الجزء الأول:
"أمير الشّعراء" والسّقطات النّقديّة: قراءة في الموسم الثّالث*
فراس حج محمد| فلسطين
مقدّمة:
لقد سبقت الإشارة إلى أنّ برنامج أمير الشّعراء برنامج جماهيريّ بلا أدنى شكّ، وقد حقّق شهرة واسعة بين قطاعات كبيرة من المشاهدين والمستمعين، واستطاع البرنامج أن يضبط بوصلة المثقّفين والشّعراء والفنّانين؛ ليحظوا بفرصة الظّهور فيه، وقد ساعد على هذه الشّهرة وهذا المدّ الجماهيريّ ما جُنّد لهذا البرنامج من تنوّع في الآلة الإعلاميّة الّتي تحمله من فضائيّات وإذاعات ومواقع إلكترونيّة وصحف ومجلّات، وأصبحت كلّها تخدم نفسها عندما تنشر أخبارا عن البرنامج حتّى المعارضة له أفادت من جماهيريّته، فقد حظيت هي الأخرى بفرصة التّعلّق بالبرنامج فطالها شيء من المتابعة والحياة.
هذا، عدا ما حظي به البرنامج من رعاية رسميّة من الدّولة في الإمارات المتّحدة، فالبرنامج هو أحد النّشاطات الثّقافيّة لهيئة الثّقافة والتّراث، ولا تكاد حلقة من حلقاته تخلو من حضور أحد رموز الدّولة، وكثيرا ما أشير إلى أنّ البرنامج يحظى بدعم من سموّ الأمير محمّد بن خليفة وليّ عهد الإمارات.
لقد حرص المنظّمون أن يتجاوز البرنامج كثيرا من المثالب الّتي وقعت في نسختيه الأولى والثّانية، وغدا البرنامج أكثر رسوخا، وأعمق منهجا، وأضحى النّقد فيه أكثر نضجا وتخصّصيّة، ومع ذلك يبقى الجهد البشريّ بحاجة إلى مراجعة وتقييم، وتندرج هذه الدّراسة في هذا الباب محاولا كاتبها الإشارة إلى ما وقع في النّسخة الثّالثة من سقطات نقديّة، كان الأجدر ألّا تكون، فثلمت بوجودها بهاء البرنامج، وشوّشت عليه نقاءه، وكدّرت صفاءه.
لقد كان تعلّقي بحلقات البرنامج شديدا، وكنت حريصا على ألّا يفوتني منه أيّ لقطة أو تعليق إلى درجة أنّني كنت أنعزل عن العالم الخارجيّ كليةً، وأرفض استقبال الزّائرين، أو المكالمات الهاتفيّة، وما هذا إلّا لأنّني وجدت في البرنامج فرصة للفائدة والاستزادة من نمير الماء، متعطّشا للعيش مع كلمات الشّعراء وإحساسهم وأدائهم المميّز، مسجّلا بعض الملحوظات الأوّليّة حول ما قُدِّم من نقد، وحلقة وراء حلقة، وإذ بتلك الملحوظات تتجمّع وتتكدّس معلنة عن وجودها ومبرّر تصنيفها في دراسة نقديّة، لعلّها تندرج في باب ما بات يعرف بنقد النّقد أو الميتانقد.
وقبل أن أتناول تلك الملحوظات بالعرض والتّعليق أحبّ أن أقف عند البرنامج بشكل عامّ لمعرفة بعض القضايا المتّصلة فيه، ليسهل فهم سير البرنامج وآليّته.
البرنامج نظرة عامّة:
لقد بُذل في البرنامج جهد نقديّ كبير، فقد أورد الموقع الإلكترونيّ لمسابقة أمير الشّعراء، أنّ لجنة التّحكيم قد قابلت 300 شاعر، من بين ما يزيد عن الألف قدّموا نصوصهم للجنة المسابقة، وقامت اللّجنة بدراسة ما يزيد عن 7500 نصّ شعريّ متنوّع بين الشّعر العموديّ (التّقليديّ) والشّعر الحرّ، حتّى استطاعت أن تنتقيَ أفضل خمسة وثلاثين شاعرا، وهذا بلا شكّ جهد مقدّر عاليا.
