ترى مدرسة الجشتلت -إحدى مدارس العلاج النفسي- أن قوتين تتصارعان داخل الإنسان؛ الأولى هي قوة "ما يجب أن يكون" أما الثانية فهي قوة "ما أريد". وكلما اتسعت المسافة بين "ما يجب" و"ما أريد" كانت شدة الصراع أكبر، بما يؤدي في النهاية إلى السلوك المضطرب الذي يشير عند تحليله إلى أي القوتين المتصارعتين لها الغلبة الظاهرية وكيف تعبر القوة المغلوبة عن نفسها ليخرج السلوك في مجمله غير متسق أو مشوه. وقد تتسم القوة "ما يجب" بالحكمة والالتزام بالقوانين والأعراف، وقد تؤدي في حال تطرفها إلى حالة من الجمود وعدم المرونة وتجاهل للقوة "ما أريد". وقد تتسم أحياناً القوة "ما أريد" بالطفولية والعفوية وعدم النضج، وقد تؤدي في حال تطرفها إلى سلوك لا يتسق والمرحلة التي يعيشها الشخص متجاهلة القوة "ما يجب". السواء إذن هو توافق القوتين فيما بينهما ليكون السلوك الإنساني معبراً عن "ما أريد" في حدود "ما يجب أن يكون". ويساعد على تحقيق هذا التوازن بين القوتين إدراك كل قوة لوجود الأخرى والاعتراف بها ثم عمل التسوية بين مطالب كل قوة. قد يقوم طرف ثالث بعمل هذه التسوية وفض النزاع بين القوتين تكون مهمته وزن الأمور حتى لا ينفلت زمام أي من القوتين فتلغي إحداهما الأخرى، هذه المهمة يقوم بها الإنسان عندما يعي المتناقضات الداخلية فيقوم بالتسوية بينهما. إذن الوعي -أو لنقل العقل- هو الجهة القادرة على حل المتناقضات والصراعات بين "ما يجب" و"ما أريد"
الحال لا يختلف كثيراً عند الحديث من خلال وجهة النظر نفسها عن سيكولوجية العلاقة بين الحاكم والمحكوم؛ إذ من المفترض أن يمثل الحاكم منطق "ما يجب أن يكون" ويمثل المحكوم منطق "ما أريد" بغض النظر عما يجب أن يكون. وبسبب تعارض هذان المنطقان فإنه حتماً سيصل الأمر بينهما إلى الصراع، الذي لا يكون حلّه إلا في وجود قطب ثالث يلعب دور العقل المفاوض الذي يسعى إلى إيجاد تسوية لهذا الصراع بما يرضي الطرفين؛ فيفعل المحكوم ما يريد في إطار ما يجب أن يكون، أو العكس فيفعل الحاكم ما يجب أن يكون بحيث لا يقهر ما يريد المحكوم، مما يعني ضرورة تنازل قطبي الدولة الحاكم والمحكوم عن بعض من رغباتهم وحرياتهم في سبيل استقرار الدولة وتوافق العلاقة بينهما. أتصور أن من يقوم بدور العقل والوعي في الأمة هو الديمقراطية والحياة النيابية وأحزاب المعارضة للوصول إلى التسوية المقبولة والمرضية لقطبي العلاقة الحاكم والمحكوم. وعندما يحدث أن تفقد الأمة عقلها فلا ديمقراطية ولا حياة نيابية ولا أحزاب معارضة، هنا يحدث الصراع بين قطبي العلاقة أو يحدث الصراع بين "ما يجب أن يكون" من وجهة نظر الحاكم وبين "ما أريد" من وجهة نظر المحكوم، وقد يصل الصراع إلى حد الاضطراب فتصبح الدولة كياناً مريضاً معتلاً؛ وتعاني كثير من الدول النامية من هذا الاضطراب. كما يفترض أنه كلما نضج المحكوم أصبح "ما يريد" ليس بعيداً كل البعد عن "ما يجب أن يكون"، والعكس صحيح كلما كان المحكوم طفلياً زادت المسافة بين "ما يريد" و"ما يجب".
تمر الشعوب بمراحل تطور ونمو مثلها مثل الإنسان في تطور نموه من طفولة فمراهقة فنضج فشيخوخة. وأظن أن جميع الشعوب في الدول العربية ما زالت في مرحلة الطفولة باستثناء مصر وتونس والجزائر والمغرب وأحياناً الكويت ولبنان؛ فيمكن اعتبارهم في طور المراهقة، وأحياناً يقفز الشعب المصري واللبناني من المراهقة إلى مرحلة النضج، وإن كانت لبنان كثيراً ما تنتكس إلى مرحلة الطفولة. وإذا حاولنا تطبيق مفاهيم مدرسة التحليل التفاعلاتي لإيرك بيرن والتي تقول أن هناك ثلاث حالات للإنسان في تفاعله مع الآخر وهي "الوالد– الراشد– الطفل"، فيمكن القول تبعاً لذلك أنه إذا كان المحكوم طفلي كان أكثر طاعة للحاكم كما هو الحال في البلاد المحررة حديثاً، فنجدها ملتفة مطيعة طاعة عمياء للقائد ترى فيه النموذج وتتبعه تبعية الطفل للوالد وتعتمد عليه اعتمادية الرضيع على أمه.
