فراس حج محمد

موقع يختص بمنشورات صاحبه: مقالات، قصائد، أخبار

في العدد (23) من مجلة شرمولا الأدبية:

الخطايا الأدبية والعقاب النقدي

فراس حج محمد| فلسطين

ثمة روايات تروج بين المثقفين، فأقتنيها، وأحاول قراءتها، لكنني لم أستطع إكمالها. حدث ذلك معي وأنا أحاول إتمام رواية حنا مينا بقايا صور، ورواية نبيل سليمان ليل العالم، ورواية ملكوت هذه الأرض للروائية هدى بركات، عدا أنني اقتنيت وأقتني كل رواية تفوز بجائزة البوكر، فأقرأ في كل رواية عدة صفحات لأتوقف عن القراءة مجبراً؛ لأنني لم أجد المتعة المطلوبة، فأنا لا أقرأ الروايات من أجل الكتابة النقدية، إنما أقرأ الروايات لأعيش متعة الخلق الروائي، فيدفعني ذلك للكتابة النقدية، فنفوري من الروايات الرديئة حماية لها من سهام النقد الحادة، فإهمالها خير عقاب نقديّ لها ولصاحبها، عدا أنني لا أستطيع أن أكتب مقالا هجائياً أسود في أي عمل أدبي أراه رديئاً، وإن شعرت أنني سأنزلق إلى هذه الهاوية أمتنع عن الكتابة.

ثمة روايات أخرى رائجة لأسباب معينة كرواية سلوى النعيمي "برهان العسل"، شخصيا لم أحب هذه الرواية، لأنها ليست مشغولة بحرفية الروائي الخبير، بل عملت على دغدغة مشاعر القارئ الغرّ الذي تستهويه المشاهد الجنسية الفجة والفظة، مثلها في ذلك مثال الروايات التي تستتفه عقل القارئ وذائقته، وتذكرني هذه الرواية من باب آخر برواية تشارلز بوكوفسكي "نساء"، فكلتا الروايتين تعملان بسذاجة على موضوع فلسفي وحيوي وهو موضوع الجنس، فتوظيف هذه الثيمة في العمل الأدبي وإن جعلته كتابا رائجا لفترة بين الساذجين من القراء، إلا أن ذلك لا يعني أنه كتاب عظيم، وسرعان ما ينطفئ ويموت، ولا أحد يتذكره، إنه لن يخلف عملا روائيا يتحدى الزمن. على العكس من رواية كانديس بوشنيل "الجنس والمدينة" الذي عالجت ما يتعلق بالجنس من مآزق نفسية واجتماعية في مجتمعات الغرب دون أن تغرق في مشاهد البورنو الروائي المقيت.

إن ارتكاب خطيئة كتابية بمثل هذه الخطايا جدير ألا يمر دون عقاب نقدي حاد؛ لأن السكوت عليه والترويج له والاحتفاء به يجعل كاتبه تأخذه العزة بإثم هذه الخطيئة غير المغتفرة. ولن يقف الأمر عند حد الكتابة التي تدغدغ المشاعر الذاتية العاطفية والغريزة الحيوانية في القارئ، بل يمتد أيضا لكتابات أخرى تعالج بسذاجة موضوعات أخرى متصلة بالقدسية الدينية أو المشاعر الوطنية، فهذه الموضوعات لا يكفي وجودها ليتكئ الروائي عليها لينتج بالضرورة نصا جيدا، بل ربما على العكس تماما أوقعت الكاتب في التسطيح والهشاشة الفنية واللغوية، والعاديّة إلى تلك الدرجة التي لا يصبح للعمل أية ميّزة فنيّة، فانتفت عنه "أدبيّته" المطلوبة، فلا يكون داخلا في عموم التصنيف الأدبي.