ويُعرّف البرنامج أنّه أكبر برنامج مسابقة في الشّعر الفصيح، ويضمّ عدا مرحلة الانتقاء السّالفة الذّكر أربع مراحل، كلّها تبث على الهواء مباشرة من مسرح شاطئ الرّاحة في العاصمة الإماراتية أبو ظبي، وهذه المراحل موزّعة على النّحو الآتي:
المرحلة الأولى:
وهي مرحلة الـ (35) شاعرا، وتتكوّن من خمس حلقات، يتنافس في كلّ حلقة سبعة من الشّعراء، يقدّم كلّ منهم قصيدة يختارها الشّاعر في أيّ موضوع يشاء وبأيّ شكل يرى، لتكون المحصلّة تأهّل شاعر واحد في كلّ حلقة من الحلقات الخمس بقرار من لجنة التّحكيم يحصل على أعلى الدّرجات، ويحال البقيّة إلى تصويت الجمهور ليتأهّل اثنان في بداية الحلقة التّالية، لتكون نهاية المرحلة بفرز (15) شاعرا، ينتقلون إلى المرحلة الثّانية.
المرحلة الثّانية:
وتتكوّن هذه المرحلة من ثلاث حلقات، يتبارى في كلّ حلقة خمسة شعراء، ويعتمد معيار التنافس هنا على أمرين: الأوّل أن يختار كلّ شاعر قصيدته الّتي سيلقيها حسب شروط المرحلة الأولى المُشار إليها سابقا، والثّاني: أن يجاري الشّعراء نصّا مختارا بمجموعة من الأبيات تكون بين (10-14) بيتا، يشترك مع النّصّ المجارى في الوزن والقافية والموضوع، ويتأهّل شاعر واحد بقرار من لجنة التّحكيم في كلّ حلقة، ويحال البقيّة إلى التّصويت لمدّة أسبوع كامل، ليعلن عن الفائز بأعلى نسبة تصويت في أوّل الحلقة التّالية، وهكذا حتّى يصل المتسابقون السّتّة إلى المرحلة الثّالثة.
المرحلة الثّالثة:
وتتكوّن هذه المرحلة من حلقة واحدة فقط، يتنافس فيها السّتّة شعراء، حسب شروط خاصّة؛ وذلك حسب معيارين كذلك، يتمثّل الأوّل في أن يكتب كلّ شاعر قصيدة مقيّدة الوزن والموضوع والقافية، وقد كانت القصيدة لهذا العام قصيدة أبي العلاء المعريّ:
ألا في سبيلِ المَجْدِ ما أنا فاعلُ
عَفافٌ وإقْدامٌ وحَزْمٌ ونائِلُ
والقصيدة من البحر الطّويل بقافيتها اللّاميّة المضمومة، يطلب من الشّعراء أن يوظّفوا كلّ ذلك في الكتابة عن قلعة الجاهليّ، تلك القلعة الّتي بناها الشّيخ زايد الأوّل، وجسّدها المخرج في خلفيّة مسرح شاطئ الرّاحة.
أمّا المعيار الثاني فعلى كلّ شاعر أن يجاري واحدا من زملائه المشاركين معه، فقد تمّ اختيار أربعة أبيات لكل شاعر، على الشّاعر الآخر أن يجاريها وزنا وقافية وموضوعا، بمدة زمنيّة محدّدة وهي ربع ساعة، وتنتهي هذه المرحلة ويحال الجميع على التّصويت، ليخرج شاعر واحد فقط من المسابقة في بداية الحلقة الأخيرة، وهي الحلقة العاشرة من البرنامج، وهي تشكّل المرحلة الرّابعة، مرحلة تتويج الأمير.
