| إسرائيل.. دولة يملكها جيش |
|
رفض تنفيذ تعليمات الحكومة وفرض سياسات مستقلة لا يختلف اثنان على أن أحد أهم معالم الديمقراطية في أي نظام سياسي هو أن ينقاد الجيش والمؤسسة الأمنية في ذلك النظام للحكومات التي أفرزتها انتخابات، بحيث يكون الجيش هو منفذ السياسات التي ترسمها الحكومات. لكن عندما يتحول الجيش إلى مبلور السياسات ومنفذها في آن معا فلا يمكن وصف هذ النظام بـ"الديمقراطي". ونحن هنا بصدد اختبار "ديمقراطية" النظام السياسي في إسرائيل، وفق الاعتبار آنف الذكر. وفق كثير من الشواهد فإنه يمكن القول إن المؤسسة الأمنية في الدولة العبرية لا تقرر فقط السياسات وتنفذها، بل إنها ترفض في كثير من الأحيان تطبيق التعليمات المباشرة الصادرة عن الحكومة بشكل فج، ناهيك عن احتكار التأثير على دوائر صنع القرار السياسي في الدولة، فضلا عن رفضها أن يكون لأي إطار مدني تأثير على المستوى السياسي الحاكم. إلى جانب ذلك فإن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تلعب دورا واضحا وجليا في الشؤون الداخلية للأحزاب السياسية، بما يتناسب مع تطلعات قادتها المسقبلية. ونحن هنا بصدد التدليل على ما تقدم. رفض تنفيذ تعليمات الحكومة وفرض سياسات مستقلة وحذر نتنياهو خلفه باراك -كما كشف كاسبيت- من أن عليه أن يدفع الجيش للانسحاب من جنوب لبنان بالقوة. باراك، وعلى الرغم من معارضة قادة الجيش، نجح في سحب قواته، لأنه سبق له أن ضمَّن حملته الانتخابية وعدا للجمهور بالانسحاب من هناك. لكن قادة الجيش لم يقفوا مكتوفي الايدي إثر ما اعتبروه "تجاوزا لوجودهم"، فردوا لباراك الصاع صاعين، فعندما حاول باراك التفرغ لدفع المفاوضات على المسار السوري، قام الجنرلات بتسريب وثيقة لقادة المعارضة الليكودية في حينه، أطلق عليها وثيقة "تشاوبر"، تدعي أن باراك يعد لتقديم تنازلات "قاتلة لإسرائيل" في هضبة الجولان. ويتهم يوسي بيلين الذي شغل منصب وزير القضاء في حكومة باراك صراحة قادة الجيش بتسريب الوثيقة من أجل إحراج باراك سياسيا (2). لكن انتقام الجيش من باراك –الذي تجرأ على تجاوزهم– لم يعرف حدودا، فعشية توجهه لحضور مؤتمر "كامب ديفد"، الذي جمعه مع عرفات والرئيس كلينتون في أواخر العام 1999، للبحث عن حل لقضايا الحل الدائم مع السلطة رفض الجيش التعاون مجددا مع باراك، لدرجة أن هيئة أركان الجيش رفضت تزويد باراك بخرائط ليحملها معه إلى "كامب ديفد"، الأمر الذي دفع نائب وزير الدفاع الإسرائيلي في حينه أفرايم سنيه إلى أن يوجه رسالة تنطوي على مرارة كبيرة، حيث قال له بالحرف الواحد "العسكريون من رئيس هيئة الأركان وحتى أصغر ضابط لا ينفذون أوامرك وكل واحد منهم يفعل ما يحلو له" (3). وعلى الرغم من كل هذا، فقد جبن باراك عن مواجهة قادة الجيش، إذ إن الانتخابات كانت قد اقتربت وخشي أن يؤدي أي خلاف علني من قادة الجيش إلى خسارته الانتخابات. وفي عهد حكومة شارون الأولى، ظل قادة الجيش يرفضون تنفيذ تعمليات الحكومة، فقد تباهى رئيس الأركان موفاز بأنه أمر باعتقال أمين سر حركة "فتح" في الضفة الغربية مروان البرغوثي، على الرغم من معارضة الحكومة لذلك (4). وحسب إقرار وزراء في حكومة شارون فقد لعب الجيش دورا بارزا في إجهاض الهدنة مع الفصائل الفلسطينية التي تبلورت