في النقد الأدبي
حواريّة نقديّة مع الأستاذ فراس حج محمد، حول نصّه:
في المدينة (٣)
أ. عمر غوراني
النّصّ:
لا تخافي من مدينتنا وإن شاخت ملامحها
وأنهكها الغياب!
هذي المدينة تستريح فيكِ قليلا كي تنام على جفونكْ
اتركيها مثل حلم واصنعي جيتارة أخرى وغني
فالسماءُ
الشعرُ
والدفلى
وزهر البيلسان
والأحاديث الجميلة باقيةْ
والشعر يحلم أن يظل مغردا على شفتي طيور في حدائق من جنون وولهْ!
لا تخافي من مدينتنا التي صغرت بها ظلال الياسمين
ستعيد نشر مفاتن الوردةْ
وتشرب من رحيق الشمس معنى آخراً
يشبه نفسه إذ يستظل بظلك الممتد مع تلك الغيوم!
لا تخافي من مدينتنا التي تصحو كل نهار تفتش عنا
لا تخذلي تلك الرغبة المكنونة في صباح الأقحوان
واستيقظي مع كل فجر واكتبي
أحبك يا مدينة من ذكريات!
***
عمر غوراني:
لم أجد قصيدة قرأتها للأستاذ فراس أنضج من هذه - فيما أذكر - في لغتها الشعريّة وصورها وأخيلتها.. غير أنّ ما أحزنني على الصعيد الفنّي عثار موسيقيّ عروضيّ في مواضع كثيرة - نسبيّا ً - وجراحات بالغات من أثر هذا العثار أدمت جسد القصيدة! وأقول أحزنني، لأنني أحببت لهذا النضج الفنيّ للقصيدة في لغتها الشعريّة وصورها، وهما من أهمّ عناصر الفنّ الشعريّ، بل أهمها فيما أرى على الإطلاق، أن يكتمل نضج القصيدة في فنّها بسلامة عروضها، وهو عنصر آخر رئيس، لا يمكننا تجاوزه بحال، إلاّ أن نتخذ للقصيدة شكل قصيدة النثر. وساعتها، فإنّ لهذا الفنّ أصولا ً وتقاليد فنيّة مرعيّة مختلفة. ولعلّ السبب في عثار موسيقيّ متكرر، لا سيما في قصيدة الشعر الحرّ عند الأستاذ فراس، سببها قلق وحيرة أخرى لديه، ولكنها فنيّة هذه المرة، تجعله يتراوح قلقا ً بين قصيدة الشعر الحرّ والقصيدة العموديّة التقليديّة بهوى مزدوج..
***
فراس حج محمد:
شكرًا على ما قدمت أخي عمر غوراني، وما تفضلتم به ليس عثارا موسيقيا، بل هو موسيقى خاصة بالقصيدة، وقد تجاوزت في نصوص كثيرة الالتزام بالنسق العروضي الرتيب والتقليدي إلى نسق خاص تفرضه اللحظة؛ فلم أشأ أن أكتب قصيدة شعر حر في نصوص "في المدينة" تلك النصوص التي بدأتها بقصة قصيرة جداً، ولكنني أكتب نصا فيه بعض العبارات الموزونة التي لم أقصدها وجعلت القصيدة مبنية على تقنية قصيدة النثر التي جرّبتها في ديوان "مزاج غزة العاصف" وفي كثير من قصائد ديوان "وأنت وحدك أغنية".
***
عمر غوراني
جميل أخي فراس! أعرف أنّ مذاهب الأدب الآن - معذرة - تعيش فوضى عارمة، كالفوضى التي يعيشها العربيّ المسلم الآن في أوطانه. غير أنك قد أثرت فضولي لأتساءل إن كان الخروج من نغم إلى آخر في بحور الشعر، حتى لتجد مقاطع لا تستطيع نسبتها لأيّ بحر، قد اطّلعت عليه عند سواك فأعجبك، أم إنه ابتكار فنيّ خالص لك، أنت رائده. أمّا قصيدة النثر، فإنّ الموسيقى الداخليّة فيها ركن ركين، لا يمكن تجاوزه لا سيما وقد تنازلنا فيها عن الوزن العروضيّ والرويّ معاً. وتقول: "تلك النصوص التي بدأتها بقصة قصيرة جداً، ولكنني أكتب نصا فيه بعض العبارات الموزونة التي لم أقصدها، وجعلت القصيدة مبنية على تقنية قصيدة النثر... "، وهذا ما عنيته أنا بالضبط في تعقيبي السابق من القلق الفنيّ في القصيدة الواحدة والحيرة بين شكلين موسيقيين مختلفين من القصيد.. أحييك.
***
فراس حج محمد:
عندما أكتب مثل هذه النصوص أصف لك شعوري؛ حينها تكون في سمعي سلسلة ومتوافقة مع ما أريد، عكس القصيدة ذات الشطرين التي يعدّ الخلل العروضي عيبا فيها، أما هذا النوع من القصائد فهو مازج بين تقنيات السرد وتقنيات الشعر، ويرواح بينهما، ولا أتعمد كسر الوزن أو المحافظة عليه؛ إن جاء عفوا فأهلا وسهلا ومرحباً، وإن لم يأت لا أبحث عنه!
أما إن كان هذا النمط خاصا أم عند غيري، فلست أدري كم من مجرّب طريقتي هذه، ولكنني سأفشي لك سرا وللقراء والمتابعين أنني أستهدي القرآن الكريم وتركيبيته اللغوية في اعتمادها على الوزن والموسيقى الداخلية والخارجية، وكذلك السردية الموجودة في الآيات، وقد قلت ذلك في حوار أجرته معي صحيفة الوطن السعودية فلا حدود فاصلة. المهم ألا تتعمل، ولا تتكلف، واترك النص يجري بك حيث هو يشاء لا حيث تكرهه يداك!