المرحلة الرّابعة: (التّتويج)
وتضمّ خمسة شعراء، هم صفوة الصّفوة كما يحلو لمقدّم البرنامج الإعلاميّ حامد المعشني أن يصفهم، يجدّون السّير نحو لقب أمير الشّعراء، عبر كتابة قصيدة يتحدثون فيها عن الشّعر ومكابدته ورحلة الشّاعر في البرنامج ووصوله إلى هذه المرحلة، والقصيدة غير مقيّدة بوزن أو قافية، وكذلك يوضع الشّعراء في المعيار الثّاني للتّنافس تحت طائلة الارتجال الآنيّ، فيرتجل كلّ شاعر من الشّعراء بيتا واحدا على وزن وقافية أبيات اختارتها لجنة التّحكيم، وقد كانت هذه الأبيات من مشهور الشّعر العربيّ، موزعة على عصور مختلفة وبأوزان متنوّعة، فكان أوّلها على البحر البسيط، وهو قول ابن زيدون في قصيدته المشهورة في محبوبته ولّادة بنت المستكفي:
أَضحى التَنائي بَديلاً مِن تَدانينا
وَنابَ عَن طيبِ لُقيانا تَجافينا
والبيت الثّاني كان من شعر أبي ذؤيب الهذليّ، وهو على البحر الطّويل:
وانّي لَتَعْروني لذِكراكِ هزة
كَما انْتَفَضَ العُصفورُ بَلّلهُ القَطْر
وأما البيت الثّالث فكان من شعر أوّل أمير للشّعراء في عصرنا الحاضر، الشّاعر العربيّ أحمد شوقي في مدحته النّبويّة:
وَما نَيلُ المَطالِبِ بِالتَمَنّي
وَلَكِن تُؤخَذُ الدُنيا غِلابا
هذا، وقد تركّز النّقد في حلقاته التّسع الأولى، لتكون الحلقة الأخيرة حلقة احتفاليّة بالشّعراء، وقد قلّت فيها الملحوظات النّقديّة، وانهالت لجنة التّحكيم بعبارات التّمجيد على الشّعراء لتهنئتهم بوصولهم إلى هذه المرحلة، فكلّ واحد منهم يستأهل أن يكون الأمير، وما هي إلّا ساعة وبعض ساعة حتّى يفصح القدر عن مغيّباته مطلقا اسم الأمير من بين تصويت الجماهير، ليحظى الشّاعر السّوريّ حسن بعيتي بهذا التّأمير، ويكون الأمير الثّالث عن جدارة وحسن تقدير، بعد رحلة دامت خمسة أشهر، ربحنا فيها الشّعر، وربح فيها الأمير مليون درهم وعباءة الإمارة وخاتمها.
نقد على النّقد:
هذه الاحتفاليّة الشّعريّة والنّقديّة الفارهة الّتي شارك في صنعها الشّعراء والنّقّاد واللّجنة المنظّمة، أنتجت كمّا وافرا من النّقد، تناول (اثنين وثمانين) قصيدة ألقيت في البرنامج في مراحله الأربعة، هذا النّقد قدّمه أساتذة أجلّاء كرام لهم الباع الطّويل والقدرة النّقديّة العالية، ومؤلّفاتهم تشهد على ذلك، ولا يمنع كونهم نقّادا كبارا من تسجيل بعض الملحوظات، علما أنّني في المقال الأوّل "دام صوتك شعرا" تحدّثتُ فيه حول قضايا عامّة، ومن خلال متابعتي للبرنامج في نسخته الثّالثة وجدتُ أنّ البرنامج قد تخلّص من كثير من تلك الملحوظات، ولا أدّعي أنّني الوحيد من تحدّث فيها، ولكنّها أصوات يعاضد بعضها بعضا، لتكون النّتيجة في صالح الشّعر الثّمين والنّقد الأثمنّ.
لقد تجمّع لديّ كثير من ملحوظات نقديّة، كما أشرت سابقا، فعملت، قدر ما أدركتُ الملحوظة وأبعادها النّقديّة والمعرفيّة، أن أبوّب تلك الملحوظات وأعيد صياغتها، فجاءت تلك الملحوظات في هذه المحاور: المبالغة في النّقد، والشّطط في النّقد وعدم الوضوح، والسّخرية والتّهكّم، ومواقف نقديّة غير مبرّرة، وسقطات النّقّاد وأخطائهم.
أوّلا: المبالغة في النّقد:
يعجب النّقّاد بشعر الشّعراء، فينساقون إلى كيل الأحكام النّقديّة المبالغ فيها، هذه المبالغة تدفع د. صلاح فضل إلى أن يعلّق على قصيدة وليد الصّرّاف قائلا: "تقاوم بهذا الشّعر ليس الأمريكان فقط، وإنّما الفكر الجنائزيّ يا وليد"، وتجد أحيانا أنّ العجلة تصيب النّاقد بنوبتها، فيصدر حكمه النّقديّ قبل أوانه، وهذا عينه ما أصاب د. عبد الملك مرتاض في امتداحه لقصيدة الشّاعر المصريّ حسن شهاب الدّين ، فيرى النّاقد أن "صور الشّاعر أجمل ما أنشدناه وسننشده في هذه اللّيلة"، وشبيه بهذا قول النّاقد نفسه للشّاعر العراقيّ بسّام صالح مهدي "وأنت أشعر من رأيناه في هذه الأمسية"، وتتجاوز المبالغة أحيانا حدّها المقبول والمعقول، وذلك عندما يرى د. عليّ بن تميم في الشّاعر بسّام تجسيدا للشّعر الحقيقيّ، معلنا "أنّه لولا الشّعراء العراقيّون لانقرض الشّعر الحقيقيّ".
