فراس حج محمد

موقع يختص بمنشورات صاحبه: مقالات، قصائد، أخبار

قراءة في خريطة الإبداع الأدبي والنقدي للكاتب وليد أبو بكر

فراس حج محمد/ فلسطين

يعد الناقد الأدبي وليد أبو بكر من النقاد المعدودين في الساحة الثقافية، عربيّا وفلسطينياً، ويتميّز بشخصيته النقدية الحادة والجادة، وقد أتيحت لي الفرصة أن أقرأ له نقدا متنوعا، كتباً ومقالات. لكن هذه الصورة لأبي بكر الناقد أو هذا الجانب الأبرز من حياته الكتابية ليست هي الوحيدة، وقد نازعتها الكتابة الإبداعية المتنوعة في الفنون السردية ما بين الرواية والمسرحية. وما يفاجئ القارئ هو أن الناقد وليد أبو بكر قد بدأ حياته الأدبية شاعرا، فأصدر ديواناً شعرياً يتيماً تحت عنوان "الوجه الطيب للأحزان"، وقد صدر عن دار كاظمة للشعر في الكويت عام 1977. ثم توقف عن إصدار الشعر، وربما أيضاً توقف عن كتابته.

ومن اللافت للنظر أيضاً أن وليد أبو بكر قد أصدر كتاباً واحدا يتيما عن الشعر في باب الدراسات النقدية تحت عنوان "في دائرة الشعر الفلسطيني". صدر عن وزارة الثقافة الفلسطينية عام 2013. وضم كتابه "الأرض والثورة" قراءات في الرواية الفلسطينية، في حين يتناول كتابه "الكتابة بنكهة الموت- قراءات في سرد فلسطيني حديث" السرد النسوي دون الشعر، والشيء نفسه يقال عن كتاب "المزاج في النص الأدبي ومخاطر التطبيع في السرد الفلسطيني". وقد أشرت إلى هذه الكتب تحديدا لما فيها من إمكانية لدراسة الشعر، فالموضوع العام لهذه المؤلفات يمكن أن يكون للشعر نصيب فيه، ولكن الكاتب ينفر من الشعر نفوراً لافتا للنظر، فيقصر مجال الدراسة على السرد وحده؛ ما يجعل هذه الدراسات- على أهميتها ورصانتها- تعاني من عدم اكتمال المشهد، وقد ألغت الشعر من اعتبارها.

على أيّ حال، لقد انحاز أبو بكر إلى الفنون السردية كتابة ودراسة ونقداً، وشملت دراساته النقدية السرد بأنواعه: القصة القصيرة والمسرحية والرواية. وأما جهود المؤلف في الترجمة فتشير إلى أن جهوده انصبت على الرواية والقصة والمسرح أكثر من غيرها من الحقول الأخرى، وخاصة التربوية والتعليمية، وعندما اختار أن يترجم شيئا من العربية إلى الإنجليزية لم يختر أن يترجم الشعر، بل ترجم مجموعة من القصص تحت عنوان "Palestinian Short Stories". وأهمل الشعر إهمالا تامّاً. فهل يومئ هذا إلى أمر ما؟

ربما حدث عند "أبو بكر" صدمة تجاه الشعر ونفور من كل شعر ومن الشعراء جميعاً، على إثر نشر ديوانه الأول، فلم يحظ بالقبول والدراسة والتلقي النقدي على الرغم من أن المرحلة التي نشر فيها الديوان (1977) كانت مرحلة الشعر بامتياز، ففترة الخمسينيات وحتى أوائل التسعينيات كان الرائج في الحركة الثقافية هو الشعر، لذلك وجد في هذه الفترة شعراء كثيرون، وكان حضور الرواية قليلا وهامشياً، ولم يكن لها هذا الرواج الذي تتمتع به في العقدين الأخيرين.

حالة "أبو بكر" في هجرته المبكرة للشعر، وهجرته النهائية إلى الرواية والنقد ربما كانت قليلة في زمنه، فالكل يريد أن يكون شاعراً، وقد أشار غسان كنفاني في كتابه "فارس فارس" في واحدة من مقالاته النقدية الساخرة إلى تهافت "الكتّاب" على كتابة الشعر والتلبُّس به في زمنه ذاك. يشبه هذا إلى حد بعيد تهافت الكتّاب اليوم على الرواية والارتماء في أحضانها، فولد نتيجة ذلك سيل من الروايات غير الناضجة، هذا السيل الروائي المرَضي كثيرا ما يشير إليه أبو بكر نفسه في كتاباته النقدية، وخاصة كتابيه "التثاقف وآثاره المدمرة على السرد" و"الفكرة الأصيلة في النسيج الداخلي للرواية"، ويعد الرواية عملا أدبيا فنيا صعبا يحتاج إلى موهبة خاصة.