وهكذا كانت مصر بعد ثورة 23 يوليو 1952، وهذا أيضاً الحال في كل دول الخليج الآن، وفي ليبيا أيضاً. ودائماً ما يمارس الحاكم في الوطن العربي دور الوالد فنجد علاقته مع المحكوم تأخذ علاقة الوالد/ بالطفل، وقد يكون هذا الوالد حنوناً عطوفاً كما هو الحال في دول الخليج دون استثناء؛ والنموذج المثالي لهذا الأب العطوف هو الشيخ زايد رحمه الله في دولة الإمارات، وقد يكون هذا الوالد عطوفاً إلى حد أن يصبح المحكوم كالطفل الذي أفسده التدليل كما كان الحال مع الملك خالد بن عبد العزيز رحمه الله في المملكة السعودية، وقد يكون هذا الوالد عنيفاً يرفض المناقشة والتفكير ويجد في العقاب الوسيلة المثلى للتربية، وأعتقد أن هذا هو الحال مع معظم الحكام العرب؛ والنموذج المثالي لهذا الوالد المتسلط في أقصى درجات تطرفه وعنفه هو صدام حسين في العراق.
كلما نضج المحكوم ازدادت استقلاليته؛ حتى إذا وصل للمراهقة فهنا يبدأ الصراع الحقيقي بين ما يريد وما يجب أن يكون؛ وفي هذه الحالة يجب على الحاكم معاملته باعتباره شخصاً وليس طفلاً، وإعطائه مساحة أكبر من الحوار وحرية الرأي وحرية اتخاذ القرار وحرية الخطأ أيضاً. ومحاولة الحاكم اعتبار المحكوم المراهق مجرد طفل لا يعرف "ما يريد" فهذا يعني بالضرورة قهر نموه ليصبح وكأنه جسد رجل كبير بعقل طفل، أو بالأحرى أمة كغثاء السيل. ويعني هذا أن الحاكم إنما ينصب من نفسه وصياً شرعياً على هذا المعاق ذهنياً ليتصرف كيفما شاء وبما يراه واجباً أن يكون ودون اعتبار لما يريد المحكوم. فعلى الحاكم أن يدرك أن المحكوم لم يعد طفلاً وأنه دخل في مرحلة المراهقة، ومن ثم فمن حقه أن يكون له دوراً ورأياً وشخصية منفصلة لها ملامحها المميزة؛ وإذا لم يع الحاكم ذلك فإنه سيدخل في صراع وصدام حتمي حيث يصر على ممارسة دور الوالد العنيف الذي يظن أن في الشدة الأسلوب الأمثل للتربية لهذا الطفل العاق الذي لا يحترم أبوه ولا يجلّه، وأظن أن هذا الوضع ينطبق على رؤية الرئيس السادات للمعارضة في مصر، فالخطأ الذي وقع فيه السادات هو ظنه أن الجماعات الإسلامية مثلها كمثل اليساريين طفل يمكن ردعه بالعقاب والترهيب؛ ولم يدرك أنهم كالمراهقين عندما يشكلون جماعات فهي أشبه بعصابات تتسم بكل صفاتها السلبية من حمق واندفاعية وتهور دون حساب للعواقب، لهذا انتهى الصراع بينهم الى ما انتهى إليه من حادث اغتيال المنصة. وبالمثل فقد ارتكب السادات نفس الخطأ مع القادة العرب عند ظهور اتفاقية كامب ديفيد؛ ففي قرار ذهابه لإسرائيل أو في تحريكه لعملية السلام لم يعتمد على الحوار والتشاور راشد/ لراشد مع القادة العرب، وإنما كان يلعب دور الوالد الذي يطلب ولا يتوقع من الطفل سوى ضرورة اتباع أوامره فهو الوحيد الفاهم الذي يعلم ببواطن الأمور، فإذا كان هؤلاء القادة ليسوا بالأطفال بل إن منهم من يتعامل على أنه هو الوالد الذي يجب اتباع أوامره ونواهيه؛ ومن ثم كان الصراع حتمياً، صراع والد/ لوالد كل منهم يرى أنه الصواب وأن الآخر هو الطفل وعليه الطاعة، فكان الصدام الشديد والقطيعة بين السادات والعرب.