بوساطة مصرية أواخر يونيو/ حزيران 2003. ويقر وزير البنى التحتية الاسرائيلي يوسي بيريتسكي أن وزراء في الحكومة كانوا يعلمون أن الجيش هو المسؤول عن انهيار الهدنة التي منحت إسرائيل 45 يوما من الهدوء، وهو الذي أحبط حكومة أبو مازن، لكنهم خشوا الاعتراض على سياسة الجيش (5). اللافت للنظر أن إدراكا متزايدا لدى الساسة والنخب المثقفة في إسرائيل أن الكثير من الاعتبارات التي يقدمها الجيش تنطلق من ثقافة الكذب المستشرية في الأوساط القيادية للجيش والمخابرات، فها هو عكيفا الدار كبير معلقي صحيفة الصفوة "هارتس" يقول "إن قادة المخابرات عندنا يعرفون أنه ليس كل الفلسطينيين الذين تمت تصفيتهم دون محاكمة يستحقون لقب "قنبلة متكتكة". لقد اعتاد هؤلاء القادة على "تدوير الزوايا" والعيش مع الأكاذيب بسلام" (6). احتكار التأثير على دائرة صنع القرار السياسي وعلى الرغم من أنه لا يوجد قانون ملزم لها بذلك، فقد جرت العادة على أن تقوم الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بالتشاور مع هذين الجهازين تحديدا قبل اتخاذ أي قرار ذي طابع إستراتيجي، وفي كثير من الأحيان لا تتجرأ الحكومات على تجاهل توصيات "الشاباك" و"أمان". وحتى في اسرائيل نفسها هناك شعور بالذهول إزاء الدور الذي يعلبه هذان الجهازان في إملاء تقييماتهما على الحكومة، رغم أن هذه التقييمات في كثير من الأحيان ذات منطلقات أيديولوجية وليست مهنية، كما يؤكد عوزي بنزيمان، أحد كبار المعلقين في الدولة العبرية. ويقول بنزيمان "الإيديولوجيا هي العامل الحاسم في تحديد توصيات ومواقف الأجهزة الامنية وليس الاحتراف المهني" (7). ويعتبر بنزيمان أن الجنرلات "مجرد سياسيين في زي عسكري". اللافت للنظر أنه حتى قادة الاستخبارات المتقاعدون يقرون أن التوصيات التي يحاول العسكر تسويقها كوجهات نظر مهنية هي في الأغلب "تخمينات"، كما يؤكد الجنرال شلومو غازيت، الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية (8). أما إبراهام تيروش سكرتير الحكومة الإسرائيلية في عهد مناحيم بيغن، فيؤكد أن بيغن لو أنصت لقادة الجيش لما تم التوقيع على اتفاقية "كامب ديفد"، التي لا ينكر أحد مدى مساهمتها في تحسين الوضع الإستراتيجي لإسرائيل (9). ويرجع المعلق العسكري الجنرال زئيف شيف التاثير الواسع للاستخبارات على دائرة صنع القرار لضعف القيادة السياسية (10). التدخل في الشؤون الداخلية للأحزاب وبالفعل أصبحت تفوهات زئيفي هذه مادة دسمة يستخدمها نواب اليمين في تبرير مهاجمتهم لخطة شارون. ليس هذا فحسب، بل ثبت أن الجيش يتجسس على قادة المعارضة من أجل توفير مبررات لشارون لمهاجمتهم. وقد تجلى ذلك عندما زودت المخابرات قبل شهر شارون بمعلومات تؤكد أن رئيس المعارضة شمعون بيريز التقى سرا رئيس الوزراء الفلسطيني أحمد قريع، وقد استخدم شارون هذه المعلومة من أجل مهاجمة حزب العمل (11). الكاتبة ياعيل باز ملميد تفسر هذا السلوك بتطلع قادة الجيش لكسب رضا جمهور اليمين، عبر طرح مواقف متطرفة تلقى استحسانا لديه، وهذا يساعدهم في الفوز بمواطئ قدم في هذه الأحزاب بعد تسرحهم من الجيش. الترقيات و"الاصطفاء" وفق معايير "الشللية" عسكرة السياسة والمجتمع دعوات "لإنقاذ" إسرائيل من جيشها خلاصة |



ساحة النقاش