مصر وطنى والازهر بيتى والزراعة حياتى . ومصر هى بلاد الدين والعلم والمنارة . ومصر هى التى بنت من قلب الحجارة حضارة . وهى أرض كريمة لرب كريم

سموم فى شرايين المنزلة المصدر: الأهرام اليومى بقلم:   عبد الرحمن سعد

صرف مصنع «سنمار» فى البحيرة الذى يتهمه الكثيرون بتلويثها

لا يقف الخطر الذى يهدد بحيرة «المنزلة» عند التعدى عليها بالردم والتجفيف وتضييق الخناق على الصيد الحر بمسطحها المائي، وهو ما أوضحه الجزء الأول من هذا التحقيق، وإنما يمتد إلى تعرضها لتلوث يمتد بداخلها طولا وعرضا، ويجعلها تتبوأ المركز الأول بين بحيرات العالم الأكثر تلوثا، حتى أصبحت «المرحاض العمومى لمصر»، نظرا لما تستقبله من ملوثات.
فى هذا الجزء نتتبع رحلة تلوث البحيرة بالسموم المميتة عبر إلقاء الصرفين الزراعى والصحى فيها، عند الدقهلية خاصة، من مصرفى بحر البقر وبحر حادوس وغيرهما، وإلقاء الصرف الصناعى المدمر فيها، لا سيما من مصانع دمياط وبورسعيد، ونكشف: كيف تحولت البحيرة إلى
«نقطة سوداء» تزخر بأنواع الملوثات السامة، ونرصد ما أدت إليه من ارتفاع نسبة الإصابة بين الأهالى بأمراض البلهارسيا والتليف الكبدى والفشل الكلوي.
كما نحاول تقصى حقيقة نتائج العينات التى تأتى من المعامل المركزية بوزارة الصحة بأن أسماك البحيرة سليمة بينما المياه غير مطابقة، وهو ما يرفضه باحثون بمركز بحوث المطرية، بل ويتشكك فيه وكيل مديرية الصحة بالقول: «هل هى نتائج أمنية»، فى وقت تحذر فيه الدراسات من أن أسماك البحيرة ومزارعها السمكية هى الأكثر احتواء على العناصر الثقيلة، ما اقتضى اتجاها شعبيا يتبلور حاليا بين الأهالى لمقاضاة هيئة الثروة السمكية، باعتبار أن البحيرة تحت ولايتها.
بداية التلوث فى البحيرة تعود، فيما يوضحه الشيخ ضياء محمود ابوالنجا (أحد مواطنى المطرية)، إلى عام 1967 عندما حدثت النكسة، وتم إغلاق البواغيز. الأمر الذى استغله بعض المنتفعين بإقامة تحاويط (جمع تحويطة) على أجزاء من المسطح المائى للبحيرة، ثم حمايتها بتهديد السلاح، فأصبحوا مليونيرات من ناتج الحوش (الحوز)، بينما باع الصيادون الفقراء حُلل الطعام ليأكلوا بثمنها!
- أسماك نافقة
التغير فى نوعية مياه البحيرة من مالحة إلى عذبة يرجعه المهندس أكرم حاتم مدير الثروة السمكية بالمطرية إلى صرف المصارف الزراعية والصحية فيها، وأشهرها بحر البقر وبحر حادوس ومحب والسيالة، وتفتيش السر مما أدى إلى زيادة الترسيبات فى البحيرة.
ويضيف: فى الماضى كانت المياه مالحة فى البحيرة، الآن أصبحت
«شروب» أي: خليطا من المالحة والعذبة، ما أدى إلى انحسار جميع أنواع الأسماك التى كانت تعيش فيها، والاكتفاء بالقرموط والبلطي.
ويناشد بسرعة إنشاء محطات معالجة على المصبات المائية للمصارف المتواجدة على البحيرة، بعد أن رفض الاتحاد الأوروبى صرف «بحر البقر» فى البحر المتوسط.
«لمصلحة من عدم تطهير البواغيز؟». تساؤل يثيره عاطف منير النحاس عضو مجلس إدارة الجمعية الخيرية الإسلامية بالمطرية، وله حق فى ذلك، إذ يشكو يوسف الإتربي، وهو صاحب مزرعة سمكية بقرية شطا فى دمياط، من أن السمك مات فى مزرعته، نتيجة «وحاشة» (تلوث) المياه، وهو السبب نفسه الذى أدى إلى تظاهر صيادى دمياط أمام هيئة الثروة السمكية يوم 26 يونيو الماضي، بعد أن أحاطوا مبانى الهيئة بالأسماك النافقة لمزارعهم.
- رحلة بين الملوثات
