المولد والنشأة
ولد الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب في عام 1901 في حي باب الشعرية بالقاهرة بجوار جامع الشعراني.
حفظ القرآن الكريم وهو في سن السابعة، حيث كانت البداية عندما كان يرتل القرآن بصوته العذب فشغف آذان الناس حتى ذاع صيته وتأثر بقرّاء القرآن الكريم من أمثال الشيخ "محمد رفعت"، والشيخ "علي محمود"، والشيخ "منصور بدران".
وشجعه شقيقه الشيخ "حسن" والذي كان له تأثير كبير على حياته فيما بعد، فقد كان بالنسبة له الوالد والأخ والصديق.
ولم تكن حياته الأولى سعيدة، بل كانت مليئة بالصراعات بين رغباته الدفينة في حبه للغناء والطرب، وما بين رغبات الأسرة الذي كانت تريد إلحاقه بالأزهر الشريف مثل أخيه الأكبر الشيخ حسن، ولكنه تمرد على رغبة الأسرة، وسار في طريق الغناء والموسيقى.
كان عبد الوهاب يغني للأطفال في الحارة، وفي ذات يوم استوقفه رجل بعد أن سمع صوته وأعجب به، وكان هذا الرجل هو "محمد يوسف" وهو من أشهر أعضاء الكورس في الفرق التي كانت تطوف البلاد والقرى والموالد.
وعرض عليه" محمد يوسف" أن يغني في السيرك ووافق "محمد عبد الوهاب" على الفور، واتفق معه على أن يصحبه إلى مدينة دمنهور، وذهب إلى قرية من قرى دمنهور وهو راكب على حمار، وغنى في تلك الليلة أغنية للشيخ "سلامة حجازي" والمعروفة في ذلك الوقت "عذبيني فمهجتي في يديك" وأعجب به الجمهور، وكانت المفاجأة أن الشيخ "سيد درويش" كان بين الحضور، وفي هذا الحفل تقاضى عبد الوهاب أول أجر في حياته وهو خمسة قروش.
وعلى خشبة المسرح الكلوب المصري بسيدنا الحسين قدم محمد يوسف عبدَ الوهاب إلى "فؤاد الجزايرلي" صاحب الفرقة، وغنى عبد الوهاب من كلمات الشيخ "يوسف القاضي" أغنية تقول:
أنا عندي منجة وصوتي كمنجة
أبيع وأدندن وآكل منجة
ونجح عبد الوهاب وظهرت له إعلانات في الشوارع وعلى الحوائط تقول: الطفل المعجزة أعجوبة الزمان الذي سيطربكم بين الفصول "محمد البغدادي"، وكان" محمد عبد الوهاب" يخشى أسرته؛ فاضطر إلى تغيير اسمه ووصل أجره 4 جنيهات.
ومن فرقة "الجزايرلي" انتقل "عبد الوهاب" إلى فرقه "عبد الرحمن رشدي" بمرتب قدره ستة جنيهات، وكان ذلك عام 1920.
ثم انضم عبد الوهاب إلى فرقة "علي الكسار" بمرتب شهري قدره عشرون جنيها، غير أن "عبد الرحمن رشدي" لم يلبث أن استرده إلى الفرقة، وزاد أجره خمسة جنيهات حتى أصبح راتبه 25 جنيها، وهو مرتب كبير لم يكن يتقاضاه كبار الممثلين في ذلك الوقت.
وكان عبد الوهاب يغني في فرقة عبد الرحمن رشدي بين الفصول، وفي يوم علم أن أمير الشعراء "أحمد شوقي بيك" جاء خصيصا لمشاهدة مسرحية "الشمس المشرقة"، والتي كانت تقدمها الفرقة، وأراد عبد الوهاب أن يلفت نظر شوقي بك إليه فشدا في تلك الليلة، ولكن كانت المفاجأة أن شوقي بك في اليوم التالي بعث بشكوى إلى "لان رسل باشا" حكمدار القاهرة يطلب فيها منع عبد الوهاب من الغناء بسبب صغر سنه.
وفي عام 1922 سافر عبد الوهاب في رحلة فنية إلى فلسطين وسوريا ولبنان مع فرقة نجيب الريحاني.
ولما عاد من رحلته قرر دخول معهد الموسيقى العربية، لكن الالتحاق بالمعهد يحتاج إلى مصروفات، إذن لا بد من البحث عن عمل لدفع المصروفات، ووجد عبد الوهاب عملا، فأصبح مدرسا للأناشيد بمدرسة الخازندار، وخلال العطلة الصيفية للمدرسة اشترك عبد الوهاب في حفلة غنائية كان معهد الموسيقى قد أقامها في كازينو "سان ستيفانو" بالإسكندرية، وتعتبر هذه الحفلة هي أول حفلة غنائية حقيقية يشترك فيها بعدما كان يغني على المسارح بين الفصول فقط.