لقد انتبه الكاتب الشهيد غسان كنفاني في بعض مقالاته النقدية التي جمعت تحت عنوان "فارس فارس" إلى هذه المسألة وهو يتناول بعض الأعمال الأدبية التي اتخذت من هزيمة حزيران متكأ لها، أو الوطن بركة تسبح فيها إلا أن هذا المجال الموضوعاتيّ لم يجعلها بمنأى عن النقد والسقوط في ترهات التعبير والسذاجة اللغوية التي قادت كنفاني للسخرية منها سخرية لاذعة، فمارس بحقها ما تستحق من "عقاب نقديّ" حادّ.

ولعل فيما يكتبه الكتاب في مراجعاتهم  النقدية التي تهز جذور العمل، يعيد الاعتبار لأهمية تحقق الجرأة في النقد، وتعرية تلك الأعمال الأدبية التي توصف مجازا بأنها أدبية، لقد وجد هؤلاء النقاد على مدار تاريخ الكتابة العربية منذ مقولة "استنوق الجمل" إلى مقولات نقاد النهضة العربية العقاد والمازني وطه حسين وميخائيل نعيمة، وصولا إلى ثلة من النقاد المعاصرين مع قلتهم وندرة وجودهم أحيانا الذين يقفون بالمرصاد لكل متقوّل متطفل على الأدب وصنعته.

لقد بت على قناعة أنه لا يصلح الأدب إذا لم يجد الناقد الجريء الذي يضع جانبا العلاقات الشخصية ويتجرد من كل شيء، لينغرس في العمل الأدبي كاشفا ومعريا، موجها ومرشدا، مع ضرورة ألا يفهم من هذا أن الناقد سيتحول إلى معلم يحمل صولجانا يهدد به الأدباء، أو شرطي مرور على مسارب الإبداع، ولكنه يعني أن الناقد أولا يجب ألا يخاف لأن في خوفه كارثة تؤدي إلى صناعة الرداءة الأدبية وتمركز تلك الأعمال لتصبح عناوين مرحلةٍ ستمر ويأتي غيرنا ليحكم عليها، كما حكم نقادنا الأجلاء مثلا على حقب الأدب المختلفة فاكتشفوا كم كانت تغص بالبلادة الأدبية في عصور كاملة كالعصر المملوكي على سبيل المثال. ويجب ثانياً على الأديب أن يعي حقيقة أنه يصنع تاريخا لأمة كاملة، فبيديه مع غيره من الأدباء أن يكون هذا التاريخ مجيدا أو جليدا ميتا، وعلى القارئ أيضا أن يدرك أن الخطايا الأدبية يجب ألا تمر من غير عقاب أدبي نقدي قرائي جريء.

تدور فكرة العقاب النقدي في فلكين؛ الأول في الكتابة النقدية القاسية الفاضحة حول الأعمال الرديئة كما فعلتُ في عدة قراءات نقدية، جلبت لي الكثير من اللوم والغضب والحرد الثقافي، ويتعلق الآخر بالسكوت النقدي أو "الصمت النقدي" عن الأعمال الأدبية الجيدة والتجاوز عنها وإهمالها، إن هذا مبعث إحباط للكاتب الذي يريد أن يزهو بعمله وهو يراه بهيا بين يدي ناقد أدبي يعلي من شأن النص ويعطيه مكانته التي يستحقها، هذا النوع من العقاب النقدي يمارسه عن سبق إصرار وترصد ولؤمٍ النقاد الموصوفون بالكبار أو شلة النقاد الأكاديميين الذين لا يحفلون غالبا بالكتّاب الجدد، فيظلون في أبحاثهم وأبحاث طلابهم الجامعية، وأبحاث الترقيات العلمية منشغلين بالكتاب كبار السن الذين أشبعوا بحثا، بل قتلوا درسا وتفكيكاً، ولم يظل منهم شيء يستحق أن يكتب فيه، فنتجت عن هذا "العبث النقدي" دراسات نقدية هزيلة وغير جدية ولا تضيف شيئا للمشهد الأدبي والنقدي، ولم تساهم مساهمة فعّالة في الإضاءة على حقيقة الحراك الثقافي والإنتاج الثقافي الجديد الجيد.

