من غير المألوف في تاريخ الفن أن تحمل لوحة اسماً بارداً يتضمن رقماً تسلسلياً مثل «المقصورة سي، العربة 293» التي رسمها الأمريكي إدوارد هوبر عام 1938م، فمن أين أتى مثل هذا الاسم البارد المقتبس من عبارات تذاكر السفر بالقطار؟
ولد هوبر في ولاية نيويورك عام 1882م (وتوفي عام 1967م)، ظهرت موهبته في فن الرسم منذ أن كان في الخامسة من عمره، فحظي بتشجيع والديه له على دراسة الفن. وبالفعل، انتقل في العام 1899م إلى معهد نيويورك للفن والتصميم، ليعمل لاحقاً كمصمم في إحدى شركات الإعلان. وفي العام 1913م، تمكن هوبر من بيع أول لوحة له في معرض «أرموري» الشهير، غير أن شهرته الكبيرة لم تأته إلا بعد عدة سنوات.
كان هوبر حتى آنذاك قد سافر أكثر من مرة إلى أوربا، التي كان الطليعيون فيها قد غرقوا في التكعيب. ولكنه وإن درس إنتاج هؤلاء فلم يتأثر بأي منهم. بل بقي معجباً بالواقعيين، وأعلن بنفسه لاحقاً بأنه لم يخضع لأي تأثير غير تأثير الحفَّار الفرنسي شارل ميرون مصور مشاهد الحياة الباريسية.
تميزت أعمال هوبر في فترة نضجه الفني بشخصية خاصة جداً غير مألوفة آنذاك (ولا في ما بعد). فمعظم لوحاته تمثل أفراداً منعزلين في أماكن مؤقتة غير بيوتهم. فمنهم من يجلس وحيداً يقرأ رسالة في غرفة فندق، ومنهم من يحتسي شراباً في حانة لا أحد فيها غيره، ومنهم من يسرح بنظره من نافذة عربة القطار.. وكأنهم تركوا أحداً خلفهم، أو أن أحداً تخلَّى عنهم.
في لوحته التي نحن بصددها هنا، نرى امرأة وحيدة في مقصورة قطار تقرأ مجلة، في رحلة ليلية حسبما يبدو من نافذة القطار، حيث نرى جسراً (رمزا آخر للانتقال) وخلفه غابة وقت الغروب. وبشكل عام، تقتصر «موجودات» هذه اللوحة على كتلتين ساكنتين، المرأة من جهة والنافذة من جهة أخرى. والباقي، كله مساحات لونية خالية من الزخارف والتفاصيل. وهذه الألوان داكنة في معظمها، حتى الفاتح منها بفعل التناقض الكبير ما بين الضوء والظلال، يفتقر إلى البهجة.
ففي كل لوحات هوبر تقريباً، ثمة لمسة حزن أو كآبة، أو غياب للبهجة في أحسن الأحوال. ولكن المدهش في هذه اللوحات أن هذه الكآبة لا تنتقل إلى المشاهد، بل إلى التفكير وربما إلى الإحساس بالتعاطف (بعد التفكير) مع هؤلاء الأفراد الآتين من حيث لا نعرف، والذاهبين إلى حيث لا يعرفون.
فعندما يدور الحديث اليوم عن «فردية» الإنسان في المجتمعات الصناعية، وعن التحولات الاجتماعية التي طرأت على العلاقات الاجتماعية، لا بد وأن تقفز لوحات هوبر إلى الذهن، نظراً لريادتها في لفت النظر إلى هذه التحولات منذ العقود الأولى من القرن العشرين. حيث التقنية والأسلوب والموضوع مجرد جسر للتفكير في عمق التحولات التي بدأت تعصف بالإنسان الحديث. ففي العزلة، تتوافر أفضل الظروف للتفكير. وأبطال هذه اللوحات كلهم منعزلون ويفكرون.. ربما بما لايزال يشغل أفكارنا حتى اليوم.
المصدر: عبود عطية، مجلة العربي، من مقال نشر بعنوان "إدوارد هوبر، «المقصورة سي، العربة 293»"
نشرت فى 16 مايو 2011
بواسطة khatwloun
عدد زيارات الموقع
58,227
ساحة النقاش