العمارة الطينية... عمارة الفقراء؟!
عودة للتراث... ومحاكاة للبيئة
إعداد: المهندس المعمار شهوان محمد -
المالكية العمارة بكل أشكالها هي احد الرموز الثقافية المادية التي تعكس تعاقب التاريخ بتطوراته وتغيراته التكنولوجية والبيئية. لذلك فالعمارة هي اكثر الوثائق التي يمكن اعتمادها في اعادة بناء تصورنا عن الماضي، فهي تعطينا مباشرة المعاني الاقتصادية والاجتماعية والسياسة السائدة في المكان والزمان. وقد بات التركيز على ابراز ملامح وهوية العمارات الوطنية والمحلية في بقاع العالم المختلفة من المظاهر التي تكتسب التأييد المتزايد، ويأتي ذلك كرد فعل عفوي على العمارة متعددة الجنسيات والطراز العالمي للعمارة وليد الحركة المعمارية الحديثة، وهو يمثل في الوقت نفسه منارة للاحتجاجات المتنامية بوجه الأنظمة التخطيطية والعمرانية الحديثة والانماط السكنية المستوردة التي تفتقر الى مفهوم واضح حول البيئة العمرانية والدلائل المرتبطة بها. لقد أغفلت هذه الافكار العمرانية والأنماط المعمارية أهمية الجوانب البيئية والاجتماعية وابتعدت عن التعبير المحلي والانساني.
يتجلى رد الفعل هذا اكثر ما يكون من خلال انتشار استخدام المفردات والرموز والأشكال الدلالية التي ترتبط بذاكرة الشعوب عن عماراتهم الوطنية والمحلية والطابع المعماري المألوف بالنسبة اليهم.
انطلاقاً مما تقدم يلقى موضوع العمارة الطينية وتطويرها اهتاماماً متزايداً.
من التاريخ
منذ عشرة آلاف سنة بنى الانسان مساكنه ومعابده وقصوره من التراب والطين، فسور الصين العظيم شيد بمعظمه من الطين والتراب الخام، وفي القرن السابع قبل الميلاد بني بهذه المادة برج بابل بارتفاع يصل الى (09 متراً) كأول ناطحة سحاب بناها الانسان وكذلك انتشر استعماله في حضارات بلاد الرافدين ومصر الفرعونية والحضارة الاسلامية والرومانية والهندية وحضارة الهنود الحمر والمكسيك.
ونلاحظ ذلك أيضاً في استمرار العمارة الطينية في اليمن والتي تميزت عماراتها بالارتفاعات الشاقولية لعدة طوابق، وفي انكلترا وألمانيا نلتقي بالكثير من المنازل الريفية والمحطات والمدارس ودور البلديات وجميعها مبنية من الطين.
ان ثلث سكان العالم يعيشون بمنازل من الطين. ولكن هذه المادة اليوم سقطت في الهاوية حيث ضاعت في أغلب مناطق اوروبا في السنوات الستين الماضية.
ان تنفيذ المباني الطينية يتم بطرق مختلفة منها «التشكيل المباشر» و«هذه الطريقة منتشرة في مناطق عدة مثل افريقيا واليمن وفرنسا .وهناك طريقة اخرى شائعة وهي «الطوب الطيني» وطريقة ثالثة وهي «التربة المطروقة بالقالب البيزة -PISE». تستخدم هذه الطريقة في الدانمارك والمغرب والبيرو، أما في سوريا فتستخدم في إقامة المزارع والبيوت فقط.
يقول المعمار جان دويتر: «إن الدافع الرئيسي لاقامة معرض المعمار الطيني لم يأت بسبب نزوة حنين عاطفي الى الماضي بل بسبب ما نعانيه من أزمة في الطاقة وارتفاع تكاليفها». وكذلك فإن الهدف من العمارة الطينية الاستفادة من العمارة التقليدية ومنع انتزاع الانسان من محيطه الطبيعي.
مزايا العمارة الطينية:
ان استعمال الطين في العمارة مرة أخرى يسمح بتحقيق الايجابيات التالية:
- ان الطين كمادة طبيعية ومتوافرة في معظم المناطق جعل السكان المحليين يعتمدون على استخدامها من خلال تقنيات بسيطة في تصنيعها ويعرفون تمام المعرفة الفوائد الفيزيائية لمساكنهم فهي ذات مناخ صحي معتدل باردة صيفاً ودافئة شتاء.
2 - ان ضرورة البحث عن مواد طبيعية تزيد يوماً بعد يوم في الوقت الذي نلاحظ فيه غلاء المواد الحديثة المصنعة كون هذه المواد رخيصة التكاليف كمواد بديلة في عملية البناء.
3 - ان مادة الطين من افضل المواد البيئية ولا تشكل اي تلوث للبيئة اثناء التصنيع او التنفيذ او التعديل أو في حالة هدم المبنى واعادة بنائه او حتى في حال هجره وتداعيه فهي آتية من الأرض وتعود إليها.
4 - اضافة الى ان الطين يخزن الحرارة والبرودة والرطوبة ويؤثر ذلك في تحسين المناخ، ويمكن باضافة مواد رابطة وبنسب مدروسة الوصول الى تحقيق المتانة والعزل اللازمين في البناء.
5- الطين يوفر الطاقة المستخدمة في التصنيع حيث يحتاج الطين الى 1% فقط من الطاقة اللازمة للبيتون وعند انتاج هذه الطاقة تحتاج للأوكسجين وتنتج مواد مضرة.