على أصدقائي الروائيين والروائيات أن يعلموا أنني عندما أكتب في رواياتهم نقداً، إنما يعني ذلك أن تلك الروايات قد أعجبتني في جانب واحد على الأقل، فدفعتني للكتابة، وإن كان العقاب النقدي قاسياً إلا أن ذلك لا ينفي عنها الأهمية في جانب أو أكثر، وكل كاتب أشاح بوجهه عني بعد الكتابة عن كتابه بدعوى أنني لم أنصفه، عليه أن يراجع نفسه أولاً بناء على هذه القاعدة الذهبية. فالكتابة النقدية تشبه من يمشي على صراط ما، فعلى الكتّاب أنفسهم أن يجعلوا هذا الصراط مستقيما وممتدا وعريضا ليس دقيقا كدقة الشعرة. إنهم وحدهم المسؤولون عن وقوع النقد في هوّة البحث عن الرداءة؛ لأن الناقد لم يجد الطريقَ سالكة ليستمتع بالرحلتين؛ قراءة الرواية، والكتابة عنها.

في مواقف كثيرة أيضاً استمتعت بقراءة أعمال روائية مخطوطة من أصدقائي الكتاب، لقد أحببتها جداً، وأشبعت نفسي حوارا مع أفكارها بكتابة ملحوظات كثيرة عنها، والاستفادة مما فيها من صنعة رائقة وجميلة، وتدل على التمرّس بالكتابة، حدث هذا معي أيضاً مرّتين؛ الأولى وأنا أقرأ رواية "الحياة كما ينبغي" للروائي الدكتور أحمد رفيق عوض، وشرعت بالكتابة عنها قبل أن تصدر وبعد أن صدرت، لقد حفزتني هذه الرواية لأكتب عنها غير مرة مقالات تحليلية مطولة والاستشهاد بها في مواضع أخرى، ومع هذا الإعجاب العريض بفنية النص إلا أن ما في الرواية من توجّه سياسي لم يعجبني، لكنّ ذلك لم يجعل النص محكوما بالعقاب النقدي القاسي. بل يكفي البيان والتوضيح، ولكلٍّ توجهه ورأيه وقناعاته، فلا يصح عقلا أن ينزل الكتّاب عند قناعات النقاد الشخصية سياسيا وفكرياً ولا حتى سلوكيا وتنظيمياً، وليس هذا مدار العقاب النقدي الذي أقصده.

وأما المرّة الأخرى فكانت مع رواية "عين التينة" للروائي صافي صافي. إن فيها صنعة روائية تدفعك للقراءة حتى آخر جملة فيها، على الرغم من أنها لم تعجبني في موضعين، أخبرت الكاتب عنهما، لكنّ هذين الموضعين لم يجعلا النص الروائي رديئاً، بل هما ممن يندرج في باب الاجتهاد الروائي المقبول بصفة عامة، لكنه لم يقنعني شخصياً، وعدم القناعة الجزئية تختلف عن تكوّن الرأي العام حول العمل أنه ممل أو رديء أو أنه لا يستحق أن ينشر، لقد ساعدتني هذه الرواية على بلورة أفكار جديدة حول لغة الرواية غير تلك الأفكار التي كنت قد تحدثت عنها في كتابي "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"- مبحث "اللغة في الرواية". ثمة أفكار تتصل باللغة الاجتماعية داخل العمل الأدبي. ولا بد من أنني سأعود إليها مرة أخرى عندما سأكتب بالتفصيل عن هذه اللغة كما لاحظتها في روايات كثيرة قرأتها غير "عين التينة".

وعلى أية حال، لن يصحّ الأدب ويستقيم إن لم تكن عين الناقد الخبير مفتوحة، وراصدة، ومتربصة بكل ما هو غير أدبي، لكنسه من على منصة الكتب ودفع القارئ إلى أن يرمي تلك الآفات في أقرب سلة للنفايات، لأن لهذه الأعمال أثراً في العقل والنفس يماثل فعل الفايروس في الجسم؛ التخريب والإمراض، وأفضل طريقة للمحافظة على الصحة الفكرية والنفسية معاقبة الرواية الرديئة والتخلص منها وعدم الالتفات إليها، ليصح بعدها القول: "قل لي ماذا تقرأ أقلْ لك من أنت".

