الكسندر فليمينغ: سيرة ذاتية في خدمة الإنسانية ::
الكاتب: مصطفى شكيب
"لقد اتُهمت بابتكار البنيسيلين، لا أحد كان باستطاعته اختراع البنيسيلين لأنها كانت منتجة موجودة منذ الأزل، من طرف الطبيعة ومن بعض العفونة..." هكذا تحدث الكسندر فلمينغ أمام جمع من الأكاديميين. برغم ذلك كانت البنيسيلين، حسب مجلة سويدية، وراء شفاء 200 مليون من الأشخاص المصابين بالأمراض المعدية عبر العالم خلال الخمسين سنة الأخيرة.
يتيم منذ الصغر -7 سنوات-
رأى الكسندر النور في أقصى اسكتلندا الجميلة بطبيعتها في 6 آب 1881. بالضبط في مزرعة قرب دارفيل في ايشير. كان السابع في أسرة من ثمانية إخوة، أبناء من زواجين للأب. كانت طفولة رائعة مع إخوته في قلب البريّة الاسكتلندية الهادئة؛ وسيقول عن ذلك: "لقد تعلمنا بطريقة لا واعية الكثير من الطبيعة" كان من الممكن أي يقضي الطفل ألِكس حياته في البريّة ويعيش حياة عادية كباقي سكان البلدة، لا شيء كان يهيّئ أو ينبئ عن قدر هذا القروي الصغير الذي أصبح ذا شأن كبير، لكن الحياة كانت تحتفظ بأصعب اختبار لطفل في عمره يضربه القدر ضربة كبرى، بينما كان باحث المستقبل لم يكد يبلغ السبع سنوات فقد الأب العزيز، ولحسن الحظ تبقى عائلة الفلمينغ متضامنة فيما بينها في شقائهم هذا، سواء كانوا إخوة أشقاء أو غير أشقاء.
بينما يتحمل الأخ الأكبر مسؤولية الضيعة العائلية، يتكفل أخ آخر أكبر"توم" -طبيب بلندن- بالصغير ألِكس منذ الرابعة عشرة من عمره، إلى جانب اثنين من الأخوة. يهتم الأخ بتربية أخيه وتعليمه والذي أوصله إلى المدرسة الشهيرة البوليتيكنيك- متعددة التقنيات- الشيء الذي أكسبه أسس تقنية ستكون مفيدة له طيلة حياته.
الرضى بأقدار الحياة
حرصاً على ألا يكون عبئاً على أخيه، قبل اليافع ألِكس العمل كمستخدم في الكتابات في شركة للإبحار، وبقي فيها حتى العشرين من العمر، مؤدياً شغله ولو أنه كان كارهاً له.
كان في لا وعيه راضياً بحياته اليومية كما قدّرها الله تعالى، وكأنه كان آملاً في القدر يخبئ له شيئاً آخر. أما عن الدكتور توم فلمينغ، واعياً بقدرات أخيه الذهنية، كان يتحمل على مضض أن يرى أخاه محبوساً في عمل غير متوافق مع قدراته الكبرى، لكن كانت عليه مسؤولية إخوة آخرين ولم يكن من الممكن تفضيله.
ويبتسم القدر لأسرة الفلمينغ للمفارقة بوفاة العم جون، فيهب هذا الأخير إلى ألِكس وإخوته مبلغاً محترماً من المال، ومدفوعاً من طرف الأخ الأكبر توم يقرر ألكسندر للتعويض عن ضياع بعض سنوات عمره تخصيص هذا الإرث العائلي لدراسات في الطب. وهكذا في أكتوبر 1901، في سن العشرين، يدخل ألكسندر فلمينغ كطالب إلى المدرسة الطبية لسانتا ماريا. طالب لامع متميز، وبهذا يحصل على منح دراسية والعديد من الجوائز. سنة 1906 ينال شهادة الدبلوم بامتياز، كان بإمكانه أن يصبح طبيباً جراحاً لكن كان عليه الوفاء لجماعته التي هذه المرة ليست الأسرة وإخوانه بل فريقاً رياضياً، نادي الريفل.
