حول سياسة منع الكتب:
ممنوع انتقاد الرئيس
فراس حج محمد| فلسطين
كتابان منعا من العرض في معرض تونس الدولي للكتاب (28 أبريل - 7 أيار 2023). كتاب كمال الرياحي "فرنكشتاين تونس"، وبعده بأيام كتاب نزار بهلول "قيس سعيّد ربّان سفينة تائهة". رحل زين العابدين وبقيت عقلية الدكتاتور، وكأنك يا بو زيد ما غزيت، أو على رأي المثل الشعبي الفلسطيني: ارجعنا نحصد بالعكير، فربيع تونس المخضرّ برائحة لحم محمد البوعزيزي انقلب إلى خريف طويل العمر، كأن هذا الليل لا آخر له، لم تستطع أرواح الضحايا أن تنيره ولو بالقليل من الضوء.
وبالمناسبة نفسها، كل الربيع العربي انقلب إلى موات ثقيل، وعلى رأي المطربة الأردنية سلوى العاص: "صار الربيع خريف يا طول الليالي"، وفي الخريف يخرفن الحاكم، وتفرعن أجهزته الأمنية، ويغيب العقل، وتحضر البلاهة والتفاهة ومنع الكتب وأشياء أخر.
المنع، منع أي شيء فكرة تافهة، منع الأفلام، ومنع المسلسلات، ومنع المواقع الإلكترونية، ومنع المعارضين السياسيين، ومنع الصحف، فما بالك بمنع الأفكار والكتب وممارسة سياسة الرقابة عليها؟
المنع، أي منع فكرة ليس فيها عبقرية ولا تنم عن ابتكار استثنائي في عقلية الحاكم، إنما هي إحدى تجليات الغباء المطلق الذي يتمتع به الدكتاتور، أي دكتاتور، فلا معنى لمنع الكتب إلا أن يصبح "المانع" صديقاً لخفافيش الظلام، عدوا للنور والاستنارة.
المنع فكرة تجعل الدكتاتور ينحاز إلى الجهة المقابلة الظلامية، ويصطفّ مع الأعداء الخارجيين والدخلاء. إنه يوفر فرصة لجعل الدكتاتور أخا للعدو، كالعدو الصهيوني مثلاً، فكلاهما له الأهداف ذاتها، ويمارس العسف السلطوي لمجرد التسلط بالأدوات والتقنيات ذاتها: الحبس، المنع، التعذيب، القتل، النفي، الإقصاء، التشويه، الإسقاط، وكلها عوامل مشتركة بين سعيّد وغيره من الدكتاتوريين من جهة، والاحتلال الأجنبي من جهة أخرى، صهاينة وفرنسيين وأمريكان وطليان وكل احتلال، عدا أن الفريقين متفقان على استخدام جهاز لغوي فيه المصطلحات ذاتها وأهمها: محاربة الإرهاب، ويتحدثان بموثوقية عالية، وبإيقاع غير مرتعش الذبذبات، كأن الوحي يفيض عليهم "برائعات الفكر".
المنع يمنح انتشارا للكتب الممنوعة انتشار النار في الهشيم. هذا التعبير ليس مجازيا، وليس تعبيرا جاهزاً يكتب استطرادا في مثل هذه الحالات، إنما هو فعلا هكذا، ويوفر لتلك الكتب "الضحايا" دعاية مجانية تستفيد منها دار النشر، ويقع الكاتب ضحية "المظلومية" والمطاردات الإعلامية، والتباكي المجاني، لا يستفيد شيئا سوى أن يصبح مادة إعلامية تعيد إنتاجه على صور محزنة آلاف "الماكينات" الإعلامية لمصالح شتى. الكاتب ليس مسئولا عن ذلك بالطبع، لكن يجب أن يخفف من الوقوع في الشرك المقابل، شرك السلطة المناهضة لسلطة الدكتاتور، كلتاهما لا توفران له حياة سعيدة. وكلتاهما تريد قتله على طريقتها.
لا يستطيع أي نظام عربي تافه أن يمنع كتاباً، لأن الكاتب إن أراد أن يوصله للقراء، فإنه يستطيع ذلك بكبسة زر ليصل إلى الملايين في ظرف ساعة، وعلى الكاتب أن يتمرد على تينك السلطتين، سلطة المنع وسلطة التشهير، ويفرّ بجلده، ويطلق كتابه للريح، حتى ينفجر الفضاء وينقلب السحر على الساحرتين، سلطة المنع، وسلطة التشهير.
