العشر الأواخر .. استمرارية وخواتيم
د. زياد موسى عبد المعطي
أرى في العشر الأواخر من رمضان دروس وعبر كثيرة منها الاستمرارية والعبرة بالخواتيم.
الاستمرارية: الكثير من المسلمين يسعدون بقدوم شهر رمضان المبارك ويجتهدون في الحفاظ على الصلوات في مواعيدها، ويحافظون على قيام صلاة التراويح في جماعة، ويجتهدون في قراءة القرآن، يحدث ذلك في بداية شهر رمضان، فإذا ما مرت أيام شهر رمضان قل الحماس وفترت الهمة، وقلت المواظبة على الصلوات في جماعة وقل عدد المصلين في المساجد، وقل عدد الذين يصلون التراويح في جماعة، وفترت همة المواظبة على وِرد قرآني يومي.
الله عز وجل جعل ليلة القدر في العشر الأواخر، وأخفى الله عنا ليلة القدر بالتحديد، وأغلب الروايات تقول أن ليلة القدر في الليالي الوتر من العشر الأواخر في رمضان، وإني أرى في ذلك تعليم للمسلمين أن يكونوا أصحاب نفس طويل وألا يملوا من العبادة، فالاستمرارية مهمة في عبادة الله عز وجل، فليس العبرة بمن يعبد الله عز وجل في أول رمضان ثم تفتر عزيمته، ولا يستمر في عبادته أواخر شهر رمضان، بل يجب على المسلم أن يعبد الله ويخلص في عبادته طوال شهر رمضان أوله وأوسطه وآخره، بل يجب أن يتعلم المسلم الاستمرارية في عبادة الله طوال العام في رمضان أو في غيره من الشهور.
إن الاستمرارية في إتقان العمل مطلوبة من كل مسلم بل كل إنسان في كل وقت، يقول الله عز وجل "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ " (التوبة:105).
الاستمرارية مطلوبة في تحصيل العلم، فالتفوق في مراحل التعليم المختلفة مطلوبة لمن يريد أن يتبوأ مكانة عالية في مجتمعه، فمثلاً من يتفوق في مراحل التعليم الابتدائي ثم يمل من تحصيل العلم، لا يستوي مع من اجتهد وتفوق في مراحل التعليم وحصل على أعلى الشهادات.
الاستمرارية في إتقان وتجويد العمل يدخل البعض مرحلة النجومية، ويسجل أعمالهم التاريخ في سجلاته الناصعة، وفي ذلك أمثلة كثيرة من العلماء، والقادة، وغيرهم من نجوم المجتمع، فمثلاً يفوز ببطولات دوري الكرة في العالم الفرق ذات النفس الطويل التي تستطيع الفوز بأكبر عدد من المباريات، والتي تقوم بجمع أكبر عدد من النقاط، وتفوز ببطولات الكأس الفرق التي تواصل حتى نهائي البطولة تفوز بالنهائي، فليس العبرة بمن يفوز في البداية ولا يكمل حتى النهاية، فالعبرة بالاستمرارية والنهايات والخواتيم.
العبرة بالخواتيم: العبرة ليست بالبدايات، وإنما العبرة بالنهايات، فليس العبرة بمن اجتهد في بداية شهر رمضان ثم فترت عزيمته بمرور أيام الشهر، فإن ليلة القدر ربما تكون في آخر ليالي رمضان، وليلة القدر عبادتها خير من عبادة ألف شهر، فربما تكون آخر ليلة عبادتها أفضل من عبادة ألف شهر وليس شهر رمضان فقط.
العبرة بخواتيم الأعمال لدخول الجنة، وفي ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد. فو الذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها" (متفق عليه)، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "يُبعَثُ كلُّ عبدٍ على ما ماتَ عليهِ" (صحيح مسلم)، ولأن نهاية الإنسان في الدنيا وهو موعد موته لا يعلمه الإنسان فيجب أن نكون جميعاً على استعداد دائم لملاقاة الله وأن نعمل صالحاً ليكون آخر أعمالنا صالحة، ويدخلنا الله الجنة.
من يدخل سباق للجري للمسافات المتوسطة والطويلة يجعل لنفسه خطة لكي يفوز بالسباق، فيبدأ الجري بمعدل متوسط ويحافظ على معدل الجري أغلب مراحل السباق، وعند اقتراب النهاية يزيد معدل الجري لأعلى درجة ممكنة حتى يمكنه الفوز بالسباق ويحصل على الجائزة، أما من يبدأ السباق بأعلى معدلات السرعة عنده لا يستطيع إكمال السباق حتى النهاية بنفس القوة في الأمتار الأخيرة، ولا يستطيع الفوز بمركز متقدم والحصول على جائزة. وكذلك أرى شهر رمضان سباق لمسافة زمنية متوسطة، سباق لمدة شهر من الزمن، سباق على الطاعات والحصول على الحسنات، من يبدأ بأقصى طاقة عنده، لا يستطيع إكمال السباق حتى آخر الليالي في الشهر الكريم، والفوز بثواب ليلة القدر، وأيضاً أرى الحياة الدنيا سباق في عبادة الله والحصول على رضاه، يقول الله عز وجل "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات: 56) والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، ويقول الله عز وجل "وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ" (النور: 52)، فندعو الله عز وجل أن يوفقنا لعبادته، وأن يهدينا لطاعته، وأن يرزقنا الاستمرارية في الطاعة، وأن يحسن خواتيم أعمالنا.
الدنيا دار اختبار والآخرة دار استقرار، يكون فيها العطاء لمن نجح الاختبار، ويكون الفوز بالجنة خير مكافأة وخير مستقر وقرار "فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ" (الجاثية: 30)، "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ" (البروج: 11)، ندعو الله عز وجل أن يجعلنا من الفائزين في جنات النعيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.