قوله : ( عن أبي هريرة ) هذا أول حديث وقع ذكره فيه . ومجموع ما أخرجه له البخاري من المتون المستقلة أربعمائة حديث وستة وأربعون حديثا على التحرير . وقد اختلف في اسمه اختلافا كثيرا قال ابن عبد البر : لم يختلف في اسم في الجاهلية والإسلام مثل ما اختلف في اسمه , اختلف فيه على عشرين قولا . قلت : وسرد ابن الجوزي في التلقيح منها ثمانية عشر , وقال النووي : تبلغ أكثر من ثلاثين قولا . قلت : وقد جمعتها في ترجمته في تهذيب التهذيب فلم تبلغ ذلك ; ولكن كلام الشيخ محمول على الاختلاف في اسمه وفي اسم أبيه معا .
قوله : ( بضع ) بكسر أوله , وحكي الفتح لغة , وهو عدد مبهم مقيد بما بين الثلاث إلى التسع كما جزم به القزاز . وقال ابن سيده : إلى العشر . وقيل : من واحد إلى تسعة . وقيل : من اثنين إلى عشرة . وقيل من أربعة إلى تسعة . وعن الخليل : البضع السبع . ويرجح ما قاله القزاز ما اتفق عليه المفسرون في قوله تعالى ( فلبث في السجن بضع سنين ) . وما رواه الترمذي بسند صحيح أن قريشا قالوا ذلك لأبي بكر , وكذا رواه الطبري مرفوعا , ونقل الصغاني في العباب أنه خاص بما دون العشرة وبما دون العشرين , فإذا جاوز العشرين امتنع . قال : وأجازه أبو زيد فقال : يقال بضعة وعشرون رجلا وبضع وعشرون امرأة . وقال الفراء : وهو خاص بالعشرات إلى التسعين , ولا يقال : بضع ومائة ولا بضع وألف . ووقع في بعض الروايات بضعة بتاء التأنيث ويحتاج إلى تأويل .
قوله : ( وستون ) لم تختلف الطرق عن أبي عامر شيخ شيخ المؤلف في ذلك , وتابعه يحيى الحماني - بكسر المهملة وتشديد الميم - عن سليمان بن بلال , وأخرجه أبو عوانة من طريق بشر بن عمرو عن سليمان بن بلال فقال : بضع وستون أو بضع وسبعون , وكذا وقع التردد في رواية مسلم من طريق سهيل بن أبي صالح عن عبد الله بن دينار , ورواه أصحاب السنن الثلاثة من طريقه فقالوا : بضع وسبعون من غير شك , ولأبي عوانة في صحيحه من طريق ست وسبعون أو سبع وسبعون , ورجح البيهقي رواية البخاري ; لأن سليمان لم يشك , وفيه نظر لما ذكرنا من رواية بشر بن عمرو عنه فتردد أيضا لكن يرجح بأنه المتيقن وما عداه مشكوك فيه . وأما رواية الترمذي بلفظ أربع وستون فمعلولة , وعلى صحتها لا تخالف رواية البخاري , وترجيح رواية بضع وسبعون لكونها زيادة ثقة - كما ذكره الحليمي ثم عياض - لا يستقيم , إذ الذي زادها لم يستمر على الجزم بها , لا سيما مع اتحاد المخرج . وبهذا يتبين شفوف نظر البخاري . وقد رجح ابن الصلاح الأقل لكونه المتيقن .
قوله : ( شعبة ) بالضم أي قطعة , والمراد الخصلة أو الجزء .
