بسم الله الرحمن الرحيم
 
علام يحقر أحدكم أخاه
الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
 
فمما يؤلم النفس: ويكدر الخاطر، ويحزن الفؤاد، انتشار ظاهرة التحقير والازدراء والترفع على الناس، والنظر إليهم بعين الانتقاض والغمط.

ولا يتعاطى هذه الأخلاق إلا دني النفس، سقيم القلب، مشوش الفكر، معوج الخاطر، ولو أنصف هؤلاء لعلموا أن نفوسهم أولى بالتحقير والإزدراء والانتقاص ممن يحتقرون، فالعاقل من نظر في عيوب نفسه وغفل عن عيوب غيره.

أسباب احتقار الناس
وهؤلاء إنما يحتقرون الناس بأمور في أغلبها لا تميزهم عن غيرهم، ولا تعطيهم هذا الزهو والتيه الذي يشعرون به، ومن ذلك:

الغنى والفقر
 
فهم يحتقرون الناس لفقرهم وقلة ذات أيديهم، ويشعرون بأنهم قد تميزوا عليهم بالغنى والثراء وكثرة الأموال.

ووجود المال ليس فضيلة، بل ربما كان وبالاً على صاحبه، كما كان الحال مع قارون الذي كان المال سبباً في هلاكه، كما قال تعالى:
{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ{76} وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ{77} قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ{78} فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ{79} وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ{80} فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ} [القصص: 76-81]

النسب

وقد يحتقرون الناس لأنسابهم، والنسب لا ينفع صاحبه يوم القيامة كما قال تعالى:
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ{101} فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{102} وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 101-103]
 
فأي شيء نفعت هؤلاء أنسابهم؟
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين».

يشير صلى الله عليه وسلم إلى أن ولايته لا تنال بالنسب وإن قرب، وإنما تنال بالإيمان والعمل الصالح، فمن كان أكمل إيماناً فهو أعظم ولاية له، سواء كان له منه نسب قريب، أو لم يكن وفي هذا المعنى يقول بعضهم:
لعمرك ما الإنســـان إلا بدينــــه *** فلا تترك التقوى تكالاً على النسب
لقد رفع الإسلام سلمان فارس*** كما وضع الشرك النسيب أبا لهب

وقال صلى الله عليه وسلم: «ومن بطأ به عمله، لم يسرع به نسبه».

اللون واللغة

وقد يحتقرون الناس لألوانهم ولغاتهم، وهذا الاختلاف ليس لهم فيه يد ولا فضل، وإنما هو دليل على قدرة الله تعالى، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]
 
فالتفاضل بالتقوى والعمل الصالح لا بالألوان والأجناس واللغات وغيرها.

المكانة والشهرة

وقد يحتقرون الناس لتفضلهم عليهم في المكانة الاجتماعية، والمناصب الرفيعة، والشهرة والقوة، وهذه الأمور لا تنفع صاحبها إلا إذا سخرها في نصرة الحق وإقامة العدل، والأخذ على يد الظالم، أما إذا سخر في الظلم والبطش والغدر، والانتقام وأكل أموال الناس بالباطل فإنها تورده موارد الهلكة والخسران، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأهل الجنة، كل ضعيف مستضعف، لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر».

ولعل هذا المستهتزأ به أفضل عند الله تعالى من هؤلاء المستهزئين جميعهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رب أشعث مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره».

وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى عدم الاغترار بالمظاهر الخداعة، ففي حديث سهل الساعدي رضي الله عنه قال: مر رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس: «ما رأيك في هذا؟»
فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مر رجل آخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما رأيك في هذا؟»
فقال: يا رسول الله! هذا رجلٌ من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يسمع لقوله، فقال صلى الله عليه وسلم: «هذا خير من مثل الأرض مثل هذا».

وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «احتجت الجنة والنار، فقالت النار: في الجبارون والمتكبرون، وقالت الجنة: في ضعفاء الناس ومساكينهم».

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه ليأتي الرجل السمين العظيم يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة».

