العصر المطير
قسمت الأبحاث الجيولوجية الحديثة تاريخ الصحراء الغربية المصرية فى العصور المطيرة الى عصرين ، العصر المطير الاول ( البليوسينى ) والثانى ( البلايستوسينى ) والاخير هو الاخطر بشريا وحضاريا فى مصر ، اذ انه شهد ظهور الانسان لاول مرة فى مصر ، ويتحدد زمن العصر المطير الثانى بنحو 120 الف سنة ، وقد كانت نهايته منذ حوالى عشرة آلاف سنة مضت حين بدأ عصر الجفاف والتصحر فى غرب مصر
وقد رصدت الابحاث الجيولوجية _ اثناء العصر المطير الثانى – مجموعة من البحيرات فى صحراء مصر الغربية والتى كان اهمها بحيرة بير طرفاوى التى قدرت مساحتها بخمسين الف كم2 ، ومن المعروف ان منطقة بير طرفاوى تقع جنوب الواحات الداخلة فى المسافة بينها وبين منطقة جبل العوينات ، كما تشير الابحاث الى بدء جفاف هذه البحيرة منذ حوالى عشرة آلاف سنة اى مع بداية عصر الجفاف .
وخلال العصر المطير الثانى الذى شهد التواجد الاول للانسان فى مصر، فقد عثر على ادوات حجرية فى مناطق عديدة من الصحراء الغربية المصرية ، مما يؤكد التواجد البشرى فى تجمعات واضحة على ضفاف البحيرات الكبرى القديمة فى مناطق الواحات الداخلة والخارجة وبير طرفاوى حتى منطقة جبل العوينات فى اقصى الجنوب الغربى من حدود مصر ، وتدل الادوات الحجرية التى عثر عليها مدى قدم انسان العصر الحجرى القديم فى مصر خاصة فى جنوب غرب الصحراء والتى يقدر عمرها بحوالى من 200- 180 الف سنة وفى قرية بلاط بالواحات الداخلة عثر حديثا على بئر قديمة وحولها بقايا آلات حجرية ترحع الى حوالى 150 الف سنة مضت، ايضا عثر فى بير طرفاوى جنوب الواحات الداخلة على صناعة موستيرية تعود الى 80 الف سنة
ويفسر الدكتور جمال حمدان هذين الكشفين ( باحتمال تزامن وجود انسان بير طرفاوى مع انسان بلاط ، ومن المحتمل ان يكونا قد جاءا الى الصحراء الغربية منذ 75 الف سنة ولعلهما من اصل واحد وانهما على اية حال اقدم انسان وطىء ارض مصر )" 1"
ولعل من الشواهد المادية الباقية الى الآن من ذلك العصر الحجرى فى صحراء مصر الغربية ، تلك الادوات المصنوعة من الظران وهياكل الفقاريات المتيبسة وادوات الصيد البدائية التى يضمها المتحف الجيولوجى فى مقر مشروع فوسفات ابو طرطور بالوادى الجديد والتى عثر عليها اثناء اعمال الحفر فى انفاق استخراج الفوسفات فى الهضبة الواقعة على طريق الواحات الخارجة / الداخلة
من جهة اخرى ، تلك الرسوم الغائرة ( بعمق 3 بوصة ) على الكتل الجرانيتة الضخمة فى جبل العوينات عند هضبة الجلف الكبير جنوب غرب مصر ، وهى التى يحج اليها سائحو السفارى فى رحلات وعرة وقاسية بعد اجتياز معمور الواحات الداخلة والاتجاه الى الجنوب الغربى حيث منطقة بير طرفاوى محل ميلاد الانسان الاول على ارض مصر .
عصر الجفاف
منذ حوالى سبعة آلاف سنة قبل الميلاد بدأ – تدريجيا – عصر الجفاف فى القطاع الغربى من مصر الى ان سادت الظروف الصحراوية كل ارجاء هذا القطاع ، وهنا تحتم على الانسان والحيوان ، او لنقل غالبيتهم ، الهجرة مطاردون بالجفاف ، للتجمع حول الاودية النهرية التى تحسنت ظروفها من خلال صرف المستنقعات وقد احتشدت حول هذه الاودية مظاهر الحياة البشرية والحضارية الجديدة ( فى وادى النيل الحالى )
ومع الجفاف التدريجى فقد بقيت البحيرت الشاسعة وسط الصحراء الغربية لعدة مئات من السنين قبل ان تجف ، وقد ساعد على سرعة الجفاف عاملان ، الاول هو نسبة البخر التى ارتفعت مع زيادة معدل سطوع الشمس المتزامنة مع عصر الجفاف ، والثانى – وهو الاهم لدينا – هو عامل التسرب الجوفى لمياه هذه البحيرات الى باطن الارض ، ولعلنا نستطيع الادعاء بان حجم المخزون الجوفى من هذه المياه التى تسربت الى باطن ارض الصحراء الغربية كانت – بصورة مؤكدة – هى السبب الاول والاخير ولا شيىء غيره فى بقاء واستمرار الحياة فى الواحات المصرية الحالية التى تزين بقاع الصحراء الغربية رغم قسوة الطبيعة وشدة الجفاف .
