الدكتورة فاطمة سيد أحمد من الكاتبات المرموقات جدا، وأنا أتابع كتاباتها من حين لآخر في مجلة روزاليوسف الغراء، بكل تقدير وإعجاب لآرائها المتزنة العاقلة. إلا أن مقالها الأخير تحت عنوان "جيل أكتوبر لم يعرف التفاح والياميش" أغاظني جدا لدرجة أنه أخرجني عن صمتي الذي فرضته علىَّ الأحداث.

كنت قد بلغت لحال من الإحباط أغلقت قدراتي على الكلام. فقررت أن أقف فوق مرصدي في صمت أرقب خلاص الله لعالم يحترق، وسط بلبلة من الأفكار المتشابكة والأيديولوجيات التي تضيف إلى الكوارث العالمية والمحلية وقودا يشعل النار أكثر، فآثرت الصمت. ووسط هذا التزاحم في الآراء والأصوات المرتفعة التي يغلب عليها العبث والتعثر في فهم الحقيقة، وإزاء هذا الواقع المرير صمتت دون إرادة مني، إذ تاهت الكلمة من فكري ولم أجد لدىَّ حتى الدافع للبحث عنها. مقال الدكتورة فاطمة عن التفاح والياميش والنكسة والنكبة خبطني في رأسي على غرة فأيقظني ثم وجدت الكلام يتفجر منى.

لست أظن أن الدكتورة فاطمة كانت في سن يسمح لها بأن تتذكر أيام النكسة وإلا لما كانت سمحت لنفسها أن تقول ما قالته، وأعتقد أن ما قالته هو كلام منقول. أقول ذلك لأعطيها العذر فيما قالت. وبصفتي عايشت النكسة بل عايشت الحرب العالمية الثانية وأذكر كل تفاصيل المعاناة المصرية أثناء تلك الأيام المريرة التي مرت بها مصر أستطيع أن أراجعها فيما قالت. علما يا سيدتي أني لست أهوى المعارضة لمجرد المعارضة لكني أراجعك في الكلام لأنه محبط وضار جدا بمصرنا الغالية، في وقت اشد ما نحتاج إليه هو الحقيقة لفهم أنفسنا وتاريخنا القومي كما حدث تماما، وليس كما يكتبه لنا أعداء مصر وأصحاب المصالح ونتناقله اليوم بمنتهى السذاجة. ما أحوجنا إلى الحقيقة كمجتمع وصل اليوم إلى حد المحنة التي تفوقت على أكبر النكبات التي منيت بها مصر. وكلنا يشعر أننا على شفا جرف رهيب قد بأخذنا إلى هوة بلا قرار ونحن نضِّيع الوقت والجهد في أحاديث تتوهنا عن الحقيقة وتبعدنا عن واقع مخيف ومستقبل مجهول.

العجيب أن الكاتبة الفاضلة تتكلم عن التفاح والياميش في وقت فيه بلغت أزمة رغيف العيش إلى حد الكارثة والتي تحتاج لحل حاسم. عندما قامت الثورة في عام 1952 كان ثمن رغيف العيش تعريفة أو خمسة مليمات وعندما توفى عبد الناصر كان مازال ثمن رغيف العيش تعريفة أي خمسة مليمات بالرغم من كل ما تعرضت له مصر من ضغوط اقتصادية مريعة وحروب فُرِضت عليها. ورغم التغير الاجتماعي الشامل في زمن عبد الناصر ورفع المعاناة عن فقراء مصر بشكل ثوري غير مسبوق في تاريخ مصر. ولم يكن احتفاظ رغيف العيش بقيمته نتيجة لإجراءات شكلية مؤقتة بل كان نتيجة لسياسة داخلية تقوم على أساس تنموي صلِّب. فلم نري في يوم أي طوابير أو مشكلة على العيش. ولم يكن هذا هو حال رغيف العيش وحده بل على سبيل المثال احتفظت أجرة المواصلات بقيمتها فكانت تذكرة الأتوبيس والترام والمترو بقرش صاغ واحد للدرجة الثانية وقرشين للدرجة الأولى في الوقت الذي كانت فيه المواصلات على درجة عالية من الكفاءة كما كانت وسيلة رئيسية يعتمد عليها في التنقل لكافة القطاعات والطبقات مما يخفف الضغط المروري، الأمر الذي لا يوجد معه أي مجال للمقارنة بالمواصلات اليوم لا من ناحية الأداء أو الأسعار.. كان القرش صاغ يشتري 5 طعميات أو ثلاثة بيضات. يكفي أن نقول أن مصر أيام عبد الناصر كانت هي أرخص بلد على وجه الأرض حسب الإحصاءات الدولية. أذكر أن الأسعار في ليبيا وفي عز أيام النكسة كانت تزيد عن ثمانية أضعاف الأسعار في مصر. وليس أدل على الواقع الاقتصادي من قيمة العملات الأجنبية. ففي أسوء حالات أيام عبد الناصر وبعد كل مشاكل العملة الصعبة والحصار الاقتصادي والحروب...ألخ وصلت قيمة الدولار 70 قرش بينما بلغت قيمة الدولار بعد عبد الناصر لسبعة جنيهات. وإن كان قد انخفض سعر الدولار الآن قليلا لأنه مضروب عالميا بفضل السيد بوش، فيمكن مقارنة الجنيه باليورو لمعرفة الصورة العملية للاقتصاد المصري اليوم وأثره الفعلي الواقعي على الشعب بالمقارنة مع عصر عبد الناصر في عز النكسة!!!