احتقار أهل الكمال

ومن العجيب أن بعض أهل النقص والسفاهة يحقر الكاملين علماً وديانة، وماذاك إلا لأنهم ليسوا على شاكلتهم في الحياة، وهؤلاء يذكرون المرء بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين: 29-30]

والأعجب من ذلك أن بعض المتعلمين ممن أوتوا حظاً من العلم يحقرون غيرهم من غير المتعلمين، ويكلمونهم بأنوفهم، وينظرون إليهم نظرة تأخر واستعلاء، بل ربما وصل الأمر بهم إلى احتقار غيرهم من طلاب العلم، وهذا يدل على أن نية هؤلاء في طلب العلم مدخولة، لأنهم لو أخلصوا في طلبه، لأورثهم ذلك تواضعاً وخشوعاً وانكساراً وخفض جناح المؤمنين.

إلى متى
فيا أخي الحبيب!
إلى متى يحقر بعضنا بعضاً، ويسخر بعضنا من بعض، والقرآن ينادي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]
 
قال ابن كثير رحمه الله: "ينهى تعالى عن السخرية بالناس وهو احتقارهم والاستهزاء بهم"، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الكبر بطر الحق وغمض الناس- ويروى غمط الناس».

والمراد من ذلك: احتقارهم واستصغارهم، وهذا حرام فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدراً عند الله تعالى وأحب إليه من الساخر منه الحتقر له.

إلى متى أخي الحبيب يحقر أحدنا أخاه وينتقضه والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله ولا يحقره التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله، إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم».

فيا أيها المتفاخرون المحتقرون! أين أنتم من هذا المنهاج الرباني القائم على العدل والقسطاس المستتقيم؟

جهود مشكورة

لابد أخي الحبيب أن تشعر كل مسلم بقيمته في الحياة وقدرته على العطاء وخدمته الدين، حتى ولو كان فقيراً معدماً لا يؤبه له، هؤلاء هم الذين قامت على أكتافهم أسس العقيدة، وحملوا بسواعدهم رايات النصر، فمن نحن بدون بلال بن رباح، وسلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وجلبيب، وغيرهم، من فقراء الصحابة وضعفائهم.

فينبغي أن نرى فضل هؤلاء ولا نجحد جهودهم كما فعل المترفون المكتبرون، الذين ذكرهم الله تعالى بقوله: {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 27]

ولعمر الله هذا هو الفضل بعينه، أن يكون الإنسان مسارعاً إلى الإيمان واتباع الرسل وإخلاص العبادة لله وحده، ومن هنا فإن الرسل أبوا أن يستجيبوا للملأ الذين كفروا ويطردوا هؤلاء المساكين، لأن الإسلام جاء بالعدل والمساواة بين الناس: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْراً اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} [هود: 31]

فإنكار هؤلاء وإبعادهم وتحقيرهم ظلم عظيم، حتى ولو كان في إبعادهم فرصة لإيمان هؤلاء السادة الكبراء، كما قال تعالى: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ{111} قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{112} إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ{113} وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ{114} إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الشعراء: 111-115]

وكما أن لهؤلاء البسطاء جهودهم المشكورة في تثبيت دعائم الدعوة ونشرها في الآفاق، فإن لهم جهوداً طيبة كذلك في بناء الدولة ونهضتها العمرانية وتقدمها المادي، بحيث إننا لا نستطيع الاستغناء عنهم في أي وقت من الأوقات.

ماذا يكون الحال إذا لم يكن هناك عمال للنظافة، أو متخصصون في أعمال السباكة والصرف الصحي، أو عمال في الورش والمصانع والمعامل والمناجم وحقول النفط، أو مزارعون بسطاء، أو رعاة فقراء، أو عمال بناء يتقون الشمس بوجوههم والناس في بيوتهم آمنون؟

إن هذه الأمة تحتاج إلى جميع الخبرات والطاقات والإمكانات، بدءاً بالتختطيط والإدارة، وانتهاء بالعامل البسيط الذي يحمل على ظهره بعض اللبنات ليسهم في بناء نهضة هذه الأمة.

فلا ينبغي احتقار شيء من المعروف ولو كان قليلاً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها، ولو فرسن شاة».

وفي الصحيحين عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: كنا نتحامل أي يحمل بعضنا لبعض بالأجرة فجاء أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رثاء. فنزلت: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79]

قال الصديق رضي الله عنه: "لا يحقرن أحدٌ أحداً من المسلمين، فإن صغير المسلمين عند الله كبير".

إعداد القسم العلمي بمدار الوطن

موقع وذكر الإسلامي
   
  • Currently 90/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
30 تصويتات / 477 مشاهدة
نشرت فى 29 سبتمبر 2007 بواسطة AMELABD

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

179,359