6 - لوحظ بالتجربة ان الجدران المصمتة الخارجية السميكة تحقق اكبر قدر من التأخير الزمني في الناقلية الحرارية وأن جدران الطين بسماكة 40 سم تؤخر الحرارة 15 ساعة. وبالمقابل نجد ان جدران البلوك الأسمنتي بسماكة 20 سم لا تؤخر الحرارة سوى خمس ساعات وست دقائق فقط.
7 - ان الطين المرصوص وبدون مواد ليفية او قشية له وزن نوعي 1800 كغ/م 3 وباضافة 40 كغ تبن لكل م 3 يصبح وزنه النوعي 1400 كغ /م 3 وباضافة 60 كغ تبن يصبح وزنه النوعي 1000 كغ /م 3 وباضافة 80 كغ تبن يصبح وزنه النوعي فقط 600 كغ/م3. وللمقارنة فإن الوزن النوعي للبيتون 33، 2500كغ/م3
8- لقد بلغت قدرة تحمل وحدة طينية تحتوي 24% غضاراً ناعماً و34% جزئيات ترابية و33% رملاً ومجففة بالهواء 35 كغ/ سم 2.
9- من خلال تجربة في ريف دمشق وبمقارنة المبنى الطيني بمبنى بيتوني تحققت نسبة وفر اقتصادية تصل 36% عما يحتاج اليه المبنى البيتوني.
10 - ان هذه المادة المتوافرة الرخيصة تستطيع ان تقدم انتاجاً مباشراً وسريعاً.
11- هذا النوع من العمارة يستطيع التحرر من قيود المركزية والبيروقراطية والاحتكار.
12- ان اعتماد عمارة الطين يعيد العلاقة الحميمة بين الانسان والعمارة المتمثلة في حجوم واشكال وفنون وتراث نابع من الانسان ومن مقياسه الانساني الذي يتناساه غالباً اصحاب ما يسمى بالطراز العالمي.
ومن أشهر المعماريين في هذا المجال (العمارة الطينية) المهندسان «آلان ماسون» و«جان هانس» والاثنان نفذا حوالى 2900 مسكن عام 1968 في المغرب.
ومن الأعمال الناجحة مركز التربية الزراعية في نيانيغ (nianig) في السنغال الذي نال العام 1980جائزة وهو من تصميم المهندس البلجيكي «اوسوالد دي ليكور» ونفذ بمساعدة مجموعة من المهندسين واليونسكو والمسؤولين في السنغال.
كما يعتبر المعمار المصري «حسن فتحي» احد المعماريين القلائل الذين أسسوا مدرستهم الخاصة المرتبطة بالأرض والثقافة ومن أعماله قرية «القرنة الجديدة» بناها من الطين فتجاوبت مع بيئة الصحراء الحارة وقد لقب بمعمار الفقراء وهو القائل: «عندما يبني الانسان بالمشاركة مع جيرانه تتم عملية تبادل المنطقة الرائعة جهداً وخبرة» ويؤكد: «لا شك أن رجلاً واحداً لا يستطيع ان يبني بيته ولكن يستطيع عشرة رجال لو تعاونوا بناء عشرة بيوت ومع الوقت ستكتمل القرية وتعيش. وهكذا بنيت قرية القرنة ثم قرية باريس بعدها».
وهكذا فإن الروح الجماعية تصل ذروتها في عمائر الطين حيث يشارك الجميع في اقامة صروحها وهم ينشدون معاً لحن الحياة، اذ تعلمت هذه الأيادي ان تشارك معاً لتبني السكن والمستوصف والمدرسة... والحب ناشرين في المادة منطقية النهوض الشامل في عمارة تجسد الروح والثقافة والأمل.
وجميع المحاولات الانسانية، ومنها المعمارية، عليها ألا تهمل التوازن «انسان - جماعة» والغنى المنشود سيتم مع عطاء كل الحضارات معاً فالبقاء على هذا الكوكب يحتاج الجماعية الانسانية كإحدى الوسائل الجبارة للانقاذ.
ونحن بحاجة الى الكثير من الجهد والعمل لاقناع افراد المجتمعات الفقيرة باعادة النظر في التراث لايجاد حلول للكثير من المشكلات التي يعانونها. ومن المهم ان تقوم القيادات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالاضافة الى الحكومات والمؤسسات والافراد الذين لديهم رغبة في المساعدة بتوفير التشجيع اللازم.
إننا اليوم بحاجة ماسة لعمارة حديثة تناسب عصرنا وواقعنا وحضارتنا وحداثتنا ومناخها.
ومن هنا كانت العودة لدراسة وتسجيل كل الطرز والتقنيات وأشهرها واهمها العمارة الطينية التي قامت عليها عمارتنا منذ فجر التاريخ والتي لا تزال أغلب تقنياتها مستعملة الى يومنا هذا رغم اقتصارها فقط على المناطق الفقيرة جداً. ويمكن القول ان العودة الى الطين وإحياء طابعه التاريخي وجعله العمارة السائدة في المناطق التي تلائمها أمر في غاية الأهمية

المصدر: هندسة نت
  • Currently 144/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
47 تصويتات / 692 مشاهدة
نشرت فى 1 يونيو 2010 بواسطة wwwalzra3acom

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

548,336