالمنتج "حي" ضمن حالة إنسانية ولا مستقبل له خارجها. وتلك هي المقدمة الرئيسة لحالات التطبيع المتتالية التي تجعل الفرد يتماهى مع وضع ألفته عيناه ووجدانه.
إن الحضور المستقل لا يلغي امتداد الموسوعة ولا نهائيتها. فلن يكون هناك بناء إلا استناداً إلى ممكناتها. والممكنات هنا تشمل كل شيء، العلاقات الاجتماعية والتاريخ والاستعمال الرمزي لأشياء المحيط وأشكاله وألوانه. إن استثارة انفعال المتلقي لا يمكن أن يستند إلا إلى ما أودعته الثقافة في وجدانه.
ولهذا السبب، فإن الوصلة لا تراهن على قول كل شيء، بل تعتمد البناء الذي يدفع المتلقي إلى الانتشاء بحالة انفعالية قابلة للعزل. وهو ما يعني أن الوصلة عالم مكتف بذاته، عالم يعتمد لغات متعددة وفق قصد جمالي يتحقق من خلال اختيارات فنية بعينها لا من خلال عرض محايد لمنتج نفعي. ويجد ذلك أبهى تجلياته في الاستعمالات الخاصة بالألوان والأشكال والوضعات وأشكال التقطيع الفضائي والزماني. وهي عناصر تقود كلها، وفق غايات مسبقة، إلى تحديد تخوم عالم قابل للعزل، عالم تحدده تخومه وتمنحه القدرة على إنتاج آثار بعينها هي السبيل الوحيد إلى الدفع بالمستهلك إلى الشراء. إن البعد التشكيلي ليس غريباً عن حالات الانفعال التي تودعها العين في الصورة.
إن الوصلة مركبة دائماً (أو هي كذلك في أغلب الحالات، فقد تكتفي بسند لفظي، ولكنها لا يمكن أن تكون صورة فقط، فالإكراهات التجارية تفرض حالة من حالات التثبيت المعنوي الذي عادة ما يقوم به البعد اللفظي). هناك تمازج بين التشكيلي والأيقوني ولا يمكن لأي منهما أن يشتغل في انفصال عن الثاني. لذلك لا فائدة من محاولة رصد مضمون الوصلة خارج الوقع الذي تحدثه أبعادهما في العين. فالمضمون المحتمل ليس شيئاً آخر سوى حاصل الانفعالات التي أودعها الكائن البشري في اللون والشكل والأشياء والوضعات، كما أودعها من قبل، أو من بعد، في كلمات تمردت دائما على التعيين والوصف المباشر للأشياء والكائنات. إننا نشتري الشكل أحياناً قبل المنتج، وقد يستهوينا اللون ولا نكترث لحامله.
لذلك، فإن اختيار اللون أو الشكل أو الخطوط أو الوضعات لا يختلف في شيء عن الاختيار الذي يفرضه النسق اللفظي. فالإشهاري يبحث في قاموس الاستعمال اليومي عن أسهل الكلمات وأبسطها وأكثرها قدرة على الجريان على لسان مستهلك يستهويه الجرس والقافية والإيقاع الموسيقي، أي كل ما هو سهل في النطق والتداول (يميز الإشهاريون بين "الألفاظ المشبعة" من قبيل الأسماء والأفعال والصفات، وهي ألفاظ حاملة لمضامين وقابلة للاستعمال في معزل عن الروابط، وبين "الألفاظ الفارغة"، ويتعلق الأمر بكل أدوات الربط التي تقوم عليها الجملة في الاستعمال العادي).
لذلك، فإن الصورة ليست مضموناً مودعاً في لفظ بالإمكان عزله في انفصال تام عن كل لغاتها، إنها في المقام الأول لون وشكل وتركيب ووضْعة. واستناداً إلى ذلك، فإن الإشهاري ينتقي من الألوان أقربها إلى النفس وأكثرها قدرة على التسلل إلى عين المشاهد وإثارة انتباهه، وينتقي من الأشكال أكثرها تعبيراً عن الحالات الانفعالية التي يعرض لها(8). ففي الألوان تسكن الفرحة والسعادة والاندفاع والبداية والحماس، تماماً كما يمكن للخط أن يكون دالاً على الصرامة والدقة والمنطق أو يكون رقيقاً دالاً على النعومة والليونة والأنوثة أو يحيل على عوالم الإيروسية الفاضحة. وهو ما يصدق على الشكل أيضاً، حيث لا يمكن للفضاء أن يحضر في العين إلا من خلال ما يمكن أن تقوله الدلالات المضافة للأشكال. وهناك، بالتأكيد أيضاً، تقنيات المشهد وزاوية النظر وتوزيع الأشياء على وجه الصورة، وكل ما هو مرتبط بلغة الكاميرا التي تقول الشيء الكثير عن المنتج وعن العين التي تضعه للتداول.