أما عن التفاح فإن مصر أيام عبد الناصر كانت أغنى بلد بالفواكه النادرة والتي لا يماثلها أي بلد على الأرض. إن جيل أكتوبر لم يسمع عن الشمام الاسمعلاوي الذي كان أريج عطره النفاذ يبلغ لكل جوانب البيت الذي يدخله، والمانجو العويسي والفونس وأنواع أخرى كثيرة من المانجو والفاكهة التي اختفت من مصر بعد عبد الناصر لأسباب مجهولة لا يمكن إن تنتج إلا عن سياسة زراعية فاسدة منِّيت به مصر دون حسيب. وحتى الفواكه الموجودة للآن فقد قدت رائحتها ونكهتها وطعمها الذي لم يكن له مثيل في أي بلد من العالم مثل فراولة مصر الفاخرة والموز. أين البلح السماني الفاخر؟ وأين الرمان المنفلوطي الصغير الحجم وأين البطيخ الشلين والبطيخ الأصفر المعسل والبطيخ النمس؟ لقد كان هناك أكثر من 120 نوع من العنب تزرع في مصر. وكم هي أنواع الموالح المتعددة الفاخرة والنادرة الوجود، إلى جانب الفواكه الأخرى مثل الجوافة. كل ذلك كان متوفرا أيام عبد الناصر يباع بقروش زهيدة في مقدور أي فقير على شراءها كل يوم حتى في عز السنين العجاف!!! كم من البيوت اليوم تستطيع أن تأكل الفواكه وكم مرة في الشهر؟!!!!! وكم من البيوت في مصر اليوم تتعامل مع التفاح؟!!!!

هل المصريون كانوا بياكلوا نص بطن أو عاشوا اقتصاد حرب أثناء النكسة؟!!! هذا لم يحدث على الإطلاق ولا يمكن أن نقارن ما كان عليه الحال من رفاهية بحالنا المذري اليوم والذي بدأ بما يسمي بالانفتاح، أو حسب تعبير القذافي بالإنفضاح الذي بدأه الرئيس أنور السادات، حيث بدأت المعاناة الحقيقية بالتدريج لأكثر من 70 في المائة من الشعب المصري ولكثير من الفئات والتي طالت حتى الأطباء!!!! بدأت الناس تسكن المقابر وتزايدت الأزمة بل المحنة وما زالت في ازدياد حتى بلغنا لحال ليس له مثيل. ولا في أيام الحرب العالمية الثانية أيام الشظف والاستعمار البريطاني. في تلك الأيام منع الشعب من أكل البطاطس التي كانت كلها تخصص بالكامل لقوات الجيش البريطاني. واختفت الكثير من الخضراوات والفواكه مثل الموز. في تلك الحقبة كانت البطاقة التموينية فعلا لها أهميتها القصوى في كل بيت، فكان الخبز لا يباع في الأسواق لكن كان يخصص الدقيق بالبطاقة لكل بيت لخبز العيش في البيوت وكان بكميات محدودة وكان يختفي في كثير من الأحيان كما كانت الأقمشة بالبطاقة التموينية وكثير من المواد الحيوية التي كان يصعب الحصول عليها. ولعل هذه الصورة الصعبة من التقشف امتدت بشكل أخف أثناء حرب فلسطين عام 1948. أما عن فوضى أسعار المواد الغذائية والضرورية التي نعيشها اليوم في مصر فهي غير مسبوقة ولم نراها في مصر على الأقل في الفترة الزمنية من عمري.
أتذكر في أيام النكسة في عام 1969 صادفني حادث سعيد إذ رزقت بطفل وبهذه المناسبة أخذني صديق لسوق في إحدى قري الصعيد واشتريت من السوق 20 فرخة بلدي وديك رومي. ما أذكره أن ثمن الديك كان اثنين جنيه ونصف بينما كان ثمنه في القاهرة في ذلك الوقت خمسة جنيهات بحالهم!!! كانت الفراخ المستوردة الرخيصة تباع في الجمعيات الاستهلاكية بضوابط معينة، لكن كان الفقير قادر على شراءها وكان يقف في الطابور. وكانت الفراخ البلدي الممتازة التي اختفت من بلدنا اليوم تباع في الأسواق خاصة في القرى بلا ضابط وبأسعار معقولة حيث كان ثمنها بالقرش وليس بالجنيه وكانت الفراخ واللحمة لا تنقطع من بيت أي موظف عادي في عز أيام السنين العجاف. كم من موظفي الحكومة يستطيع اليوم بمرتبة أن يشتري الفراخ؟!!!!. الطبيب الذي يتقاضى 200 جنيه كمرتب شهري اليوم هل يستطيع أن يشتري فراخ وتفاح وياميش؟!!! 200 جنيه بالقياس لأيام عبد الناصر تعادل 2 جنيه على الأكثر والتي كانت مرتب العسكري المجند الذي كان يعيش ويقيم ويأكل على حساب القوات المسلحة!!! كيف يمكن لطبيب أن يعيش بمثل هذا المرتب اليوم؟!!!

