أوقفوا نزيف العقول
بقلم: د. زياد موسى عبد المعطي
العلماء في أي دولة هم أهم ثرواتها البشرية. وهم قاطرة التنمية التي تسحب الوطن نحو التقدم والازدهار. والعلماء والمبدعون في أي دولة هم عقولها التي تفكر وتبدع. فإذا صحت أحوال العلماء وساعدتهم علي الإبداع والابتكار. صحت أحوال الوطن. تماما مثل العقل والمخ من جسم الإنسان. ومن ثم إذا كانت أحوال العلماء سيئة وغير مهيئة للإبداع فإن الوطن سوف يعاني من أمراض عضال. ولن يتقدم. وبتعبير آخر فإن قاطرة التنمية لن تستطيع سحب بقية العربات نحو التنمية والتقدم بالسرعة المطلوبة.
وإني أري أن عقول وطننا تنزف. وهناك من وجهة نظري نوعان من النزيف: أحدهما نزيف خارجي والآخر نزيف داخلي. وكلاهما شديد الخطورة علي الوطن.
والنزيف الخارجي فهو نوعان. فأما أحدهما فهو بقاء المبعوثين المصريين في دولة البعثة التي أرسلوا إليها. حيث إن هناك إحصائيات تشير إلي أن 54% من المبعوثين المصريين إلي الخارج لا يعودون إلي أرض الوطن. والنوع الآخر هو هجرة علماء الوطن إلي الخارج - بعد الحصول علي الدكتوراة - إلي الدول المتقدمة. وعدم العودة إلي الوطن مرة أخري. ومنهم علي سبيل المثال الذين يحصلون علي الجرين كارد ويهاجرون إلي الولايات المتحدة حيث طالعتنا الصحف منذ أيام قليلة بأن ما يزيد علي 4 آلاف من المصريين قد حصلوا علي الجرين كارد. وأصبح من حقهم الهجرة الشرعية إلي الولايات المتحدة وأكيد منهم عدد لا بأس به من العلماء.
أما النزيف الداخلي للعقول فهو متعدد الأنواع. فهناك العقول الموظفة. والعقول المركونة. والعقول المؤقتة. والعقول العاطلة.
فأما العقول الموظفة فهي عقول أغلب علمائنا في الجامعات والمراكز البحثية. حيث إن أغلبهم يقوم بالأبحاث المطلوبة فقط للترقي إلي الدرجة الأعلي "من مدرس إلي أستاذ مساعد. ومن أستاذ مساعد إلي أستاذ في الجامعات. ومن باحث إلي باحث أول. ومن باحث أول إلي رئيس بحوث في المراكز البحثية". حيث يقدمون العدد المطلوب فقط من الأبحاث. وأغلبها أبحاث نمطية لا يوجد فيها إبداع ولا ابتكار. والشغل الشاغل لهم في الليل والنهار هو لقمة العيش حيث إن أغلبهم لهم مشاريع أخري لكسب أقواتهم. وتأمين مستقبل أولادهم. وهم أحسن حالا من غيرهم من العقول الأخري الأشد نزيفا في وطننا.
وأما العقول المركونة فأقصد بها الحاصلين علي الدكتوراة ويعملون في أماكن أخري غير الجامعات والمراكز البحثية. حيث إنهم مع مرور الزمن ينسون العلم. بل ويصدأ العقل المبدع. ويعلوه الصدأ. ويفقد القدرة علي الإبداع. مما يعد إهدارا لقدرات هذه الثروة البشرية.
أما العقول المؤقتة فهي عقول أبناء الوطن من المؤقتين في المراكز البحثية المصرية. حيث إنهم يتقاضون أجرهم باليومية. ويومية الواحد منهم تتراوح بين ثلاثة وخمسة جنيهات. وجملة ما يتقاضاه الواحد شهريا يتراوح ما بين 50 إلي 70 جنيها. وهذه الفئة من العلماء تعيش إحباطا شديدا. والمرارة لا تغادر حلقهم من أوضاعهم المادية السيئة. وهذه الفئة ألمس أحوالهم بشدة من خلال معارفي وأصدقائي من المؤقتين في مركز البحوث الزراعية ممن تحملوا هذه الظروف المادية القاسية من أجل حلم أن يلتحقوا بالكادر البحثي. ولكنهم للأسف وجدوا أنفسهم يجرون وراء سراب حيث إن الدرجات المعلن عنها تكون قليلة جدا ولأصحاب الواسطة من المحظوظين فقط. أما الباقون من المجتهدين والمطحونين فلهم الصبر والسلوان. ومعاناة الفقر والحرمان!!.
أما العقول العاطلة فهم أبناء هذا الوطن من الحاصلين علي الدكتوراة من العاطلين الذين لا يجدون عملا. فهؤلاء لهم الله. وهؤلاء كما أتصورهم في يأس وإحباط لا أستطيع أن أصفه. فمن يتعلم لمرحلة الدبلوم الفني التجاري أو الصناعي أو الزراعي ولا يعمل في مجال دراسته. يكون محبطا ويقول إنه لم يستفد من تعليمه. فما بالكم بمن حصل علي الدكتوراة ماذا يقول!! وما شعوره!!.
إن حلم علماء مصر في الداخل هو الإعارة للعقول الموظفة. والهجرة لبقية العقول المحبطة والتي لم يسعدهم الحظ بوظيفة كادر خاص في جامعة أو مركز بحثي. وإني أعلم عددا ليس بقليل منهم يحلم بالهجرة إذا لم تتحسن ظروفهم. وإذا لم يتم يحدث تحسين لأحوالهم فسوف نري قريبا منهم من يهاجر في مراكب الموت في هجرة غير شرعية عبر البحر المتوسط إلي دول أوروبا لعله يظفر بفرصة أفضل للمعيشة. فالغرق في البحر المتوسط قد يكون أرحم من ذل الفقر والإحباط للعقول المؤقتة والعاطلة!!.