لقاء مع القدر
رغبة من الفريق في عدم الافتراق عن ألكسندر، يقترح عليه ولوج فرع الأبحاث بمستشفى سانتا ماريا. وقد أراد القدر أن يلتقي بول، الأخ الأكبر، بالأستاذ اللامع في الباثولوجيا- علم الأمراض- "رايت" الذي كان له تأثير كبير في مجال اختصاص علم المناعة آنذاك.
وتتحدد أكثر صورة الطريق التي هيأها القدر لألكسندر فلمينغ عندما تندلع الحرب العالمية الأولى. ويخدم مع أستاذه رايت في فرنسا في المستشفيات العسكرية؛ إنها طريقة لدراسة- في الميدان- الأضرار التي تتركها الجروح لدى المصابين الذين كان يداويهم فلمينغ. تحت تأثير هذه التجربة المؤلمة يواصل فليمينغ أبحاثه في علم البكتريا ويصبح بروفيسور سنة 1928. في هذه السنة بالذات، وفي 3 أيلول، حيث بلغ ألكسندر من العمر 47 سنة، يعود بعد عطلته إلى عمله السابق في مختبره بمستشفى سانتا ماريا، حيث كان يدرس خصائص بعض البكتيريات المكورة العنقودية. وكانت له سمعة طيبة كباحث متميز، لكن كان يعاب عليه بعض الإهمال؛ كان ينسى أو يتناسى زراعات البكتريا التي كان يشتغل عليها، وعرف عن مختبره أنه كان غير مرتب وفي حالة فوضى. في ذلك اليوم بالضبط، وقبل أن يرمي بصناديقه التي تنمو عليها تلك المجموعات المقطنة ذات اللون الأبيض المخضر، لاحظ فلمينغ أن مكوناتها:
"كان العالم النفسي الباهر "جاك لاكان" يقول أن الفعل غير الموفق هو خطاب ناجح."
وفيما يخص فلمينغ، نسيان زراعات البكتريا عادلت للإنسانية نجاحاً طبياً لا نظير له. يقوم بعزل مستخلص منها ويحدد فطرية من عائلة البينيسيليوم: لقد تم اكتشاف البينيسيلين!
التكامل التعاون ضروري
يحقق فلمينغ مباشرة أهمية القدرة البكترية للبينيسيلين، لكن كفاءاته محدودة فيما يخص عزل اكتشافه بشكل مستقر. سيحاول رغم ذلك خلال 13 سنة دون دعم التعريف بأهمية اكتشافه في أوساط الصناعات الدوائية، وأخيراً في سنة 1941، في خضم الحرب وبدعم من باحثين من أكسفورد، هوارد فلوري وبوريس تشين، يتوصل الفريق إلى بلورة -جعله بلورات- البينيسيلين عن طريق التبريد.
وهكذا يتحول الدعم إلى تكامل في الكفاءات لفائدة أكثر عدد من الناس. يطير فلوري إلى الولايات المتحدة لتحريك الأمور، حيث يقنع بعض الشركات الصيدلية بالتسريع في تصنيع البينيسيلين، وهذا ما ساعد على استفادة الكثير من المرضى وإنقاذ جرحى الحروب.
أصبحت مادة البينيسيلين الأولى من سلسلة المضادات الحيوية، فاتحة الباب لعلاج داء السل، والسيفيليس، ويقدر ارتفاع معدل الحياة بفضل المضادات الحيوية بعشر سنوات.
ألكسندر فلمينغ، أسطورة حية باقية
ابن الفلاح هذا الذي تركه أبوه مبكراً، منحت له الجوائز والتقدير اللازم برغم التواضع الذي كان يمتاز به دائماً. تم تشريفه من طرف الملك، ليصبح عضو الجمعية الملكية للندن سنة 1943، ونال وسام الفارس سنة 1944. أما عن جائزة نوبل في الطب، فقد تقاسمها مع معاونيه الاثنين، وهو شيء نادر جداً جداً.
أثّر فليمينغ كثيراً في اللاوعي الجماعي إلى حد ولادة أسطورة في حياته، وانتهت حياة فلمينغ سنة 1955عن عمر 73 سنة. كانت جنازته جنازة بطل وطني. ودفن بكاتدرائية سان بول بلندن
ساحة النقاش