ولا يصحّ أن تصدر من اللّجنة مثل هذه الأحكام، وذلك لأنّها تندرج في باب الأحكام المسبّقة الّتي قد تؤثر سلبيّا في الشّاعر الّذي سيأتي بعدُ، ويتلو نصّه، ولا يغيب عن الذّهن أنّ النّقّاد عندهم علم بكلّ قصائد الحلقة الّتي ستبثّ، ولكن هذا ليس مبرّرا لإصدار مثل هذه الأحكام على تلك القصائد مهما بلغت درجة جودتها.
وتلاحظ أحيانا أنّ اللّجنة قد تفرّقت آراؤها في الحكم على بعض النّصوص، لتصل إلى حدّ التّناقض في النّظر إلى النّصّ بشكل عامّ، وليس في محاكمة بعض جوانبه، ففي الوقت الّذي رأى فيه غير ناقد أنّ قصيدة الشّاعر الإماراتيّ حسن النّجار تتّسم بالرّكاكة والضّعف، يتصدّى د. عليّ بن تميم لتمجيد الشّاعر ممتدحا ما فيها من هشاشة وضعف، وداعيا إلى مقارنة قصيدته بقصيدة الشّاعر نزار قبّاني "حبيبتي والمطر"، طالبا من الشّاعر الاستمرار في الكتابة بالطّريقة نفسها لأنّها مليئة بالشّاعريّة.
وهنا لا بدّ من أن يثور التّساؤل الآتي: إذا كان النّقد يبنى على أسس علميّة ومنهجيّة واضحة، لماذا يوجد مثل هذا التّناقض في الحكم النّقديّ؟ يبدو أنّ النّقد مهما ادّعى القائمون عليه والمشتغلون به أنّهم موضوعيّون وعلميّون لا يستطيعون الفكاك من أسر الذّوقيّة، وهذا ما أثبته البرنامج وغيره، حتّى أنّ النّقد المكتوب في عهد هذه العلميّة، لم يسلم هو الآخر من هذه الذّوقيّة الّتي فرّقت آراء النّقّاد في المسألة الواحدة، وهذا بطبيعة الحال ليس راجعا إلى اختلاف مناهج النّقّاد ومدارسهم النّقديّة، وربّما أخذت النّاقد ابن تميم الحميّةُ الوطنيّة فدافع عن الشّاعر بهذه الطّريقة إلى درجة امتداح الرّكاكة والضّعف، وبذلك يكون النّقد قد اكتوى بنار الإقليميّة الضّيّقة وتهاوت الموضوعيّة وأصيبت في مقتل.
ثانيا: الشّطط في النّقد وعدم الوضوح:
قالوا قديما: "المعنى في بطن الشّاعر"، وواضح أنّني مضطر إلى تغيير العبارة لتطال النّقد المعاصر، ليصبح معقولا أن نقول: "النّقد الواضح في بطن النّاقد"، وغدا الشّاعر والنّاقد كلاهما غير واضح الفكرة وغير مُبين، هذا عدا الشّطط في الحكم أو في تفسير النّصّ بغير ما يحتمل أو العيب على الشّعراء أفكارهم الّتي أبدعوا أشعارهم بناء عليها، ليكون النّقد فكريّا أحيانا مبتعدا عن محاكمة النّاحية الفنّيّة، ومن بين كلّ هذا برزت جملة من المواقف النّقديّة لتعلن بصريح العبارة عن الشّطط في النّقد أو عدم الوضوح فيه.
عندما يلقي الشّاعر العراقيّ وليد الصّرّاف قصيدته الأولى ، وهي قصيدة عن مدينة بغداد، متناولا في الحديث موقفه ممن احتلّوا بلاده، وحوّلوا العراق إلى أرض يباب قاحلة، وما صاحب ذلك من قتل وتشريد، ينبري له النّاقد نايف الرّشدان بالتّعليق الفكريّ غير النّقديّ، ليقول له: "إنّه ليس (شرفٌ) أن تأكل العدوّ، وإنّما هناك لغة جديدة هي الحوار والاحتواء وليس الاعتداء"، هكذا يكون نقد الرّشدان، وبعيدا عمّا وقعت فيه العبارة من خطأ نحويّ واضح الّذي سيكون بإمكان القارئ الكريم اكتشافه، فإنّني أقف متأنّيا عند الفكرة المستكّنة في هذا الموقف النّقديّ، حيث يطالب الرّشدان الشّاعر وليد الصّرّاف أن يحاور عدوّه ويحتويه ولا يعتدي عليه، فهل يُعقل أن يقال مثل ذلك لشاعر عاش مأساة إنسانيّة كبرى، شهد القاصي والدّاني على بشاعة مَن ساهم في صناعتها مِن محتلّ غاشم لم ولن يعرف للإنسانيّة معنى، إنّه لعمر الحقّ موقف تدجين وشطط في النّقد، ليس له سند من منطق.
