فراس حج محمد

موقع يختص بمنشورات صاحبه: مقالات، قصائد، أخبار

 

قصة قصيرة

هي غرغرينا الوقت!!

فراس حج محمد

"لقد كنت مضطرا لفعل ما فعلت؛ فلم أحتمل أكثر عذابا طاحنا يقتلني كل ثانية ويسري فيحيل دمي رمادا منثورا في قارعة الانتظار مركونا كقطعة أثاث بالية لا يلتفت إليها صاحبها، ويتمنى لو يأتي أحدهم ويحملها إلى مكبّ النفايات، فتحترق وتذهب بسرها وبشرها، فلم يكن وجودها خيرا لصاحبها على ما يبدو".

هذا ما قاله لنفسه عندما أخذ يتفقد بريده مرات ومرات، ولكن لا جدوى، إنها ما زالت تمارس اللعبة نفسها من الإهمال وعدم الاكتراث، يقرر أن يكتب لها نصا يودعها أو يعاتبها، أو يقتلها حبا ويخرجها من دمائه، فتابع فقرته الأولى، بعد أن حسم أمره في أن لا تكون من أصدقائه على الفيس بوك، فيختار حظرها، لكي لا يرى ما يثير حفيظته من تجوالها عبر صفحات الأصدقاء، فتعلق وتشارك وتنفعل، وتخاطب هذا بصديقي، وذاك بدون ألقاب، فقد شعر أنها تتعمد إهانته وإذلاله، فأكمل قائلا:

"لقد كنت مضطرا اضطرارا فاض عن حد الاحتمال لفعل ما فعلت، فليس لي من قدرة لأصمد وأقف أطول، وأنا أعرف أن القطار لم يأت ليحملني إليك؛ لأنك لم تكوني على استعداد لحجز المقعد الذي كان يليق بي وأنا أخلص لك بكل جوانحي، فلقد أحببتك وما زلت ولن يذوب الحب أو يتلاشى، فهو ليس قطعة جليد تشرق عليها الشمس فتسيح وتصبح كأنها لم تكن، ولم يكن قلبي قطعة من الشكولاتة أو حبة من البوظة رخيصة الثمن لتستلذي بها وقت ما تشائين، إن قلبي أثمن وأغلى مما تتوقعين، إنه ليس له ثمن إنه قلب تفجر وتفتت وهو مشتعل الحنين لتعودي إليه ولكن لا فائدة".

شعر بغصة تملأ حلقه، إنه يكتب وجعا تفجر مرة واحدة كبركان يريد أن يحرق الأخضر واليابس، أخضرها وبهاءها اللذين لم يكونا له ولم يحظ بنصيب منه، ويابسه المتحجر، أراد أن ينتقم من كل شيء في هذا الوجود، محاولا استرداد كرامته، فهو ما زال يرى نفسه "رجلا غير مدجن"، كما قال في رسالته الوداعية مضيفا: "ولا أحب الشراكة، ولن أستوعب أن تكوني لغيري أبدا، فإما لي وإما فالموت، فهو أهون علي من أن أتابع وأسمع وأرى ما يجعل النار شريانا يسحق أبجديتي ويشلّ حركتي ويعطل أفكاري".

كان في كل مرة وهو يضيف فقرة على رسالته لها، كأنه يحاول أن يمنع عن روحه النفس، ليشعر بالاختناق، يتمنى لو أنه يستطيع أن يستل روحه ويرمي بها، إنه لا يحاول أن يخدر أعصابه، يريد لها أن تحترق أكثر وأكثر:

"كنت مضطرا أيها العذاب الأبدي لأقطع جزءا من ذاتي وأطحنه وأميته وأتخلى عنه لأن الغرغرينا قد أصابته فتعفن، لقد تغلغلت الغرغرينا في الوقت، فصار يلزمها البتر لا محالة، لقد أصبتُ بعدوى الانتظار فلم أجد من يشفي جراحي ويبلسمها، انتظرت بلا أمل وبلا فائدة، فكان البتر أهونها طريقة على شدة الألم الذي خلفه وراءه، وعلى شدة النقص الذي أحدثه في الروح والقلب والجسم معا، ولكن لا حل سوى ما فعلت، فلا تلوميني ولومي غرغرينا الوقت، إن لم توافيك الشجاعة للوم نفسك، جراء ما صنعت يداك".

