يتذكر الكثير من المغاربة نوعا من ألذ أنواع السمك كان يتميز به المطبخ المغربي قبل أن يختفي من أنهار وسواحل المغرب. سمكْ أو حوت، بلغة أهل المغرب، يصفه من عايشوا فترة صيده بـ «الحوت الشريف» أي النبيل، أو «الحوت الفقير» نسبة إلى لغة أهل التصوف أي حوت الناسكين المتعبدين لسهولة صيده ووفرته ولذة مذاقه وغنى مكوناته.
بين النهر والبحر
خاصية هذا السمك، الذي يسميه المغاربة بـ «الشابل» أنه يولد في النهر ويعيش في البحر قبل أن يعود مرة أخرى إلى مكان ولادته في النهر لوضع بيضه، لذلك اشتهرت به أنهار المغرب التي كانت لها مصبات في البحر وخاصة نهري أبي رقراق قرب العاصمة الرباط ونهر أم الربيع في منطقة أزمور جنوب مدينة الدار البيضاء.
وعلى مصب هذين النهرين ازدهرت لعدة سنوات مصايد هذا النوع من السمك الذي مازال قدماء الصيادين والبحارة وسكان هذه المناطق يتذكرونه بحسرة كبيرة بعد أن اختفى من مياه النهرين بسبب السدود التي بنيت عليهما وحالت دون عودة هذه الأسماء إلى مواطن مبيضها عند منبع النهرين حيث كانت تضع بيضها قبل أن تعود ثانية إلى البحر، ما جعلها تغير مواطنها وتتوجه شمالا نحو البرتغال الذي مازال هذا النوع من السمك يوجد في مياه أنهاره وبحره بفضل التقنيات الحديثة التي أوجدت الحلول لرحلات العودة التي يقوم بها هذا السمك إلى موطن مبيضه عند منابع الأنهار ، وهي نفس التقنيات التي تعتمد أيضا في ألمانيا التي أعادت تربية هذا النوع من السمك في نهر الراين وأوجدت له «مصاعد» عند السدود التي تقع على هذا النهر لتسهيل رحلة عبوره ذهابا وإيابا من النهر إلى البحر والعكس.
تحت رعاية الأوقاف
وعودة إلى «شابل» المغرب الذي اختفى من مياه أنهاره وبحاره ومن أطباق مطبخه، فإن ما بقي منه هو مجرد ذكريات وقصص تروى اليوم مثل الأساطير التي يغذيها المخيال الشعبي، لكنها كانت حتى الماضي القريب حقيقة مازالت الوثائق وكتب التاريخ ترويها بدقة وتفصيل يتداخل فيها الاجتماعي بالثقافي والديني والسياسي. فهذا السمك هو الوحيد من نوعه الذي كانت مصايده التي تقع عند مصب الأنهار في البحر أو المحيط خاضعة لوزارة الأوقاف وليس لوزارة الصيد البحري، كما كان الشأن مثلا مع مصايد هذا النوع من السمك عند مصب وادي أبي رقراق الذي يفصل بين مدينتي الرباط وسلا.
وكانت رخصة صيد هذا النوع من السمك يسلمها ناظر أوقاف المدينة الذي كان ينظم أيضا سمسرة عمومية لمصايده ويشترط على من تقف عليه السمسرة أن يقوم بتوزيع صيده الأول على فقراء وعلماء المدينة وأشرافها.
ويعود هذا التقليد في المغرب إلى عهد السلطان إسماعيل العلوي (1645 – 1727م) الذي جعل مصايد هذا النوع من السمك وقفا إسلاميا من أحباس مدينة سلا (قرب الرباط)، وفي عام 1916 سيصدر ظهير (مرسوم يقوم بإصداره ملك المغرب بصفته سلطة عليا وممثلا أسمى للأمة) يٌقر تحبيس مصايد حوت الشابل بمصب وادي أبي رقراق، ويكلف نظارة الأوقاف بمدينتي الرباط وسلا بالسهر على تنظيم سمسرة كرائها بما يعود على أحباس المسلمين من منفعة.
ولعل هذا ما يفسر اليوم وجود مقامات بعض الأولياء الصالحين على مصب الأنهار الكبيرة في المغرب، خاصة نهري أبي رقراق وأم الربيع، فقد كانت تلك المقامات أماكن للتعبد والنساك اختاروها بالقرب من أماكن عبور أسراب هذا النوع من السمك في رحلات ذهابه وإيابه من النهر إلى البحر، مما يسهل عملية صيده برمي الشباك التي تعترض طريقه فتغرف منه الأطنان الكثيرة.
ويكفي فقط أن نعرف أن سمكة واحدة من هذا النوع قد تضع ما يناهز ستمائة ألف بيضة في السنة لنتصور حجم سرب واحد من هذه الأسماك وهي تعبر مصاب الأنهار في رحلاتها الموسمية التي تمتد لعدة شهور من السنة، أثناء فترات امتلاء الأنهار ما بين شهري نوفمبر / تشرين الثاني ومارس / آب من كل سنة.