ويصطنع د. عليّ بن تميم موقفا نقديّا بعيدا عن النّصّ ولو من باب التّأويل، فيشتطّ النّاقد في تأويل لفظ الجنوب الوارد في قصيدة للشّاعر العراقيّ بسّام مهدي ، إذ يرى النّاقد أنّ الشّاعر يشير إلى ثنائيّة انقسام العالم إلى شمال وجنوب، طالبا من الشّاعر تحطيم اليقين؛ لينطلق نحو الآفاق، وهو بالتّالي يقحم على هامش النّصّ ما يريده من أفكار، والتّفسير بعيد كلّ البعد عن مقصود الشّاعر، فالشّاعر كان يتحدّث عن جنوب العراق، قاصدا مدينة البصرة، وهذا ما أشار إليه كذلك أحد أعضاء لجنة التّحكيم.
وليس هذا الموقف الوحيد للنّاقد عليّ بن تميم في التعامل مع نصوص الشّعراء، إذ غالبا ما يصرّ على وجود تناصّ مع قصائد أخرى لشعراء مشهورين، وهذا ما حدث مثلا مع وقوف النّاقد عند قصيدة الشاذلي القرواشيّ ، فقد رأى النّاقد أنّ الشّاعر قد وظّف في قصيدته بعضا من عبارات الشّاعر محمود درويش، ممّا حدا بالشّاعر القرواشيّ أن يردّ عنه التّهمة بأنّه نشر قصيدته في ديوان قبل أن ينشر درويش تلك القصيدة في ديوان سنة 2003.
إنّ مثل تلك الإحالات غير الموفّقة من النّاقد لم تكن أكثر من عرض للعضلات الثّقافيّة إن جاز التّعبير، ليس أكثر، وبالتّالي فإنّ النّاقد يصرّ على أن يزجّ بنفسه في دوّامة لا تحمد عقباها، فليس مجرّد وجود تعبير لفظيّ عند الشّاعر معناه أنّه قد اتّكأ على غيره وأخذه منه، إنّ مثل هذه المواقف النّقديّة لتدلّ على تمحّل وعدم اعتراف بإبداع الشّعراء وأنّهم قادرون على أن يلتقوا مع إبداع غيرهم وأن يتجاوزوهم، وإلّا لماذا يكتب الشّعراء بعد الشّعراء الفحول؟
ومن غريب النّقد، وما أغربه في أحايين كثيرة! ما رآه د. عبد الملك مرتاض تعليقا على قصيدة الشّاعر السّوريّ حسن بعيتي ، في أنّ لفظ "الزّنزلخت" الّذي استخدمه الشّاعر هو من لغة الجنّ، فهل تعرّف النّاقد على تلك اللّغة لينسب هذه اللّفظة إلى لغة عالم آخر لا يقع عليه الحسّ، ولعلّه كان يسخر من توظيفه تلك المفردة.
وفي السياق نفسه، أقف عند ملحوظة نقديّة قدمها د. صلاح فضل موجها الشّعراء إلى أن يتحدّثوا عن منظومة قيم جديدة، معترضا، من طرف خفيّ، على حديث الشّعراء وتناولهم القيم العربيّة الأصيلة، من فروسيّة وشجاعة ونحوها، وينتظر منهم أن يجدّدوا في منظومة تلك القيم، فيتبنّونها ويبثّونها في المجتمع، وأن يكون تحديث القيم هو هدفهم ذاكرا على سبيل المثال قيمة الحرّيّة، وكـأنّ هذه القيمة ليست قيمة عربيّة أصيلة عرفها العرب قبل الإسلام وترسّخت مع قدوم الإسلام وحركته الثّوريّة العظيمة، إلّا إذا كان النّاقد يقصد معنى آخر للحرّيّة، وهذا المعنى مستكّن في بطن النّاقد لم يفصح عنه.
ويأبى د. صلاح فضل إلّا أن يضلّ الطّريق وهو يعابث قراءة قصيدة الشّاعر السّعوديّ عبد الرحمن الحربي ، فيبتعد النّاقد عن النّصّ وشرط قراءته قراءة موضوعيّة نقديّة، ليزجّ بنفسه في حمأة الصّراع الفكريّ منتصرا لأفكاره، فيربط قصيدة الحربي وما احتوته من إشارات صوفيّة مع خبر مفاده أنّ الجزائر تحارب التّطرّف (الدّينيّ) بالصُّوفيّة.
_______________
* مجلة الليبي، عدد 49، ص (70-73)