في تأمّل تجربة الكتابة:
سنتان من اعتزال الفيسبوك والحياة الثقافية
فراس حج محمد
في رمضان هذا العام (2019)، أكون قد اعتزلت المشاركة في عالم الفيسبوك سنتين كاملتين، اعتزلت فيها لأسباب خاصة، ولكنني لم أغب عن هذا العالم كلية، فكنت أتسلل إليه أولا بين الفينة والأخرى عن طريق حسابات أبنائي، حتى تبرع أحدهم بإعطائي أحد حساباته المهملة لأغير الاسم، فصرت أتجوّل في رحاب هذا العالم، وأعلق بما أقتنع فيه دون أن أخشى شيئا، لعلني كنت جبانا، وقاسيا دون أن يعرفني أحد؛ فعبّرت بكل صراحة معلقا على أشباه الكتّاب والكاتبات، وأغضبت الكثيرين، ولكنّ خطأ تقنيا لم أنتبّه له أدى لاكتشاف أمري، فحذفت ذلك الحساب فورا. امرأة تناغمت معها جدا، فدخلنا في حوارات شديدة العمق ثقافية، ويدفعها حب الفضول مصرّة على أن تعرفني، فكشفت أمري!
بعد فترة أيضا يركبني اسم آخر، فأتلافى الخطأ التقني، فكنت في مأمن من الرقباء والفضوليين، ولم أستكثر من الأصدقاء، لم يتجاوز أصدقائي الستين صديقا، في حين كان هناك (5000) صديق على الحساب المفضوح أمره، وتجنبت إضافة تلك المرأة، ولم أشعرها من قريب أو بعيد أنني موحود في عالم مارك، هذا الفضاء الأزرق.
كان مقتل قريني في الحساب الأول خطأ تقني، ومقتل قريني الثاني خطأ عاطفي، وفي كلا الأمرين لم أحتط للأمر.
اضطررت بعد ذلك للعودة لحسابي القديم، ما دام أنني سأقع في كل مرة بأخطاء لا قِبَل لي بردها، مع علمي الأكيد أن الفيسبوك مضيعة كبيرة للوقت وهدر للطاقة الذهنية وتشتيت للتركيز وسرقة النفس مما هو جليل من الأعمال.
في فترة الاعتزال تلك التي امتدت لسنتين، هناك أصدقاء ظلوا معي، فقد انتقلت إلى تويتير، بعضهم تواصل معي بالبريد الإلكتروني. صديق واحد صدوق ظل يشملني برعايته، وظل حريصا على أن أكون موجودا في الفيسبوك، إنه الرائع رائد الحواري، إذ كان ينشر على صفحات المجموعات الفيسبوك كل ما أرسله للصحف، إلى أن البعض انتقده، فكيف يكون وكيلا عني وينشر مقالاتي وقصائدي؟ أشكر للصديق رائد طيبة روحه ووفائه وإصراره الذي لم يفتر للحظة على أن يظل معي، هنا في الفيسبوك، أو يزوروني في مكتبي حيث أعمل. مثل هذا الصديق لن يتكرر وجوده في حياة الإنسان، إننا كنا بالفعل كجلال الدين الرومي وشمس التبريزي، وكانت تدور بيننا أحاديث متعددة، سياسية واجتماعية وثقافية، وكان شاهدا على كثير من ولادة المشاريع الإبداعية، وخاصة "الرسائل" التي كتبتها، وناقشت فيها مواضيع متعددة من دينية وثقافية وتجاوزت حدود العاطفة التي كانت محورا فاعلا في كتابي الأول "رسائل إلى شهرزاد".
ثمة أصدقاء آخرون أحب أن أشكرهم، فلم أغب عن ذاكرتهم، الصديق الكاتب الجميل عبد الغني سلامة، فقد هاتفني في فترة الاحتجاب يدعونني لحفلة توقيع أحد كتبه، وبعث لي بكتابه الأخير "حين يخضرّ الكلام" موقّعا. وكذلك الصديق والروائي الجميل مشهور البطران الذي كان كثيرا ما يهاتفني، فنتحدث عن مقال أو رواية أو قصيدة، وعندما كتبت عن روايته "أوبرا القناديل" وقلت فيها رأيي ولم يكن إيجابيا، لم يغضب ولم يثر ولم يقاطعني، بل على العكس تماما، فرح بما كتبت، مبديا ارتياحه لتناول الرواية على مشرحة النقد.
في هذين العامين انقطعت عن الحياة الثقافية والمشاركة فيها، فلم أشارك بأي أمسية شعرية أو لقاء ثقافي، عدا لقاء واحد فقط، قدمت فيه صديقي العزيز الكاتب شريف سمحان، إنه من الأصدقاء الأوفياء، فقد بقينا على اتصال بشكل دائم، وبيننا زيارات أيضا. كما أنني شاركت اللجنة الثقافية لمكتبة دار الفاروق مناقشة كتابين لي (وأنت وحدك أغنية، وملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية)، وكنت سعيدا جدا بذينك اللقاءين سعادة كبيرة.
في هذه الفترة أيضا، عملت على كتب متعددة، وقطعت شوطا كبيرا في إعادة ترميم نفسي، ومراجعتها حيال قضايا كثيرة، وأصدرت كتابين أيضا، الجزء الثالث من كتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد"، برعاية الشاعر والمترجم الدكتور محمد حلمي الريشة، وديوان "ما يشبه الرثاء" برعاية الصديق الكاتب "طارق عسراوي". كان ديوانا مختلفا عما كنت أصدرته سابقا، فلا هو غزليّ ولا هو سياسيّ، بل إنه تأمل للذات الشاعرة وأوجاعها الحادة في السياسة والوجدان وأوجاع الثقافة والمجتمع.
هل بقي لديّ شيء يشغلني؟ ربما لا بد من فترة ترتاح فيها النفس لتأخذ نفسا عميقا، للتفكير في مشاريع قادمة. ومن هنا أيضا عليّ أن أعود لممارسة غثاء الفيسبوك، ولكنْ، لا أدري هل كان صوابا العودة إلى هذا العالم غير المستقر؟ تأتيني لحظات أقول: يا ليتني سلمت من الخطأ التقني، وسلمت من خطأي العاطفي لأظل في ظلّ نفسي مختبئا وراء شهوة الاعتزال، هذه الشهوة التي جعلتني أتأمل أكثر وأقرأ أكثر، وأكتب بشكل منظم أكثر، وأنجزت فيها الكثير.
الآن أجد نفسي خاويا من الأفكار مدججا بالأخطاء التقنية، والعاطفية وتغوص رأسي في الرمال. فيا ليتني اتقيتكما أيها الخطآن، التقني والعاطفي لكنت الآن مشغولا بما هو أجدى من كتابة هذا الاعتراف الضالّ. ولكن لا بد لك من بعض الضلال لتعرف الطعم الحقيقي للهدى والاستقامة.