مساحة شخصية (8)
لا أثق بما يكتبه الوزير
فراس حج محمد| فلسطين
في الحرب يكثر الكتّاب، ويتوالدون، وإن أجبرت الحرب الكتّاب أحياناً على أن يصمتوا. في هذه الجولة الدامية الممتدة منذ السابع من أكتوبر 2023، وُجد الفريقان؛ الفريق الصامت لأسباب كثيرة، والفريق المتشجع ليكتب وليظل متابعاً، ومهتماً بأمر الكتابة والتوثيق والكتابة عن يوميات الحرب؛ إذ من المعروف أن الحرب باعث قويّ على النشاط الفكري، ومن ذلك الكتابة، قديما كتب في الحرب الكثير، من روميات أبي تمام والمتنبي وأبي فراس الحمداني، إلى اليوميات الفيسبوكية التي يكتبها الناس العاديون، ويوثقون أحاسيسهم وأفكارهم ووجهة نظرهم. آلاف من النصوص أنتجتها الحروب على مرّ التاريخ، عندنا، وعند غيرنا، وفي غزة، وفي غير غزة. ولا يقتصر الأمر على الكتابة، بل ثمة موسيقى ولوحات فنية وأفلام أنتجتها الحروب كذلك.
في هذه الحرب، دخلت إلى معترك الكتابة عنها متأخراً، بعد خمسة عشر يوماً، ثمة كتّاب مكرسون، كتبوا من أول يوم، لأنهم أيضا يكتبون كل يوم قبل الحرب، فهذه هي عادتهم، فوجدوا في الحرب ظرفاً موضوعيا يتجددون فيه، ومادة دسمة معطاءة يومية لمدّهم بالأفكار اليومية. الدكتور عادل الأسطة (أستاذي في جامعة النجاح الوطنية، والمشرف على رسالة الماجستير ) من الكتاب الدائمي الكتابة، في الحرب، وفي السلم، ولا يترك أمرا إلا وكتب عنه، والتفت إليه، أحيانا يرصد الظواهر والعموميات، ويمسها مسا خفيفا من الخارج، وينبه على وجودها، ويلفت النظر إليها، وأحياناً، يلاحق المسألة تاريخيا، ويجمع شتاتها ليقدمها وجبة فكرية كاملة، وأحيانا أخرى يغوص في الفكرة عميقا، طارحا أسئلة وساكتا عن إجاباتها مع أنه يقدم إجاباته لأسئلة أخرى. الدكتور عادل مثال جيد للكاتب الذي لا ينقطع ولا تتوقف مساحته الفيسبوكية عن التجدد يومياً.
كتب الدكتور عادل عن صمت الكتاب الفلسطينيين تجاه الحرب، ويوجّه لومه للكتاب العرب في فلسطين المحتلة عام 1948، ويتعجب من صمتهم في الحرب. طبعا يلومهم ويلوم غيرهم، لكنه في تلك الأثناء عندما كتب منشوره الانتقادي ذلك لم يكن اطلع على ما كتبه كتاب عديدون، ومنهم عاطف أبو سيف، وخالد جمعة، وغيرهما ممن نشر في الصحف، كالعربي الجديد على سبيل المثال، أو آخرون من الشهداء الكتاب الذين انتبهنا لهم جميعا ولما كتبوه بعد أن راحوا طعاما لصواريخ العدوان، ومنهم الشاعرة الشابّة هبة أبو ندى رحمها الله وشهداء غزة جميعاً.
لم أكن لأتحدث عن هذا الموقف من الكتابة لولا أنه استجد كثير من الأمور؛ أهمها وأولاها في الذكر والحديث أن كثيراً من المنابر الثقافية العربية رصدت أحوال حرب غزة في الكتابة، فخصصت لها مساحة، كما فعلت صحيفة أوروك العراقية، وصحيفة الشارع المغاربي التونسية، ومجلة عود الند الثقافية اللندنية، وشارك في هذه الكتابة كثيرون، وكان لي نصيب في واحدة منها، إنما ما لفت انتباهي هو ما نشر في مجلة عود الند الثقافية، العدد (31- شتاء 2024)، يرصد العدد مساحات من الكتابة تحت القصف والنار والتشريد، ويتخذ لوحة من لوحات الفنانة الغزاوية الشهيد هبة زقوت غلافاً لهذا العدد.