فليس غريباً أن تختار مؤسسة "اتصالات المغرب" مثلا اللون الأزرق كلون مركزي في مميزها تدعيماً لما يقوله الشعار اللفظي الذي لا تمل الوصلات من ترديده: "عالم جديد يناديكم". فالأزرق هو لون الصفاء والهدوء والسمو، إنه سماوي، لذلك فالدعوة مرتبطة دائماً بأثر صوفي يأخذ المستهلك إلى أعلى تعبيراً عن أمل هو الثابت في الوجود، لا ما يمكن أن يتحقق الآن وهنا. لذلك لم يكن الممكن الاستعانة بألوان أخرى من قبيل الأسود مثلاً، أو حتى الأحمر، فهذان لونان لهما سياقاتهما الانفعالية الخاصة.
وفي السياق ذاته اختارت شركة ميديتيل المزج بين الأحمر والأصفر استناداً إلى شعار لفظي يقول: "لتواصل أفضل". فالأحمر لون الاندفاع والحماس والمغامرة، وهو ما يجد له صدى في الفعالية التي تنشدها المؤسسة، وهو الأثر الدلالي الذي يدعمه الأصفر، لون الثراء والعلاقات المنطقية. لذلك تميل مؤسسة "اتصالات المغرب" إلى أشكال قريبة من الدائرة حتى في رسم الخطوط، وتقترب مؤسسة ميديتل من الأشكال القائمة ذات الزوايا، وهو أمر لا يلغيه قرص الشمس الدال على صباح جديد. إن الأزرق روحاني ويتجسد في الدائرة أكثر من أي شكل آخر، أما الأصفر فمادي ويستمد رنينه الخاص من المثلث أو المستطيل، وفي تقاطعه مع الأحمر يشد إليه من حيث حرارة الفعل وعنفوانه.
وتلك أمثلة بسيطة على غنى اللغة التي يعتمدها الإشهار من أجل استثارة مجمل الانفعالات المدفونة في لاشعور لا يكترث لأحكام العقل. فخارج هذه اللغات لا يمكن للوصلة أن تكون سوى ملفوظ تقريري قد يقول شيئاً ما عن المنتج، ولكنه لا يمكن أن يكون فعالاً من الناحية الفنية والتجارية. فالخطاب اللفظي يأتي إلى الأشياء من خارجها، أما الصورة فإنها لغة الانفعال بامتياز. إنها لا تقترح مفاهيم ولكنها تشخص حالات انفعالية لا يستطيع اللفظ أن يحتويها جميعها. إن المفهوم تجريدي وعام ووصفي، أما الصورة فهي استثارة لمخزون العين وقدرتها على الإفلات من الحدود التي يرسمها المفهوم ويحاصر الانفعال داخلها.
إن قضايا هذه اللغة هي ما تحاول المقالات التي يضمها هذا الكتاب بسط القول فيها. وهي مقالات كتبها مجموعة من الباحثين الجامعيين المغاربة والفرنسيين في مناسبات متنوعة واستناداً إلى فرضيات نظرية مختلفة. وربما هذا ما يمنح هذا الكتاب نكهة خاصة. فهو لا يتحدث عن الإشهار بصيغة واحدة، ولا يتناول نمطاً واحداً من الإشهارات، ولا يتناول بالدراسة لغة واحدة من لغات الإشهار المتعددة. إنه يحاول أن يقدم نظرة شاملة عن القضايا التي يثيرها الإشهار بما فيها قضايا التأثير الجمالي والإقناع التجاري والانحرافات الأخلاقية في الكثير من الأحيان.
لذلك جاءت مقالات هذا الكتاب متنوعة، بعضها نظري محض حاول البحث في الجذور المعرفية والجمالية للإشهار وأسسه ولغاته والأساليب التي يستعملها من أجل التسلل إلى وجدان مستهلك أعزل في غالب الأحيان. وبعضها الآخر تطبيقي حاول الاقتراب من عوالم بعض الوصلات الإشهارية للكشف عن حمولاتها الدلالية التي تختبئ في المألوف السلوكي والعادي والتفاصيل التي لا تثير حولها الشبهات.
ونتمنى أن نكون بجمعنا لهذه المقالات ضمن هذا الكتاب قد أسهمنا في التعريف بظاهرة لا أحد في منأى عنها، فالإشهار وجبة يومية يتناولها الصغار والكبار وعلينا أن نتعلم كيف نقرأه من خلال لغاته وآلياته التواصلية لا من خلال ما يقترحه من سلع وخدمات.
هوامش
(1) محمد الولي: الإشهار أفيون الشعوب المعاصر، في هذا الكتاب.
Armand Dayan :La publicité , P U F,1985 p 3.(2)
(3) انظر كتابنا: الصورة الإشهارية آليات الإقناع والدلالة، المركز الثقافي العربي، 2009 الفصل الثالث.
. Publicité et société ,éd Payot, 2001, p 202(4)
(5) نفسه ص 203.
(6) "personnalité de base" نفسه ص 203.
(7) انظر كتابنا: الصورة الإشهارية آليات الإقناع والدلالة، المركز الثقافي العربي، 2009 الفصل الثاني.
(8) نفسه الفصل الرابع.
http://saidbengrad.free.fr/ouv/pub-h...b_hiwar-22.htm
<!--