المصدر: فراس حج محمد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 233 مشاهدة

فراس عمر حج محمد

ferasomar
الموقع الخاص بــ "فراس حج محمد" »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

742,679

فراس حج محمد

نتيجة بحث الصور عن فراس حج محمد كنانة أون لاين

من مواليد مدينة نابلس في فــلسطين عــام 1973م، حاصل على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني الحديث من جامعة النجاح الوطنية. عمل معلما ومشرفا تربويا ومحاضرا غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة. 

عمل محررا لغويا في مجلتي الزيزفونة للأطفال/ رام الله، وشارك في إعداد مواد تدريبية في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وكان عضوا في هيئة تحرير مجلة القانون الدولي الإنساني/ الإصدار الثاني الصادرة عن وزارة التربية والتعليم في فلسطين.

نشر العديد من المـقالات والقـصائد في مـجالات النشر المختلفة الإلـكترونية والصحف والمجلات في فلسطين والوطن العربي وبريطانيا وأمريكا وكندا والمكسيك. وشارك في ندوات وأمسيات شعرية ومؤتمرات في فلسطين.

الكتب المطبوعة: 

رسائــل إلى شهرزاد، ومــن طقوس القهوة المرة، صادران عن دار غُراب للنشر والتوزيع في القاهرة/ 2013، ومجموعة أناشيد وقصائد/ 2013، وكتاب ديوان أميرة الوجد/ 2014، الصادران عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل/ رام الله، وكتاب "دوائر العطش" عن دار غراب للنشر والتوزيع. وديوان "مزاج غزة العاصف، 2014، وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في القصة القصيرة جدا- دار موزييك/ الأردن وديوان "وأنت وحدك أغنية" عن دار ليبرتي/ القدس وبالتعاون مع بيت الشعر في فلسطين، وكتاب "يوميات كاتب يدعى X"، وكتاب "كأنها نصف الحقيقية" /الرقمية/ فلسطين، وكتاب "في ذكرى محمود درويش"، الزيزفونة 2016، وكتاب "شهرزاد ما زالت تروي- مقالات في المرأة والإبداع النسائي"، الرقمية، 2017، وديوان "الحب أن"، دار الأمل، الأردن، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، مكتبة كل شي، حيفا، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد"، مؤسسة أنصار الضاد، أم الفحم، 2018، وديوان "ما يشبه الرثاء"، دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، 2019، وكتاب "بلاغة الصنعة الشعرية"، دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020. وكتاب "نِسوة في المدينة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2020. وكتاب "الإصحاح الأوّل لحرف الفاء- أسعدتِ صباحاً يا سيدتي"، دار الفاروق للنشر والتوزيع، نابلس، 2021. وكتاب "استعادة غسان كنفاني"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2021، وكتيّب "من قتل مدرّس التاريخ؟"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2021. وديوان "وشيء من سردٍ قليل"، وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله، 2021. وديوان "على حافّة الشعر: ثمّة عشق وثمّة موت"، دار البدوي، ألمانيا، 2022. وكتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة"، الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمان، 2023. وكتاب "متلازمة ديسمبر"، دار بدوي، ألمانيا، 2023. وكتاب "في رحاب اللغة العربية"، دار بدوي، ألمانيا، 2023، وكتاب "سرّ الجملة الاسميّة"، دار الرقمية، فلسطين، 2023. وكتاب "تصدّع الجدران- عن دور الأدب في مقاومة العتمة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمّان، 2023، وديوان "في أعالي المعركة"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2023، وكتاب "مساحة شخصية- من يوميات الحروب على فلسطين"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "الثرثرات المحببة- الرسائل"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "فتنة الحاسة السادسة- تأملات حول الصور"، دار الفاروق للثقافة، نابلس، 2025. 

حررت العديد من الكتب، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب والدواوين المخطوطة. 

كتب عن هذه التجربة الإبداعية العديد من الكتاب الفلسطينيين والعرب، وأجريت معي عدة حوارات ولقاءات تلفزيونية.