لنحو خمس ساعات جاب بنا المركب البحيرة فى المحافظات الثلاث: الدقهلية وبور سعيد ودمياط. البداية كانت من المطرية (دقهلية). اخترنا لجولتنا الصباح الباكر من الجمعة 10 يونيو الماضى لأنها الساعة التى قدرنا أنه يفتر فيها «شياطين البلطجة».
«دول العالم تصنع بحيرات صناعية، ونحن نقتل بحيرة طبيعية. سبحان الله!». التعجب لسليمان الشامى (صياد).
خلال الجولة طالعنا مشاريع للموت. غلمانا يستحمون بأعماقها الملوثة، وصيادين يسمونهم «طباشة» ينزلون بأجسامهم فى مياهها، لصيد السمك، وصيادى تحويطات (تعتبرها السلطات مخالفة) لوضع تحاويط حول مناطق من البحيرة تدخل فيها الأسماك فلا تخرج إلا فى شباكهم.
البحيرة فريسة أيضا لورد النيل، ويسميه الأهالى «بشنين»، إذ هاجم نحو 60% منها فى بعض التقديرات.
«انظر ماذا فعل الصرف الصحى فى المياه». يتحسر حسن عبدالعال بلحة (صياد). عند جزيرة إبن سلام.
بينما روائح كريهة تنبعث من أجزاء عدة فى البحيرة، ومياه عطنة فى أجزاء أخري، ما جعل محمد حمودة (صياد) يطالب بأن تقوم إحدى الشركات بتطهير البحيرة، على أن يتم وضع ميزانية محددة، وجدول زمني، لأعمال التطهير.
- فى القابوطي
«القابوطي» حى أقدم من بور سعيد نفسها ويطل على البحيرة فى نهايتها عند قناة الاتصال التى تصلها بقناة السويس من الشرق، لكنه الآن الأكثر إهمالا. لون المياه أخضر أو أسود داكن من شدة التلوث بأنواعه.
«السمك اتعدم. لذا نمشى فى المخالف». يقول أحمد معاطي، ويقصد بالمخالف قناة السويس.
هنا - فى القابوطي - تستقبل البحيرة جميع أنواع الصرف الصناعي، خاصة مخلفات منطقة الاستثمار، والصناعات الكيماوية، وأبرزها مصنع سنمار.
لذا تنصب مطالب الأهالى (جلال عبدالسميع، وإبراهيم معاطي، ومصطفى السيد مصطفي، ومحمد يوسف وحسن صيام)، وكلهم من صيادى القابوطي، على ضرورة ترحيل المصنع المذكور، لأنه أصبح مصنع الدمار، بحسب تعبيرهم، نتيجة تلويثه مياه البحيرة، وتسببه فى موت الأسماك.
عضو مجلس الشعب السابق عن بورسعيد الدكتور أكرم الشاعر أشد غضبا إذ يقول «لو حاول أعداؤنا تدمير البحيرة لما وصلوا فى تدميرها إلى ما وصل إليه النظام السابق». ويضيف: «سنمار يصب الكلور المركز، ونفايات البترو كيماويات فى البحيرة، وهناك مصانع غيره تقوم بصرف مخلفاتها دون معالجة فى منطقة قعر البحر التى تم أخذ عينات من مياهها فجاءت غير مطابقة».
ويتساءل: هيئة الثروة السمكية أجرت 76 فدانا للمصنع بأجر 14 جنيها فقط للفدان.هل هذا معقول؟
ومن ثم يدعو إلى تقنين أوضاع المصانع التى تصب مياهها غير المعالجة فى البحيرة، بل وإغلاقها. لأن صحة المواطن أهم، بحسب تعبيره.
ويصف وزارة البيئة فى عهدها الحالي، بأنها «مُحلل»، مشيرا إلى أن قيادتها لم تتغير بعد الثورة، ومضيفا: «إنها جزء من المشكلة لأنها لا تقاوم التلوث».
- فى شطا بدمياط
وصلنا إلى قرية شطا بدمياط، حيث لا يُوجد مرسى للمراكب، بينما قطعان جاموس ترتع وتقتات على النفايات بإحدى ضفتى البحيرة.
يتضرر الأهالى هنا - كالعادة - من عدم وجود مساحة كافية للصيد إلا مساحة صغيرة يتقاتلون عليها.
«لدينا 24 قرية فى دمياط يبلغ عدد الصيادين فيها نحو ربع مليون صياد، ويعانون الأمرين فى ممارسة المهنة». يقول حمدى حجازي.
ويبدى مجدى ابوالسيد نقمته على يوسف والي، لأنه - كما يقول - «أخذ ألف فدان من المساحة هنا، وسمح بتحويلها إلى مزارع سمكية»، لكن حمودة عاشور (صاحب إحدى هذه المزارع) يقول إنه أجرها من هيئة الثروة السمكية، وتكبد فيها آلاف الجنيهات، لكن السمك نفق نظرا لـ
«وحاشة المياه».