لم يرد أن يتحنن لها أو يتودّد وهو يشعر أنها تسبح في فلك آخر، وتصبّ في بحيرة غير بحيرة قلبه، أراد فقط أن يلسعها بالكلمات لعلها تدرك كم كانت قاسية معه، وهي تتركه هائما، بلا روح وبلا عقل، فقد حولته إلى مجرد شيء تافه، وربما لا شيء بالنسبة لها:

"كنت مضطرا بأن أموت، وأحاول الخروج إلى غير رجعة، رحلت من هناك فلتطمئني، فلا تحاولي البحث عني أو التفتيش في الذكريات، فليس لها أي نفع سوى زيادة الألم، أودعك الوداع الأخير، وأعلم أن حياتي مدبرة ومقبلة، مدبرة عن فرحها، مقبلة على خريف قاس، وأدرك أن حياتك مقبلة ومدبرة، مقبلة على حياة جديدة مليئة بالفرح والحياة والحيوية، فأنت ما زلت في عمر الزهور، فاستمتعي وتمتعي ولتواصلي الشدو والغناء مع من أردت، ومدبرة عن محطة الحب الذي فاض فأغرق الكون بأجمعه، مدبرة عن رحاب القلب الذي أحبك دون أمل، وأحبك مستعدا ليكون لك وحدك، فأشحت القلب عنه، فصارع الموت، فماذا تظنينه أن يفعل بعدها، لقد كنت مضطرا لأموت على شواطئ الإهمال لعلني أترك مقعدي، فيجلس عليه من هو أولى مني وأقرب إليك نفسا وروحا".

يستشعر مرارة الهزيمة القاسية التي أثقلته بكل التفاصيل، يسترجع كل ما حدث معه، لا يكاد يصدق أنها هي من تفعل معه كل هذا، اغرورقت عيناه بالدموع، شعر بوخزة في قلبه، شهق ولكنه لم يستطع أن يعيد النفس، شعر بالاختناق لدرجة أنه خشي على نفسه من الموت قبل أن يكمل رسالته:

"أعلن أنني قد فشلت، والفشل ليس قرارا سهلا، إنه إعلان الهزيمة والرضوخ والاستسلام لغير ما كانت نفسي تتوق إليه وتشتاق لتحقيقه، أسامحك على كل ما فعلت من استدراج ومكائد لتصيدي قلبي الرهيف، لقد نجحت في إيقاعي في المصيدة، ولكنني كنت أرجو أن أظل أسيرا في قفص تصنعينه لنكون فيه، ولم أكن أتوقع أن تتلذذي بقتلي، وتقطعي أشلائي واحدا تلو الآخر، ثم تغادري طقوس الصيد تلك، وقد تركتني جثة هامدة في صحراء الخواء والرياح تصفعني في كل وقت".

وصل أخيرا للجملة التي لم يكن يجرؤ على كتابتها، ويخاف أن يرى دلالتها في حياته وواقعها، عبّ نفسا طويلا، حرّك أصابعه عدة مرات، ليمرنها لتستمر في الكتابة، أغمض عينيه، وكتب سطره الأخير:   

"نامي بحضن من اخترت فليس لي مكان لم يتبق لي سوى التلظي في شقائي ما تبقى من بعض أيامي، ولعلها أقصر مما تتخيلين".

ظلت رسالته هناك تعاني من الفقدان والمرارة، ولم تجد أحدا يوصلها، فقد أخذته الغفوة ونام، وهو يصارع آلاما تكاد تقضي على كل حياة محتملة أو كائنة في هذا الوجود!!