يعيد رئيس التحرير نشر ما كتب في صفحات فيسبوكية لكتاب من غزة تعذر مشاركتهم بالطريقة المعهودة في المجلة في العدد بسبب الحرب، فأعاد نشر ما كتبته جهان أبو لاشين، تحت عنوان "ليسوا أرقاماً"، وما كتبته فداء زياد أبو مريم تحت عنوان "فصول الدهشة ومحاولات النجاة"، ومن لبنان تكتب فنار عبد الغني نصا من أجواء الحرب بعنوان "أمي تقاوم".
وليس هذا وحسب، بل يكتب د. عدلي الهواري، رئيس التحرير، افتتاحية العدد تحت عنوان "قيم لا قيمة لها". لم يكتب الهواري يوميات بطبيعة الحال، إنما كتب منتقدا ما حدث في غزة من تغاضي العالم عما كان يسوقه من قيم العدالة والمساواة وحقوق الإنسان، ليختم مقالته بقوله: "وهكذا، نكتشف مرة أخرى أن القيم الغربية قيم لا قيمة لها، فهي قيم تستخدم في أوقات السلم للضغط على المنافسين والخصوم. وفي أوقات الحرب، ترمى في سلال المهملات وتستبدل بخطابات وممارسات عنصرية لا تمت للقيم الإنسانية بصلة".
أعجبني ما كُتب في هذا العدد من المجلة، فأرسلته تباعاً للدكتور عادل الأسطة ليطلع عليه، لأنه مهتمّ بما يكتبه الكتاب عن الحرب، وكان في منشور آخر يتمنى أن يخرج كاتب مثل معين بسيسو ليكتب عن الحرب الحالية كما كتب بسيسو عن غزة، فالأسطة يبحث عن كاتب بحجم الشاعر معين، ليكتب كتابة بحجم غزة. لم يعجبني منشور الدكتور عادل حول هذه المسألة لما أحسسته من فوقية، وتعالٍ، وعدم تقدير لما يكتبه الكتاب حاليا عن غزة، وما كتبه الآخرون عن حروبها بعد معين بسيسو، ولعله لم يطلع على ما كتبه آخرون من قلب غزة عن الحروب، كما كتبت سما حسن كتابها يوميات عن حرب غزة، ونشر في القاهرة، وخالد جمعة بوصفه مواطنا من غزة ويعرف الناس هناك، ولد وعاش فيها حقبة مهمة من حياته، كتب كثيرا عن غزة، عن مزاجها، عن أناسها، عن أصدقائه وأحلامهم، عن الشهداء ومصائرهم.
من المؤكد أن لا أحد يستطيع السيطرة على كل ما كُتب حول موضوع معين، وليس مطلوبا من أحد أن يكون محرك بحث موسوعياً ليلمّ بكل شاردة وواردة، ولكن ما لا يقبله منطق أن يقول ناقد إنه لا يوجد كاتب كتب عن غزة بما يشفي غليله. هذه ليست موضوعية، وإنما فيها قدر كبير من الانحياز لصوت أدبي واحد، وتقزيم لجيل كامل من الكتّاب بعد هذا الصوت، مهما كان هذا الصوت مهماً واستثنائياً لا يصحّ أن يصوّر الناقد أن الشعب فقير في كتّابه ومبدعيه إلى هذه الدرجة المخجلة الفظيعة. وعلى العموم أخشى أن تكون هذه هي استراتيجية الدكتور الأسطة، ففي الشعر لا يرى غير درويش، ونادرا ما عرّج على غيره، وفي الرواية يظل في حقل كنفاني وحبيبي أغلب وقته، وها هو في غزة لا يرى غير معين بسيسو كتب عن غزة فأعطاها حقها.