قوله : ( والحياء ) هو بالمد , وهو في اللغة تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به , وقد يطلق على مجرد ترك الشيء بسبب , والترك إنما هو من لوازمه . وفي الشرع : خلق يبعث على اجتناب القبيح , ويمنع من التقصير في حق ذي الحق ولهذا جاء في الحديث الآخر " الحياء خير كله " . فإن قيل : الحياء من الغرائز فكيف جعل شعبة من الإيمان ؟ أجيب بأنه قد يكون غريزة وقد يكون تخلقا , ولكن استعماله على وفق الشرع يحتاج إلى اكتساب وعلم ونية , فهو من الإيمان لهذا , ولكونه باعثا على فعل الطاعة وحاجزا عن فعل المعصية ولا يقال : رب حياء عن قول الحق أو فعل الخير ; لأن ذاك ليس شرعيا , فإن قيل : لم أفرده بالذكر هنا ؟ أجيب بأنه كالداعي إلى باقي الشعب , إذ الحي يخاف فضيحة الدنيا والآخرة فيأتمر وينزجر , والله الموفق . وسيأتي مزيد في الكلام عن الحياء في " باب الحياء من الإيمان " بعد أحد عشر بابا . ( فائدة ) قال القاضي عياض : تكلف جماعة حصر هذه الشعب بطريق الاجتهاد , وفي الحكم بكون ذلك هو المراد صعوبة , ولا يقدح عدم معرفة حصر ذلك على التفصيل في الإيمان . ا ه . ولم يتفق من عد الشعب على نمط واحد , وأقربها إلى الصواب طريقة ابن حبان , لكن لم نقف على بيانها من كلامه , وقد لخصت مما أوردوه ما أذكره , وهو أن هذه الشعب تتفرع عن أعمال القلب , وأعمال اللسان , وأعمال البدن . فأعمال القلب فيه المعتقدات والنيات , وتشتمل على أربع وعشرين خصلة : الإيمان بالله , ويدخل فيه الإيمان بذاته وصفاته وتوحيده بأنه ليس كمثله شيء , واعتقاد حدوث ما دونه . والإيمان بملائكته , وكتبه , ورسله , والقدر خيره وشره . والإيمان باليوم الآخر , ويدخل فيه المسألة في القبر , والبعث , والنشور , والحساب , والميزان , والصراط , والجنة والنار . ومحبة الله . والحب والبغض فيه ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم , واعتقاد تعظيمه , ويدخل فيه الصلاة عليه , واتباع سنته . والإخلاص , ويدخل فيه ترك الرياء والنفاق . والتوبة . والخوف . والرجاء . والشكر . والوفاء . والصبر . والرضا بالقضاء والتوكل . والرحمة . والتواضع . ويدخل فيه توقير الكبير ورحمة الصغير . وترك الكبر والعجب . وترك الحسد . وترك الحقد . وترك الغضب . وأعمال اللسان , وتشتمل على سبع خصال : التلفظ بالتوحيد . وتلاوة القرآن . وتعلم العلم . وتعليمه . والدعاء . والذكر , ويدخل فيه الاستغفار , واجتناب اللغو . وأعمال البدن , وتشتمل على ثمان وثلاثين خصلة , منها ما يختص بالأعيان وهي خمس عشرة خصلة : التطهير حسا وحكما , ويدخل فيه اجتناب النجاسات . وستر العورة . والصلاة فرضا ونفلا . والزكاة كذلك . وفك الرقاب . والجود , ويدخل فيه إطعام الطعام وإكرام الضيف . والصيام فرضا ونفلا . والحج , والعمرة كذلك . والطواف . والاعتكاف . والتماس ليلة القدر . والفرار بالدين , ويدخل فيه الهجرة من دار الشرك . والوفاء بالنذر , والتحري في الإيمان , وأداء الكفارات . ومنها ما يتعلق بالاتباع , وهي ست خصال : التعفف بالنكاح , والقيام بحقوق العيال ; وبر الوالدين , وفيه اجتناب العقوق . وتربية الأولاد وصلة الرحم . وطاعة السادة أو الرفق بالعبيد . ومنها ما يتعلق بالعامة , وهي سبع عشرة خصلة : القيام بالإمرة مع العدل . ومتابعة الجماعة . وطاعة أولي الأمر . والإصلاح بين الناس , ويدخل فيه قتال الخوارج والبغاة . والمعاونة على البر , ويدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود . والجهاد , ومنه المرابطة . وأداء الأمانة , ومنه أداء الخمس . والقرض مع وفائه . وإكرام الجار . وحسن المعاملة , وفيه جمع المال من حله . وإنفاق المال في حقه , ومنه ترك التبذير والإسراف . ورد السلام . وتشميت العاطس . وكف الأذى عن الناس . واجتناب اللهو وإماطة الأذى عن الطريق . فهذه تسع وستون خصلة , ويمكن عدها تسعا وسبعين خصلة باعتبار إفراد ما ضم بعضه إلى بعض مما ذكر . والله أعلم . ( فائدة ) : في رواية مسلم من الزيادة " أعلاها لا إله إلا الله , وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " وفي هذا إشارة إلى أن مراتبها متفاوتة . ( تنبيه ) : في الإسناد المذكور رواية الأقران , وهي : عبد الله بن دينار عن أبي صالح ; لأنهما تابعيان , فإن وجدت رواية أبي صالح عنه صار من المدبج . ورجاله من سليمان إلى منتهاه من أهل المدينة وقد دخلها الباقون .
|
ساحة النقاش