أبحر المستكشف البحري الإنجليزي هنري هودسون عام 1609، بسفينته ذات الثلاثة صواري إلى داخل ميناء أصبح يطلق عليه حاليا نيويورك، ومن المعتقد أن هذا المستكشف كان يشغل تفكيره تحديات كثيرة، مثل الصراعات مع السكان الأصليين بأمريكا والحالة الصحية لطاقم البحارة، والبحث الذي لم يكن قد تكلل بالنجاح بعد للعثور على طريق يؤدي إلى آسيا.
وربما كان هناك شيء لم يطرأ على ذهن هودسون وقتذاك وهو طبقات المحار التي تمتد لعدة أميال تحت المياه، ولكن بعد مرور أكثر من 400 عام على هذا الحدث لم يعد هناك الكثير من هذه المأكولات البحرية الرائعة، غير أن النشطاء الذين يبذلون جهودا لحماية البيئة يناضلون من أجل عودة المحار مرة أخرى إلى الوجود.
ومن الصعب اليوم تخيل أن مدينة نيويورك التي يبلغ عدد سكانها 8.5 ملايين نسمة كانت في الماضي عاصمة المحار في العالم، وعندما وصل هودسون إلى ذلك المكان كانت التجمعات الكثيفة للمحار منتشرة عبر أكثر من 890 كيلومترا مربعا.
وكتب مارك كيرلانسكي في كتابه "المحار الكبير: تاريخ حول نصف القوقعة"، والذي دونه حول هذا الطعام الشهي الذي يتواجد في المياه المالحة، يقول: "لا يحتاج أي فرد يعيش في المنطقة لأن يبحر بعيدا ليصل إلى المياه الضحلة وليلتقط المحار كما لو كان فاكهة ناضجة".
غير أنه مع بداية القرن العشرين كان سكان نيويورك قد التهموا جميع كميات المحار الموجودة، ومن ناحية أخرى اتسعت منطقة مانهاتن بشكل سريع، بينما حلت الأعمدة الفولاذية التي شيدت تحت سطح الماء والأرصفة البحرية محل الضفاف الصخرية المطلة على مياه المستنقعات المتعرضة لتيارات المد والجزر، وهي البيئة المثالية لتكاثر المحار.
ثم جاءت بعد ذلك أطنان من مياه الصرف الصحي والمواد الكيماوية، ولم يبدأ الوضع في التغير إلا بعد صدور قانون شامل عام 1972 حول الحفاظ على نظافة المياه، وثمة سؤال يتردد وهو هل يمكن استعادة تجمعات المحار بل أيضا أن تساعد هذه التجمعات على تحسين جودة المياه بفضل وظيفتها المهمة المتمثلة في تنقية الماء؟
هذا هو الهدف الذي يسعى لتحقيقه "مشروع المليار محارة"، ويقوم هذا المشروع على إعادة تدوير 3.6 طن من قواقع المحار كل أسبوع، يتم الحصول عليها من حوالي 80 مطعما بمدينة نيويورك وتحويلها إلى ما يشبه التربة المناسبة لتوالد يرقات المحار، في داخل ما يطلق عليه معامل الميناء حيث يتم تخصيب خلايا الأجنة أولا داخل أحواض المياه، ويتم بعد ذلك تزويد اليرقات الناتجة عن عملية التخصيب بمزارع من الطحالب، ثم توضع بعد أسبوعين أو ثلاثة داخل أحواض تحتوي على القواقع التي تم إعادة تدويرها والمأخوذة من المطاعم.
وعملية الالتحام هذه يكتب لها النجاح حيث تتحول ما نسبته من 10% إلى 40% من اليرقات إلى محار، وتواصل الذريعة نموها داخل أقفاص عائمة ثم يتم نقلها في النهاية إلى داخل شعب مرجانية وشبكات جديدة يتم بناؤها في الميناء، ومع ذلك فإن كميات المحار التي يتم استيلادها بهذه الطريقة غير صالحة للأكل، والسبب في ذلك أن المياه في الميناء أصبحت عالية التلوث.
ومنذ بدء المشروع منذ 5 أعوام قام تلاميذ المدارس ومجموعات من المتطوعين باستزراع 28 مليون ذريعة محار، كما أدرجت المدارس العامة في نيويورك في مناهجها هذا المشروع غير الهادف للربح.
وعلى الرغم من أن هذا المشروع يبدو أنه إنجاز كبير بالفعل، يرى مديره بيت مالينوفيسكي أنه مجرد بداية على الطريق، حيث يتمثل الهدف في إنتاج مليار محارة مما يعني أنه تم حتى الآن استزراع ما نسبته 2.8% فقط من الرقم المستهدف، ويقول مالينوفسكي إن استزراع مليار محارة يمكن أن ينقي المياه الراكدة في الميناء مرة كل 3 أيام، مع عدم حساب كمية المياه الداخلة من المحيط الأطلسي أو المتدفقة إليه.
ويهتم منظمو المشروع بتحقيق أهداف أكثر من ذلك، حيث يريدون أيضا تشكيل رابطة أقوى بين السكان والميناء الذي يعيشون بجواره، وفي هذا الصدد يوضح مالينوفيسكي قائلا: "يعيش معظم سكان نيويورك على مسافة قريبة للغاية من المياه، وتنتهي معظم الشوارع عند المياه، ومع ذلك لا يميز سكان نيويورك أنفسهم على أنهم سكان مدينة ساحلية أو نظام طبيعي مهم".
وشارك في مشروع استزراع المحار حتى الآن أكثر من 6 آلاف تلميذ و9 آلاف متطوع بشكل مباشر أو غير مباشر، ومن بينهم جائلين ماكجريف البالغ من العمر 17 عاما والذي يعتني باليرقات في معمل الميناء.
وحتى على الرغم من أن المحار في ميناء نيويورك غير صالح للأكل، يقول ماكجريف أنه جرب تناول هذا الطعام البحري في أحد المطاعم، غير أنه يفضل الجانب البيولوجي في العملية برمتها، حيث يقول "إنني أحببت مذاق المحار المستزرع، ولكن كان له طعم لزج بعد انتهاء الأكل، وهذا ليس نوع الطعام الذي أفضله".