لم يعلق الدكتور على ما نشر في مجلة عود الند إلا بجملة واحدة "كتب عاطف أبو سيف تفاصيل أكثر"، فأجبته: "لا أثق بما كتبه وزير... هؤلاء الناس أصدق مليون مرة". أظن أن ردي لم يعجبه، فسكت عنه.
أعتقد جازما أن ثمة رابطا بين أطراف هذه المساحة من الكتابة عن غزة. كتب عاطف أبو سيف وهو وزير يوميات عن الحرب من قلب غزة، ترجمت إلى الإنجليزية، ولعلها كتبت أصلا باللغة الإنجليزية ونشرت في بعض الصحف العالمية. ومنها صحيفة الجارديان. وآخرها ما نشر في مجلة (The Nation) تحت عنوان "We Just Sit Here Waiting to Die: Diary Entries From Another Week in Gaza". عاطف أبو سيف وزير في السلطة الفلسطينية، يعني هذا عندي أن كتابته أدبية منزوعة الدسم، فهو لن يغضب أحدا لا في رام الله، ولا في تل أبيب، ولا في الصحف الغربية الداخلة إلى المعركة بكل ثقلها الإعلامي، منحازة إلى العدو المعتدي، ولذلك قلت للدكتور عادل إنني "لا أثق بكتابة وزير"، بل أثق بما يكتبه الناس هناك بفعل الضغط الفعلي عليهم، وهم هاربون من احتمالية القصف إلى القصف الحقيقي كما قالت جهان أبو لاشين التي حققت رقما قياسيا في التنقل، هربا من الحرب.
كتابة الوزير توثيقية بعين كاتب وقلب صاحب سلطة، يكتب وعينه على النشر والاهتمام الإعلامي، لذلك ستمر الكتابة بجهاز فحص التوتر والصدق الواقعي، لن تُكتب بالنفَس الذي كتبت فيه سما حسن كتابها عن الحرب "أن تبقى حيّا في غزة" (2021)، ولا كما كتبت جهان وأخواتها، كتب الوزير ليتحدث عن آلة الحرب الصهيونية وما فعلته في الناس بلغة أدبية لها بعد صحفي تعريفي، كأنّ (أبو سيف) مراسل حربي برتبة وزير، أو وزير بوظيفة مراسل!
لا شك في أن هذا الاستنتاج خطير بالنسبة لوزير فلسطيني همّه الثقافة، ولا أتهم الوزير بشيء من التواطؤ العلني أو السري بطبيعة الحال، إلا أنه يعرف العقلية الغربية وما يمرّر فيها، وما لا يمكن أم يمرّر، ويعرف موقف السلطة الفلسطينية في رام الله، الواقفة تنتظر الإشارة لتكون عاملا مساعدا لنفي آثار العدوان في غزة، بعد التخلص من حكم حماس. ولعل الله لن يحقق لها أمراً أو بغية أو غاية. لكل ذلك لا أثق بما يكتبه أي وزير غارق في كرسيّ الوزارة عن الحرب، وليس فقط وزير الثقافة عاطف أبو سيف.