وبالفعل، يكشف المهندس مجدى عبدالواحد مدير مشروعات الثروة السمكية بدمياط عن العثور على سمك ميت بمزرعة سمكية بمنطقة الخياطة، مرجعا ذلك إلى تلوث المياه، بسبب الصرف الصحي. ويقول: «نحرر محاضر للجهات المخالفة التى تصرف على البحيرة»، لكن الأهالى يعتبرون ذلك إجراء شكليا، وغير كاف بالمرة.
- صيادون بلا حقوق
مردود التلوث فى البحيرة واضح جدا على صحة الصيادين، وأفراد أسرهم. والدة الصياد طه محمد سعد سيدة مسنة تعيش معه فى غرفة واحدة. طه عمره (43) سنة، لكنه أصيب بالبلهارسيا، فتوقف عن الصيد، الآن هو طريح الفراش.انفصلت عنه زوجته، واصطحبت الأبناء معها، نتيجة هذه الظروف.
والدة طه مات زوجها أيضا بتليف فى الكبد من جراء إصابته بالبلهارسيا قبل نحو عام، وتوفى ابنها الغريب محمد سعد، وكان يعمل صيادا، منذ أربعة شهور أيضا، كما أصيبت ابنتها بالتليف الكبدي. هذه الأمراض والوفيات فى أسرة واحدة. هل البحيرة بريئة منها؟!
الإجابة تأتينى من لقاءات طاردنى بها عشرات الصيادين، أعطونى أوراق تحاليلهم، مؤملين أن تساعد وزارة الصحة فى علاجهم. ينتمون إلى مختلف الأعمار، لكنهم أصيبوا بتليف الكبد، والالتهاب الفيروسي، والفشل الكلوي. وكلهم أجمعوا على أن أمراضهم هى نتيجة النزول فى البحيرة، وأكل أسماكها، وبرغم ذلك ما زال بعضهم يمارس مهنة الصيد فيها. لتدبير قوت أبنائه، ونفقات علاجه.
شكواهم واحدة أيضا من أنه لا تأمين لهم، ولا معاشات، ولا علاج على نفقة التأمين الصحي. وأخيرا: يعانون من إهمال يضرب بجذوره فى مستشفى المطرية الذى يترددون عليه للعلاج.
- خطر على الصحة
«عدم تطهير البحيرة أدى إلى انتشار الإصابة بالبلهارسيا. ولأن الصياد لا يعالجها دوريا فإنه يُصاب بمضاعفاتها مثل تليف الكبد، وتضخم الطحال، واستسقاء البطن، والقئ الدموي».
هكذا يعلق الدكتور محمد عفيفى أخصائى الأمراض المتوطنة بالمطرية.
ومتفقا معه يرجع الدكتور محمد عبده ندا وكيل مستشفى المطرية المركزى سبب زيادة معدلات الإصابة بالبلهارسيا والفشل الكلوى بين الصيادين إلى تلوث البحيرة بالعناصر الثقيلة.
- حقيقة العينات
«لمكافحة التلوث تقوم وحدة الصحة فى المطرية بجمع عينات شهرية من الأسماك والمياه، من خمس مناطق بالبحيرة، قابلة للتغيير كل شهر، ويتم إرسالها إلى المعامل المركزية بوزارة الصحة».
الكلام للدكتور إبراهيم محمد أبوالنجا وكيل وقائى الإدارة الصحية فى المطرية، الذى يشير إلى أن نتائج العينات ظلت تأتى من المعامل المركزية على مدى السنوات الماضية بأن السمك سليم، وأن المياه غير سليمة. حتى آخر تقرير، قبل الثورة بخمسة أيام. ويتساءل: هل هى نتائج كانت تصدر لأسباب أمنية؟
بينما يعلق الدكتور أحمد عبدالخالق الليثى الباحث بمركز بحوث المطرية بالقول:«هناك تناقض فى النتيجة، فلو كانت المياه سليمة سيكون السمك سليما؛ ولو كانت العناصر الثقيلة فيه كثيرة فسيكون السمك مخزنا لها».
ويستشهد بدراسة أجراها على سمك البلطى فى البحيرة أكدت زيادة نسبة العناصر الثقيلة فيه عن الحد المسموح به عالميا خاصة عناصر: الرصاص والنحاس والزنك والكادميوم والزرنيخ والحديد والكوبلت والزئبق.
- دعوى جنائية
المنسق العام للجنة عن صيادى المطرية وبحيرة المنزلة المحامى حسن الملهاط يصف نتائج عينات معامل وزارة الصحة بأنه «تلاعب يستهدف تهدئة الرأى العام على حساب الصحة العامة».