تصميم حتى النهاية
وعندما انتهى وجد زميلا له يصعد إلى غرفته ويخبره بأن أحمد شوقي بك يريد مقابلته، وبعد تردد ذهب عبد الوهاب إلى شوقي بك، فاستقبله مرحبا، أهلا أهلا بالكروان، أنا عارف أنك متضايق، لكن تأكد أني لم أمنعك من الغناء إلا من أجل مصلحتك، وتوطدت العلاقة بين شوقي بك أمير الشعراء وعبد الوهاب، وتنمو بين الاثنين صداقة متينة، لا يكتفي معها أمير الشعراء بصياغة الأغاني للمطرب الناشئ فحسب، لكنه أيضا يتبناه ويصحبه في كل مكان، ويقدمه إلى كل أصدقائه، ويساعده في تنمية معارفه الموسيقية والأدبية.
أقام الشاعر الكبير أحمد شوقي حفلة في منزله "كرمة ابن هانئ" بمناسبة زفاف ابنه الأكبر "عليّ" وحضر الحفل الزعيم "سعد زغلول"، وكبار الأدباء والعلماء والساسة، وسمعوا عبد الوهاب وهو يغني، فوقفوا يتهامسون بأنه أمل الموسيقى الجديد.
وبعد أن أكمل عبد الوهاب تلحين رواية "كليوباترا" التي اقتبسها للمسرح "سليم نمله"، و"يونس القاضي" لفرقة "منيرة المهدية"، أصبح عملاق النغم الجديد "عبد الوهاب" امتدادا للعملاق الأول "سيد درويش".
وفي عام 32 كان عبد الوهاب قد نضج واشتهر في كل أرجاء المعمورة والأقطار العربية، وذات ليلة عرض عليه "توفيق المردلي" صديقه الاشتغال بالسينما، وذهبا معا إلى المخرج "محمد كريم" مخرج جميع أفلامه.
وكانت أغاني عبد الوهاب في تلك الفترة هي "كلنا نحب القمر"، و"يا جارة الوادي"، "على غصن البان"، و"خايف أقول اللي في قلبي"، و"اللي انكتب على الجبين"، وتم اللقاء الذي أثمر أول فيلم غنائي للمطرب الأول في مصر، وتم إخراج الفيلم في باريس؛ لأن مصر لم يكن فيها استديو للأفلام الناطقة، وكان أجر عبد الوهاب في فيلم "الوردة البيضاء" 450 جنيها وقصة الفيلم قد اشترك فيها كل من "سليمان بك نجيب"، و"محمد كريم"، و"توفيق البردنلس" وشارك أيضا عبد الوهاب بأفكاره، وقام الشاعر "أحمد رامي" بتأليف أغاني الفيلم من ضمنها أغنية يا "وردة الحب الصافي"، ونجح الفيلم نجاحا كبيرا، وتوالت بعد ذلك الأفلام، ومن أشهر أغاني عبد الوهاب في أفلامه:
"النيل نجاشي إجري إجري"، و "ما أحلاها عيشة الفلاح"، و"يا وبور قولي"، و"أوبريت مجنون ليلى"، "المية تروي العطشان"، و"مشغول بغيري"، و"حكيم عيون"، و"حنانك بي يا ربي"، و"انسى الدنيا"، وقصيدة "الخطايا"، و"يا قلبي مالك محتار"، كما غنى عبد الوهاب للملك فاروق، وأيضا بعض الأناشيد الدينية بصوته. وكان آخر أغانيه هي "من غير ليه".
الحياة والفن
تزوج عبد الوهاب من نهلة القدسي، وأنجب منها أربع بنات، وولدا.
ولحن لمعظم المطربين وبعض المطربين العرب أكثر من 700 لحن، كما لحن لأم كلثوم والذي وصف لقاءاته بها بلقاء السحاب في أغنية "انت عمري"، و"على باب مصر"، و"أنت الحب"، و"أمل حياتي". وكذلك لحن لـ"عبد الحليم"، و"كارم محمود"، و"نجاة"، و"فايزة أحمد"، وغيرهم من المطربين.
حصل عبد الوهاب على جوائز وشهادات تقدير، وكرمه الملك فاروق والرئيس عبد الناصر والرئيس السادات الذي أعطاه الدكتوراة الفخرية والرئيس مبارك، وكُرم من خارج مصر، فكرمه الرئيس بورقيبة، والملك حسين، والملك الحسن الثاني، والملك فيصل، كما حصل على دكتوراة فخرية من إحدى جامعات أمريكا.
وعلى ضوء هذا الاستعراض نقول: إن جهود عبد الوهاب كرائد للسينما الغنائية، وما قدمه من ألحان وموسيقى تصويرية وخواطر موسيقية بعد أن انتقل من التخت إلى الأوركسترا واتجاهه للمنهج العلمي بتقديم الموسيقى الموزعة توزيعا أوركتسراليا والإقدام على المزج بين الموسيقى العربية والموسيقى الغربية وبالأخص الموسيقى الراقصة سواء بالنقل أو التأثير أو الاقتباس فأحدث بذلك ثورة في الموسيقى العربية بصفة عامة وفي السينما الغنائية بصفة خاصة ـ كل هذا يجعله يستحق لقب "موسيقار الأجيال".
توفي عبد الوهاب عام 92 عن عمر جاوز التسعين عاما.
بعض الصور الخاصة بة:
ساحة النقاش