الشابل ومقامات النساك
وحسب ما هو متوارث في الثقافة الشعبية المغربية، فقد تم الربط بين وجود مقامات النساك والأولياء وتواجد سمك «الشابل» بوفرة، لذلك كان الصيادون يطلقون عليه لقب «الحوت الفقير» أو «الحوت الشريف»، وكانوا يقومون بالتصدق من صيدهم على زوار تلك المواسم للتبرك والتيمن.
وهناك من يجد تفسيرا لوجود مقامات الأولياء قرب مصاب الأنهار التي تعبرها أسراب هذا النوع من السمك الغني، في قصة النبي موسى مع غلامه عندما كان في طريق بحثه عن الخضر، وهو ناسكا متعبدا أتاه الله من العلم ما لم يعطه لنبيه، وجعل لموسى من الْحُوت آية عندما يفقده عليه أن يتبع أثره حتى يلقى الخضر. لذلك لم يغضب النبي موسى عندما أخبره فتاه بأنهما فقدا غذائهما، أي الحوت الذي كانا يحملانه معهما، ولعله كان حوتا حيا يحتفظان به في إناء من الماء، وهو ما جعله يقفز ويعود إلى الماء فتبعه موسى حتى عثر على غايته أي الخضر، وذلك حسب ما يٌعلمنا القرآن في سورة «الكهف» عندما قال الفتى للنبي موسى: «أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ»، فرد عليه موسى: «ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي، فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا فَوَجَدَا خضرا فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا الَّذِي قَصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ».
وحسب الرواية القرآنية، فقد أوحى الله إلى نبيه موسى بأنه سيجد الولي الصالح الخضر عند مجمع البحرين: «وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً»، ولعل المقصود بالبحرين هنا هو ملتقى البحر والنهر، لأن كلمة البحر تفيد أيضا النهر الكبير كما ورد في القرآن في سورة «الفرقان»: «وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا»، ومعروف أن المقصود بالبحر العذب الفرات، في هذه الآية، هو النهر.
فمن طبيعة سمك «الشابل» أنه يعيش في المياه المالحة والعذبة، وهو مثل فصيلة سمك السلمون، يمتاز بذاكرة قوية يستطيع أن يتذكر مكان مبيضه الأول ويعود إليه آلاف الأميال، عابرا المحيطات والبحار والأنهار لوضع بيضه فيه، متحديا التيارات المعاكسة لجريان الأنهار التي يعبر فيها نحو 650 كيلو مترا قبل أن يصل إلى منابعها حسب طولها لوضع بيضه.
نعمة أم نقمة؟
وبالنسبة للمغرب فإن هذا النوع من السمك بقدر ما كان يٌعد نعمة وهبتها الطبيعة والموقع الجغرافي لسكانه، إلا أنها نعمة حملت في طياتها «نقمة» تمثلت في أطماع الغزاة الذين كان يستهويهم هذا النوع من السمك بسبب غنائه ولذته، كما حصل مع البرتغاليين الذين كانوا يشترون هذا النوع من السمك من ميناء أزمور الذي يقع على مصب نهر أم الربيع المغربي، قبل أن يقوموا بغزوه واحتلاله في بداية القرن السادس عشر الميلادي، ولإرساء هدنة بين المغرب والبرتغال آنذاك، تعهد المغاربة بدفع فدية لملك البرتغال عبارة عن عشرة آلاف سمكة من سمك الشابل كانت ترسل إليه سنويا. ولعله أيضا، وبسبب هذا السمك كان الوجود البرتغالي في منطقة أزمور هو الأطول في الثغور المغربية التي احتلوها، وقد مكثوا به نحو 267 سنة، ما بين (1502 إلى 1769م).
اليوم، لم يعد من كل هذا التاريخ بكل أفراحه وأتراحه سوى شذرات نقرأها في كتب التاريخ والرحالة، أو ذكريات تلوكها الألسن امتزجت فيها الحقيقة بالأسطورة والخيال الشعبي. فالشابل، الحوت النبيل اختفى، لكن ذكرياته مازالت تنعش ذاكرة جزء من المغاربة، أما اسمه فقد أطلق على نوع من السمك الذي يشبهه، لكنه أبعد ما يكون عن مذاقه وغناء مكوناته.
وسيبقى من مسؤولية الساهرين على قطاع الصيد البحري وسياسة الأنهار في المغرب وحماة البيئة، إعادة هذا النوع من السمك «المبارك» إلى أنهار المغرب كما حصل في ألمانيا وفرنسا وليس ذلك على تقنيات تربية الأسماك وإعادة توطينها في بيئتها ببعيد.. ما تنقص هي الإرادة فقط..