إذا كان المحكوم– كما هو الحال في مصر- يتخطى المراهقة ويسعى للدخول في مرحلة أكثر نضجاً، بينما يصر الحاكم على أن يمارس فقط دور الوالد المتسلط فهنا تكون الطامة الكبرى، إذ سيرى الحاكم أن المحكوم غير ناضج ولن يحسن استخدام الديمقراطية والحياة النيابية. وبما أن المحكوم راشداً وعاقلاً ويعرف ما يريد فإنه سيدخل في صراع لا ينتهي مع الحاكم، قد يصل إلى حد صراع إثبات شرعية الوجود، وكلما كان الحاكم مستبداً متحصنا بـ "ما يجب" كان باطشاً بالمحكوم إما سجناً أو اعتقالاً له حتى يثنيه عن مواقفه المعارضة لسلطة الحاكم، وقد يحدث في قمة الشذوذ النفسي ألاّ يحكم الحاكم منطق "ما يجب" بل يحكمه منطق "ما أريد" وكأننا هنا أمام طرفين كل منهما يحكمه منطق "ما أريد"، أو لنقل أننا أمام طفلين كل يتعلق باللعبة في مقابل الآخر، وسينتهي الصراع بينهما إلى تمزق اللعبة، فلو كانت اللعبة هي الوطن، لنا أن نتصور كيف سيكون الأمر! هكذا الحال في لبنان عندما تنزلق القوى الوطنية أحياناً إلى نمط العلاقة طفل/ لطفل فلا يفكر أي منهم في "ما يجب" وإنما الكل ينشغل "بما يريد". وقد يحدث أيضاً في قمة الشذوذ النفسي– كما هو الحال في بعض الدول العربية- أن نجد الحاكم الطفل الذي يبحث فقط عما يريد دون الالتفات إلى "ما يجب"، بينما المحكوم هو الراشد العاقل الذي يسعى لحماية نفسه والوطن من عبث الحاكم وتخريبه.
إن الحال الأمثل للعلاقة بين الحاكم والمحكوم يتمثل في أن الحاكم عليه أن يعامل المحكوم باعتباره أن من حقه الصراع ومن حقه "أن يريد"، مما يعني ضرورة ممارسة الديمقراطية والحياة النيابية الكفيلة بفض هذا الصراع حتى يكمل المحكوم مراحل نموه بسلام فيمر بمرحلة المراهقة وصولا الى مرحلة الرشد والنضج الفكري لتصبح العلاقة بين الحاكم والمحكوم علاقة راشد/ براشد وليس علاقة والد/ بطفل؛ وبذلك تقل المسافة بين "ما يجب" و"ما أريد" إلى أقل ما يمكن؛ فتكون قرارات الحاكم والمحكوم متفقة تماما إزاء القضايا والأهداف الموضوعة للدولة. وهذا الشكل الأخير من العلاقة لا نجده إلا في علاقة حماس بالفلسطينيين في غزة؛ إذ تكاد أن تنعدم المسافة بين الحاكم والمحكوم أو بين "ما يجب" و"ما يريد"؛ فهناك اتفاق تام على هدف واحد.
عندما يحدث الصراع بين الحاكم والمحكوم تظهر الحركات المعارضة الداعية للتغيير؛ فإذا أخذنا مصر كنموذج نضعه تحت المجهر لفهم ما يجري، سنجد أن هناك علامات خمس يجب الوقوف أمامها، وهي:
أولاً: ظهورحركة "كفاية" وغيرها من الحركات الداعية للتغيير.
ثانياً: التحول النوعي في هذه الحركات بظهور حركة "شباب 6 ابريل" والتي دعت الى الإضراب العام.
ثالثاً: تعاطف السكان في منطقة مجلس الوزراء مع موظفي الضرائب العقارية المعتصمين أمام مجلس الوزراء للمطالبة بتعديل أوضاعهم المادية.
رابعاً: إذا كانت النكتة السياسية تعبر عن وعي الشعب، فبالمثل إن فكرة فيلم "رامي الاعتصامي" بغض النظر عن محتواه قد تعبر عما يدور في وعي الشعب.
أخيراً: ارتداء الكثير من الشباب لقمصان عليها صورة "جيفارا"، والتي تعكس إحياءً لفكر ثورة المقهورين. تشير هذه العلامات الخمس في تصوري إلى تطور وعي المواطن في مصر، ولكن إلى أين؟.
في النهاية أتصور أن الطامة الكبرى تقع عندما لا يدرك الحاكم مرحلة النمو الفكري التي يمر بها المحكوم فيصر على أن يراه في ثوب الطفل وليس على ما هو فيه من مرحلة نمو فكري، رافضاً فهم الإشارات الداعية للتغيير التي يرسلها المحكوم، أو أن يرفض الاستجابة لهذه الإشارات بالديمقراطية والحياة النيابية للوصول إلى التوافق بين "ما يجب" و"ما يريد". إن الطامة الكبرى تقع عندما لا يدرك الحاكم أنه إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر!.
نشرت فى 13 مايو 2009
بواسطة ABODY
عدد زيارات الموقع
6,269
ساحة النقاش