المنع يوفر مجالا للردح وتصفية الحسابات مع الدولة المانعة أولا ومع الكاتب ثانيا، وخاصة في حالة كمال الرياحي صاحب كتاب "فرنكشتاين تونس"، فأعاد البعض التذكير بتهمة التطبيع، ولا أدري ما الرابط بين الأمرين سوى أن أصحاب تيار الدولة المدافعين عن سعيّد يوفرون لأنفسهم فرصا أكثر إقناعا للنيل من شخص الكاتب، وكأن "الجريمة" السابقة- إن كانت جريمة- أو ثبتت أنها جريمة، ستكون ركنا أساسيا في ترسيخ فكرة المنع وممارسة السلطة، فلا يصحّ عقلا ومنطقا ألا ندافع عن فكرة المنع لأن من وقع ضحيتها متهم بالتطبيع. وما أسرعنا في إلباس مثل هذه التهمة! وتصبح المسألة ثأرا فرديا، وانتقاما شخصيا، وتنحرف عن أن تظل فكرة في سياقها الطبيعي، إنما هي أسلحة تتضافر لتزيد من "اغتيال" الكاتب معنوياً بطريقة بشعة.
المنع يتيح مجالا كبيرا لإطلاق المخيال المريض لصياغة أفكار عبثية حول الكتّاب، وحول كتبهم، وحول الأسباب الدافعة للمنع، فتجد مدافعين ومشيدين دون أن يقرؤوا الكتب، أو يذموها دون قراءة أيضاً. على الرغم من أن مسألة مناهضة المنع السلطوي للكتب هي التي يجب أن تكون أمرا حاسما في هذا "الجدل المفتعل" حتى لو كان الكتاب "رديئاً"، فمناقشة الرداءة لا تدخل في سياق هذا الجدل الأساسي، المرتبط بأساس حرية الكتابة والتعبير عن الأفكار. أحكام الرداءة تُستقى من أفعال النقاد وقراءاتهم المعمقة، وليس هذا هو بيانها، كما أن استدعاء فكرة "سرقة" العنوان في كتاب الرياحي، أمر لا هدف له، سوى رجم الكاتب، والتقليل من شأن كتابه، على الرغم من أن "تشابه العناوين" أو "تطابقها" أمر وارد جدا، حدث قديما، ويحدث كل يوم، وسيحدث في المستقبل، وهذا أمر آخر، وسياقه نقدي تحليلي، لا يناقش ضمن مسألة عدم أخلاقية المنع وانعدام شرعيته، مهما كانت التهم الموجهة للكتاب أو الكاتب.
أعتقد أنه من الواجب ألا نختلف على "تفاهة" و"احتقار" فكرة المنع بغض النظر عن الكاتب، وكتابه، وأفكاره، وسلوكه، ومعتقداته، وعلينا ألا نوفّر منصة أخلاقية مجانية تزيد من إجرام سلطتي المنع والتشهير. علينا رفض فكرة المنع من حيث هي؛ فكرة تسلطية احتكارية غير إنسانية، وغير حضارية، وتتنافى مع كل منظومات العقل السليم من احترام إنسانية الإنسان؛ كاتباً أولاً، وقارئا ثانيا، ولا أظن أن القارئ بحاجة إلى من يكون عليه وصيّا ومرشدا وحاميا من الوقوع في مغبة "الأفكار الشريرة" التي- كما يدعي الدكتاتور- تريد "أن تخرّب البلد"، وعلى الدكتاتور أن يكون أكثر نضجاً وعقلانية مما هو عليه الآن، فأي تفاهة لحاكم يفكر في منع تداول كتاب في معرض الكتب بدلا من أن يفكر مليا بإصلاح حاله، وحال البلاد والعباد، ومراجعة سلوكيات أجهزته القمعية التي لا تألو جهدا في التبوّل على نفسها لنزيد من فرص تكرار التاريخ ليعود كما بدأ؛ باحثا عن الشرارة الأولى لإعلان الثورة من جديد؟ وساعتئذ لن ينفع ما قاله "السلف غير الصالح" ليكرره الخلف الطالح: "الآن افهمتكم"!