من باب آخر، فإن حالة "أبو بكر" الإبداعية هذه لها نظائر كثيرة عند كتاب عالميين وعرب وفلسطينيين، وقد أشرت إلى ذلك عند الحديث عن "غسان كنفاني شاعرا"، فكان من الطبيعي أن يبدأ الكاتب أولى كتاباته في الشعر أو فيما يشبه الشعر، فإذا تيقن أنه لن يحقق فيه ذاته أو أنه لن يكون له شأن كبير فيه، فإنه يهجره إلى غيره، كما صرح مثلا الكاتب حسن حميد في أحد اللقاءات. وكذلك فعل مكسيم غوركي من قبل.

عدا ذلك، فإن الناظر في تلك الفترة التي نشر فيها أبو بكر ديوانه اليتيم، كانت ظاهرة الشعراء الكبار عربياً: أدونيس وأنسي الحاج ومحمد الماغوط ونزار قباني وغيرهم، بالإضافة إلى أن شعر المقاومة كان في أوج تألقه فلسطينيا، إذ تربّع على عرشه ثلاثة شعراء كبار: محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، هذا الثلاثي وما كان يمثله كل واحد منهم من توجه فنيّ أو موضوعاتي أو أسلوبي استولوا على جمهور الشعر ومستمعيه، وعلى نقاده، وعلى ناشريه، فشكل هؤلاء الثلاثة "لعنة" ما لكثير من الشعراء الفلسطينيين، فلم يحالفهم الحظ للظهور وللطباعة ولشيوع أشعارهم كهؤلاء الثلاثة، فكل ذنبهم أنهم وجدوا في هذا العصر، تماماً كما هو الحال مع كثير من الشعراء المبدعين الذين هرستهم سلطة المتنبي الشعرية لزمن طويل في عصرهم. وربما امتدت سلطته إلى ما بعد عصره كذلك.

لقد وجد أبو بكر شاعرا في الوقت الذي وجد فيه حنا أبو حنا وسالم جبران وعلي الخليلي وخالد أبو خالد ومريد البرغوثي وعز الدين المناصرة، وغيرهم من الشعراء الفلسطينيين، وكلهم قد احتملوا وهج هؤلاء الثلاثة (درويش والقاسم وزياد)، فآمنوا بمشاريعهم الشعرية وتابعوا مسيرتهم، فأكثر ما يوجع المبدع أن يصمت النقاد عنه، أو أن يقارنوه بغيره فيجعلوه في ذيل القائمة. فقد ظُلمت هذه القامات الشعرية كثيراً، سواء في الإعلام أو في الدراسات أو في نشر كتبهم، ما تبعه ظلم في تلقي الجمهور لأشعارهم.

بكل تأكيد، فإن الناقد والروائي والمترجم والمسرحي وليد أبو بكر، لم يعد شاعراً، وإن أصرّ على أن يذكر ديوانه اليتيم في قائمة كتبه التي ينشرها في ذيل كل كتاب يصدره، وإنما سيبقى دالّا على حنين في نفس كاتبه لمرحلة مرّت ولن تعود، وليُختصر هذا الديوان ويؤول إلى مجرد اسم في "ببليوغرافيا" الشعر الذي تكتفي بتعداد أسماء الدواوين مع مؤلفيها ودار النشر والسنة، كما فعل الدكتور يوسف حطيني في كتابه "ديوان الشعر الفلسطيني" حيث احتل ديوان "الوجه الطيب للأحزان" الرقم "2501"، لينتهي الأمر عند هذا الحد في شاعرية وليد أبو بكر وشعره. كما انتهى غيره من أصحاب الديوان الواحد، كما هو الحال مع الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي صاحبة الديوان اليتيم "العودة إلى النبع الحالم"، فتترك الشعر، لتتفرغ إلى مشروعها الثقافي الأهم في ترجمة الأدب العربي إلى اللغة الإنجليزية ضمن مشروع "بروتا"، حيث بدأته عام 1980.

ومهما يكن من أمر، فإنه ينبغي أن أوضح مسألتين مهمتين في هذا السياق؛ الأولى أن الالتفات إلى هذه الملاحظة في خريطة الإبداع عند الكاتب، أي كاتب، تكشف عن التحوّلات الإبداعية لديه، وتبين مدى احترام الكاتب لمواهبه وتقديرها حق قدرها، ليذهب نحو تلك المجالات التي يستطيع أن يحقق فيها ذاته على الوجه الذي يأمل ويتمنى. وأما الثانية، فمن حق الكاتب أيضاـ أي كاتب- أن يجرّب ما أتيح له من فنون تعبيرية، ومن حقه أن يفشل، ومن حقه أن ينجح، ومن حقه أن يقيّم تجربته هو نفسه، بعيدا عن تقييم الآخرين، "فما عاتب الحر الكريم كنفسه". ولعل وليد أبو بكر بعد أن أصبح ناقدا يشار إليه بالبنان ينظر إلى باكورة إنتاجه الشعري نظرة مختلفة الآن، وفي أغلب الظنّ أن له على نفسه شاعراً انتقادات بنيوية، جعلته لا يندم على ما فعل من هجرة الشعر، وربما لسان حاله يقول كما قال الروائي التونسي كمال الرياحي أنه رحم القراء من رداءة شعره، إذ قال ذلك وهو يضحك، غير نادم على هذا الهجران الجميل والانغراس في لحم السرد وأعصابه إلى آخر حدّ ممكن.