لست أريد التطويل في موضوع الأكل والشرب فهو ليس الموضوع الرئيسي لكنه أحد الأعراض الخطيرة لأمراض بلدنا المستعصية.
ل
كن إيه حكاية النكسة مع كتاب مصر العظام؟ كل شعوب الأرض تعرضت لهزائم غاية في الضخامة أكثر من النكسة بما لا يمكن قياسه خاصة في القرن العشرين. لست أظن أن هناك شعب واحد يتعامل مع هزائمه كما يتعامل الإعلام المصري والمصريون مع النكسة لتجديد الشعور المأسوي بلا مناسبة، خصوصا بعد انتصار معجزي حقيقي حققت فيه مصر الكثير جدا ليس فقط لنفسها بل للعالم كله، مما كان ينبغي أن يُحوِّل تلك النكسة إلى مجد وفخار، لكن شعبنا المصري بطبيعته يحب ويجيد البكاء أكثر من الفرح، وما أكثر الندَّابات في بلدنا الذين بيسخنوا المشاعر من حين لآخر علشان الجنازة تسخن وتولع، لازم نصوت ونبكي على النكسة بعد 41 سنة وبعد نصر كان يلزم أن نفرح له ونفخر به أكثر من الكورة.

إن حقيقة النكسة مازالت مخفاة عن عيوننا عن تعمد مخيف. فحتى اليوم لا يوجد تسجيل تاريخي وثائقي علمي لحقيقة النكسة ولا لثورة 1952 ولا لانتصارات 1973. بينما يتناول هذا الموضوع الأفلام والمسرحيات والإعلام بشكل سطحي خيالي، مُسَيَّس ومتناقض جدا، مما يثير التساؤلات والجدل أكثر مما يعطي من معلومات سليمة مشبعة عن أهم المواضيع الحيوية لتاريخنا القومي. كل الكتابات المتاحة من كبار الكتاب المشهورين تحمل الكثير من التضليل المتعمد والتناقض المخل حتى فقد هذا الجيل الثقة بكل ما هو مصري، وكثير من شبابنا فقدوا الشعور بالانتماء الذي كان السمة المميزة لعصر عبد الناصر. إن الحديث عن النكسة والهزيمة دون وجود حقائق علمية يعطي الفرصة للعبث بقوميتنا بغير حدود كما أنها وسيلة مضللة ومدمرة لكي نتوه عن واقع اليوم الذي هو أمَّر من كل النكسات. إن واقع اليوم يحتاج لكل الوقت ولكل الجهد في التفكير العلمي البناء حتى يمكن لبلدنا أن تجتاز المحنة الخطرة والمنعطف الزلق الذي يقتادنا بخطي ثابتة نهو هاوية بلا قرار.

وحتى لا يتصور البعض إني أريد تمرير موضوع النكسة بسرعة حتى أحرم الناس من سعادة البكاء على الدمن والأطلال فسأقوم بمناقشة حقيقة النكسة المخفاة عن عيوننا عن عمد في حلقات قادمة من الحديث بإذن الله.

وقبل أن أختم حديثي لا يسعني إلا أن اشكر الدكتورة فاطمة التي استطاعت أن تخرجني من عزلتي لتعيد لي القدرة على النطق بعد أن ضاعت مني الكلمة في زحمة الأحداث. لقد وجدتها... بعد قراءة حديثها المثير والذي لزم الرد عليه في كلام مطول أكثر جدا مما قلت. فإلي لقاءات أخرى.

  • Currently 45/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
15 تصويتات / 225 مشاهدة
نشرت فى 15 يونيو 2010 بواسطة wwwalzra3acom

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

544,647