ويكشف عن أن الأهالى بصدد إبلاغ الجهات الرقابية، والنائب العام، وتحريك الدعوى الجنائية بحق رئيس هيئة الثروة السمكية، لتوافر المسئولية المدنية والجنائية تجاهه، باعتباره المسئول المباشر عن البحيرة، وكذلك مخاطبة الجهات الدولية المعنية، نظرا لما تسببه البحيرة بوضعها الراهن من تلوث لمياه البحر المتوسط، مثل الاتحاد الأوروبي، وغيره من المنظمات الدولية.
ويضيف أن الأهالى أيضا بصدد تحريك دعوى جنائية للتحقيق فى قرارات وزير الزراعة الأسبق يوسف والى بشأن جعل منطقتى قعر البحر والجحر، تابعتين لهيئة التعمير، إذ إنهما خاضعتان لولاية هيئة الثروة السمكية.
بينما يتهم محمد السيد عزام رئيس لجنة الثروة السمكية بمجلس محلى الدقهلية، إدارة الهيئة بأنها تسببت فى إفساد البحيرة نتيجة إضفاء الشرعية على التعديات بما سُمى بـ «عقود المؤاجرة»، فتحولت إلى تاجر يتاجر فى البحيرة كمنفعة عامة لتصبح إقطاعية لأصحاب المال.
- مطالب شعبية
عبدالكريم الرفاعى رئيس جمعية الصيادين بالمطرية يطالب -من جهته- بمنع الحفارات الأهلية (التى تستخدم فى التجفيف) من العمل، وكذلك منع تأجير شواطئ البحيرة وأطرافها من قبل الهيئة المذكورة.
ومتفقا معه، يطلب فتحى منصور حوالة عضو الجمعية إدخال المياه المالحة إلى البحيرة، والاكتفاء بالمراكب الشراعية.
أما لجنة الدفاع عن الصيادين فتطالب بتطهير البواغيز خاصة بوغاز الجميل الجديد، كما تدعو وزير الرى لتحويل مصرف بحر البقر أو إرجاعه إلى الخلف نحو عشرة كيلو مترات عن المصب حتى يبعد عن البوغاز، وتطالب بتعديل القانون رقم 124 لسنة 1983، وإضافة بند «مصادرة الحفارات الأهلية واللنشات ذات المحرك الآلي».
- تعهدات
يطالب الدكتور عبدالله الشبلى مدير مركز بحوث المطرية بوقف الصرف الصحى على البحيرة، وعمل محطات معالجة، ومنع حرف الصيد الجائر.
ويدعو إلى منع صيد الأسماك الصغيرة (الذريعة)، لا سيما فى البواغيز، وكذلك منع صيد الأمهات لصنع البطارخ، وتركها كى تفرخ، مع عمل مقاطع طولية وعرضية بالبحيرة.
وفى المقابل، تعهد اللواء محسن حفظى محافظ الدقهلية لـ «تحقيقات الأهرام» بأنه سيعمل على التنسيق مع وزارة الزراعة لدراسة طرح عملية تطهير البحيرة بأكملها فى مناقصة عامة على الشركات المتخصصة، وكذا تعديل مواد قانون الصيد رقم 124 لسنة 83 لتغليظ العقوبة على المخالفين، والتنسيق مع وزارة التعاون الدولى لتوفير منحة مالية لدعم البحيرة بالكراكات، والحفارات اللازمة.
المحافظ تعهد أيضا بتفعيل قرار التحفظ على المعدات والآلآت المستخدمة فى التعديات، والسماح لهيئة الثروة السمكية باستخدامها فى أعمال التطهير، وقصر إصدار تراخيص اللنشات العاملة بالبحيرة على جهة واحدة، وحظر إقامة مزارع سمكية بالبحيرة، وقصر استخدامها على الصيد الحر، وعدم قيام هيئة الثروة السمكية بمنح عقود إيجار جديدة لإقامة منشآت حول البحيرة، ودراسة إنشاء نقابة عامة للصيادين، وبورصة للأسماك، وتكثيف أوجه الرعاية الطبية والإنسانية والاجتماعية للصيادين.
ويبقى السؤال: هل تصمد تعهدات المحافظ للزمن، ويرى الأهالى تطبيقها على أرض الواقع؟
الحلقة الأخيرة:
(المنزلة. مشروع قومي).

.جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام2010

 

المصدر: فاروق غانم // نقلا عن جريدة الاهرام اليومى
zeraah

رب هب لى من لدنك ذرية طيبة انك سميع الدعاء

  • Currently 114/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
28 تصويتات / 498 مشاهدة
نشرت فى 6 يوليو 2011 بواسطة zeraah

ساحة النقاش

zraah

zeraah
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

57,420