لو كانت كتابة الوزير بهذه الفعالية على المستوى الفلسطيني والغزيّ لم تكن لتنشر ولاعتبرته الصحف الأجنبية وعصابة الإجرام الصهيو- أمريكية أنه منحاز لحماس وأعمالها "الإرهابية"، إنما كان الوزير "كاميرا" تغطي الحدث، وتؤكد ما تريد عصابة الشر تأكيده، لعله يساعد في إيصال الفكرة. إن دوره في الكتابة كدور الإعلام الرسمي الفلسطيني الذي كان مشدودا منذ اللحظة الأولى في السابع من أكتوبر بكل قوته وتوتره العصبيّ إلى خسائرنا في غزة، ويحصيها أولا بأول، ويتابع الدمار لحظة بلحظة، ولم يكن معنيا- بأية حال- بالمقاومين والمقاومة وإنجازاتها الحربية والإستراتيجية والسياسية والإعلامية، وهو إلى الآن ليس معنياً بكل تلك المخرجات والمنجزات. إنما ما يعنيه كيف يظهرنا ضعفاء، تتساقط الضحايا تباعاً، وتهدم البيوت، بيتاً تلو الآخر. بل ربما كلف أتباعه من بثّ بعض الأخبار، أو التعليق على الأحداث بما يناسب رؤية مشغليه العقيمة التي لم تجلب للشعب الفلسطيني إلا الذل والإذعان والقتل والسجن، والمزيد من الانتقاص في الجغرافيا، والتقليص المستمر في الصلاحيات الأوسلوية حتى تلاشت أو تكاد، ولم تفلح سياستهم بتحرير طفل أسير واحد من سجون الظلم والظلام، ولم تنجح حتى في استرداد شيقل واحد مما تسرقه عصابة الشر من أموال الحق الفلسطينية المقررة في الاتفاقيات.
لقد أثبتت كل الحروب على غزة أنّ هناك في فلسطين فريقين كخطين متوازيين لا يلتقيان، خط التفاوض، وخط المقاومة، خطان نقيضان أيضاً، فقد أثبت المقاومة في غزة أن الاحتلال لا يفهم إلا لغة القوة، ويوظف السلام ليسخر بنا ويجعلنا أضحوكة بين الأمم، وأعيدها هنا بلغة الشاعر السوري المقاوم عمر الفرّا رحمه الله في رسمه هذين الخطين بقوله:
جربتَ كلّ وعودهم
عبثاً تردّ لك المظالمْ
فالحقّ يؤخذ عنوةً
لا بالوعود ولا المزاعمْ
فالأرض أرضي ما حييتُ
ودونها قطع الجماجمْ
مقدار شبر لا نضيعُ
ولا نبالي بالخواتمْ
من كان يطمح للسلامِ
مع العدوّ تُراه واهمْ
فالسلم ليس مع الذئابِ
فلا تكن أبداً مسالمْ
ليس هذا وحسب، بل بتّ على قناعة أنهم في رام الله معنيّون بهزيمتنا الشاملة في غزة، سياسيا وإعلامياً وعسكرياً ونفسياً. ليؤكدوا أنه لا حل مع المحتل إلا المفاوضات أو الاستكانات، والذهاب إلى الأمم المتحدة واستجداء الدول الاستعمارية، والقول: احمونا، يا ناس، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ونظل نردد مقولات أكلتها "حمير الحرب" في غزة من قبيل القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، ونتشبث بأوهام الحرية وحق تقرير المصير. لقد صارت كل هذه نكتاً بلهاء سامجة لا خير فيها ولا منطقية، ما دامت في وقت الحرب ترمى- كما قال د. عدلي الهواري- "في سلال المهملات".
ربما أكون مخطئاً، وأرجو أن أكون مخطئاً، فيما يخص كتابة الوزير فقط، لأنه ليس من مصلحة الكتابة أولا وأخيرا أن تكون منزوعة الدسم، تلتقي ولو بطريقة غير مباشرة مع الأهداف المعلنة والسرية لعصابة الشر والإجرام للفتّ من عزيمتنا وهزيمتنا من الداخل، علينا أن نقرأ ما كتبه الوزراء من قلب النص، للكشف عن المرامي والأبعاد وخاصة النفسية ونقارنه ونقاربه مع ما كتبه الآخرون المرتقبون للقصف اليومي، بل يكتبون وهم تحت رحمة الصواريخ النازلة عليهم، كزخّ المطر. أظن أن الفريقين لا يستويان عند القارئ وفي ميزان الكتابة أيضاً.