يبدو لي أنّ حالة "أبو بكر" في هجران الشعر تشبه حالة الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي رغم اشتغاله بالشعر إلا أنه لم يُعرف شاعراً، وقال قولته المشهورة: "ما يأتيني منه لا أرضاه، وما أرضاه لا يأتيني"، وكذلك أبو بكر فإنه ربما وصل إلى هذه القناعة، رغم اشتغاله بالنقد، ومنه نقد الشعر، وإن كان بمؤلف واحد. ولعل ذلك أيضا صحيح، وينطبق على إنجازات "أبو بكر" الروائية والمسرحية المتعددة، فإنها لم تجعل منه روائيا مشهورا أو مسرحيا بارزا، وإنما استحوذ عليه النقد، فصار علامة مميزة فيه. ولعلّ هذا يكفيه ويغنيه.

المصدر: فراس حج محمد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 323 مشاهدة
نشرت فى 9 يونيو 2021 بواسطة ferasomar

فراس عمر حج محمد

ferasomar
الموقع الخاص بــ "فراس حج محمد" »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

727,699

فراس حج محمد

نتيجة بحث الصور عن فراس حج محمد كنانة أون لاين

من مواليد مدينة نابلس في فــلسطين عــام 1973م، حاصل على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني الحديث من جامعة النجاح الوطنية. عمل معلما ومشرفا تربويا ومحاضرا غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة. 

عمل محررا لغويا في مجلتي الزيزفونة للأطفال/ رام الله، وشارك في إعداد مواد تدريبية في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وكان عضوا في هيئة تحرير مجلة القانون الدولي الإنساني/ الإصدار الثاني الصادرة عن وزارة التربية والتعليم في فلسطين.

نشر العديد من المـقالات والقـصائد في مـجالات النشر المختلفة الإلـكترونية والصحف والمجلات في فلسطين والوطن العربي وبريطانيا وأمريكا وكندا والمكسيك. وشارك في ندوات وأمسيات شعرية ومؤتمرات في فلسطين.

الكتب المطبوعة: 

رسائــل إلى شهرزاد، ومــن طقوس القهوة المرة، صادران عن دار غُراب للنشر والتوزيع في القاهرة/ 2013، ومجموعة أناشيد وقصائد/ 2013، وكتاب ديوان أميرة الوجد/ 2014، الصادران عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل/ رام الله، وكتاب "دوائر العطش" عن دار غراب للنشر والتوزيع. وديوان "مزاج غزة العاصف، 2014، وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في القصة القصيرة جدا- دار موزييك/ الأردن وديوان "وأنت وحدك أغنية" عن دار ليبرتي/ القدس وبالتعاون مع بيت الشعر في فلسطين، وكتاب "يوميات كاتب يدعى X"، وكتاب "كأنها نصف الحقيقية" /الرقمية/ فلسطين، وكتاب "في ذكرى محمود درويش"، الزيزفونة 2016، وكتاب "شهرزاد ما زالت تروي- مقالات في المرأة والإبداع النسائي"، الرقمية، 2017، وديوان "الحب أن"، دار الأمل، الأردن، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، مكتبة كل شي، حيفا، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد"، مؤسسة أنصار الضاد، أم الفحم، 2018، وديوان "ما يشبه الرثاء"، دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، 2019، وكتاب "بلاغة الصنعة الشعرية"، دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020. وكتاب "نِسوة في المدينة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2020. وكتاب "الإصحاح الأوّل لحرف الفاء- أسعدتِ صباحاً يا سيدتي"، دار الفاروق للنشر والتوزيع، نابلس، 2021. وكتاب "استعادة غسان كنفاني"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2021، وكتيّب "من قتل مدرّس التاريخ؟"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2021. وديوان "وشيء من سردٍ قليل"، وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله، 2021. وديوان "على حافّة الشعر: ثمّة عشق وثمّة موت"، دار البدوي، ألمانيا، 2022. وكتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة"، الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمان، 2023. وكتاب "متلازمة ديسمبر"، دار بدوي، ألمانيا، 2023. وكتاب "في رحاب اللغة العربية"، دار بدوي، ألمانيا، 2023، وكتاب "سرّ الجملة الاسميّة"، دار الرقمية، فلسطين، 2023. وكتاب "تصدّع الجدران- عن دور الأدب في مقاومة العتمة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمّان، 2023، وديوان "في أعالي المعركة"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2023، وكتاب "مساحة شخصية- من يوميات الحروب على فلسطين"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "الثرثرات المحببة- الرسائل"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "فتنة الحاسة السادسة- تأملات حول الصور"، دار الفاروق للثقافة، نابلس، 2025. 

حررت العديد من الكتب، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب والدواوين المخطوطة. 

كتب عن هذه التجربة الإبداعية العديد من الكتاب الفلسطينيين والعرب، وأجريت معي عدة حوارات ولقاءات تلفزيونية.