 

المصدر: فراس حج محمد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 233 مشاهدة
نشرت فى 24 يناير 2013 بواسطة ferasomar

فراس عمر حج محمد

ferasomar
الموقع الخاص بــ "فراس حج محمد" »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

726,359

فراس حج محمد

نتيجة بحث الصور عن فراس حج محمد كنانة أون لاين

من مواليد مدينة نابلس في فــلسطين عــام 1973م، حاصل على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني الحديث من جامعة النجاح الوطنية. عمل معلما ومشرفا تربويا ومحاضرا غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة. 

عمل محررا لغويا في مجلتي الزيزفونة للأطفال/ رام الله، وشارك في إعداد مواد تدريبية في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وكان عضوا في هيئة تحرير مجلة القانون الدولي الإنساني/ الإصدار الثاني الصادرة عن وزارة التربية والتعليم في فلسطين.

نشر العديد من المـقالات والقـصائد في مـجالات النشر المختلفة الإلـكترونية والصحف والمجلات في فلسطين والوطن العربي وبريطانيا وأمريكا وكندا والمكسيك. وشارك في ندوات وأمسيات شعرية ومؤتمرات في فلسطين.

الكتب المطبوعة: 

رسائــل إلى شهرزاد، ومــن طقوس القهوة المرة، صادران عن دار غُراب للنشر والتوزيع في القاهرة/ 2013، ومجموعة أناشيد وقصائد/ 2013، وكتاب ديوان أميرة الوجد/ 2014، الصادران عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل/ رام الله، وكتاب "دوائر العطش" عن دار غراب للنشر والتوزيع. وديوان "مزاج غزة العاصف، 2014، وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في القصة القصيرة جدا- دار موزييك/ الأردن وديوان "وأنت وحدك أغنية" عن دار ليبرتي/ القدس وبالتعاون مع بيت الشعر في فلسطين، وكتاب "يوميات كاتب يدعى X"، وكتاب "كأنها نصف الحقيقية" /الرقمية/ فلسطين، وكتاب "في ذكرى محمود درويش"، الزيزفونة 2016، وكتاب "شهرزاد ما زالت تروي- مقالات في المرأة والإبداع النسائي"، الرقمية، 2017، وديوان "الحب أن"، دار الأمل، الأردن، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، مكتبة كل شي، حيفا، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد"، مؤسسة أنصار الضاد، أم الفحم، 2018، وديوان "ما يشبه الرثاء"، دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، 2019، وكتاب "بلاغة الصنعة الشعرية"، دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020. وكتاب "نِسوة في المدينة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2020. وكتاب "الإصحاح الأوّل لحرف الفاء- أسعدتِ صباحاً يا سيدتي"، دار الفاروق للنشر والتوزيع، نابلس، 2021. وكتاب "استعادة غسان كنفاني"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2021، وكتيّب "من قتل مدرّس التاريخ؟"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2021. وديوان "وشيء من سردٍ قليل"، وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله، 2021. وديوان "على حافّة الشعر: ثمّة عشق وثمّة موت"، دار البدوي، ألمانيا، 2022. وكتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة"، الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمان، 2023. وكتاب "متلازمة ديسمبر"، دار بدوي، ألمانيا، 2023. وكتاب "في رحاب اللغة العربية"، دار بدوي، ألمانيا، 2023، وكتاب "سرّ الجملة الاسميّة"، دار الرقمية، فلسطين، 2023. وكتاب "تصدّع الجدران- عن دور الأدب في مقاومة العتمة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمّان، 2023، وديوان "في أعالي المعركة"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2023، وكتاب "مساحة شخصية- من يوميات الحروب على فلسطين"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "الثرثرات المحببة- الرسائل"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "فتنة الحاسة السادسة- تأملات حول الصور"، دار الفاروق للثقافة، نابلس، 2025. 

حررت العديد من الكتب، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب والدواوين المخطوطة. 

كتب عن هذه التجربة الإبداعية العديد من الكتاب الفلسطينيين والعرب، وأجريت معي عدة حوارات ولقاءات تلفزيونية.