الواحات .. قصة النشوء
تتوقف ابحاث علماء الجيولوجيا عن تتبع حالة الصحراء الغربية فيما بعد العصر المطير ، فانقطعت الدراسات عن الصحراء وهاجرت مع من هاجر الى صعيد وادى النيل شرقا
وكما ذكرنا فان حلول عصر الجفاف ونهاية العصر المطير قد جاء تدريجيا ، حيث بدء منذ قرابة سبعة آلاف سنة قبل الميلاد ، وحيث ان اول علامات التأريخ للعصور الفرعونية الاولى فى الواحات قد جاءت ثلاثة آلاف سنة ق.م تقريبا ، بذلك تكون هناك حوالى اربعة آلاف سنة من تاريخ هذه الصحراء يشوبها الغموض ، والغياب عن التاريخ المدون
وانطلاقا من التاريخ الموثق للعصر المطير الذى ساد هذه الارض قبل تصحرها ، وبحثا عن رؤية استنباطية ( منطقية ) لتفسير الغموض التاريخى الذى يعترى الاربعة آلاف سنة التى سبقت التاريخ الفرعونى الموثق للواحات ، مع الأخذ فى الاعتبار ان التاريخ الموثق – فى الغالب والاعم – هو تاريخ الحكام والامراء والقادة وليس تاريخ البشر بصفة عامة ... حيث عادة ما يكون التوثيق ماديا فى صورة معابد ومقابر ورسوم ونقوش جدارية تحكى تاريخ الصفوة ... اذن ماذا عن تاريخ البشر ممن عاشوا على ضفاف بحيرة بير طرفاوى قبل وبعد جفافها ؟؟
ماذا قبل؟
ولمحاولة البحث عن اجابة لهذا التساؤل، فأنه يجب علينا العودة الى عصر الجفاف ، وكما ذكرنا عن حال الصحراء الغربية مع الانتهاء التدريجى للعصر المطير والحلول – البطيىء ايضا- لعصر الجفاف ، كما يقول الدكتور جمال حمدان ( كانت مرصعة ببحيرات عديدة ، بعضها من مقياس عظيم يقارن ببحيرة فيكتوريا او تشاد حاليا ، ومن اهم هذه البحيرات التى امكن تحديدها بحيرة ( بير طرفاوى ) الواقعة جنوب الواحات الداخلة وحتى هضبة العوينات فى الجلف الكبير اقصى الخط الجنوبى الغربى للحدود المصرية ، وهى البحيرة التى يقدر ان مساحتها بلغت 50 الف كم2 ، اما زمنيا فالمقدر ان هذه البحيرة ظهرت منذ 40 الف سنة ، وعاشت 15 الف سنة، ثم جفت مرتين ، الاولى منذ 35 الف سنة ، واستمر ذلك الجفاف لمدة 12 الف سنة ، ثم عادت الى الوجود بعد انتهاء عصر الجفاف ، وظلت موجودة حتة عشرة آلاف سنة مضت ) حوالى سبعة آلاف سنة قبل الميلاد ، اى قبل العصور الفرعونية بقليل ...
وحول هذه المرحلة( مرحلة التحول ) يذكر جيمس هنرى بريستد فى كتابه فجر الضمير "
اما ثانى مراحل العصر المطير الذى كان يسير جنبا الى جنب مع تقدم حياة الانسان ونعنى به عصر نضوب الماء ، ذلك النضوب الذى كان ينتشر تدريجيا ، فالصحارى المعروفة لنا تمام المعرفة فى هذه الاقطار لم تكن قد ظهرت بعد، اذ كان كل شمال افريقية اقليما ذا امطار غزيرة ونباتات وفيرة مكونا ميدان صيد نموذجى ، وقدعثرت على ثلاثة قوارب نيلية لصيادى الهضبة محفورة على الصخور
من ناحية اخرى فقد كشف الدكتور سند فورد مدير مساحة المعهد الشرقى عن اسلحة الظران التى كان يستعملها هؤلاء الصيادون مبعثرة فى اقاصى الصحراء الغربية حول قطاع الواحات الداخلة وعلى مسافة الف ميل او اكثر من غرب النيل ، ولا تزال هذه الالات والاسلحة الحجرية الملقاة حيث فقدها اصحابها من آلاف السنين شاهدا صامتا على المجال الفسيح الذى كان يرتع فيه الصيادون – والاماكن التى توجد فيها تلك الأدلة الصامتة عن حياة الانسان الغابر ، هى الآن مناطق منعزلة قاحلة (يقصد منطقة الواحات)
من المنطقى القول بان القادة والامراء فى العصور التاريخية القديمة لم يصلوا الى مناطق خالية من البشر بصفة عامة ، و من اولئك الذين يجيدون حرف البناء والتشييد والنقوش والزخارف بصفة خاصة ، وبالتالى فان التواجد البشرى والحضارى والثقافى فى مناطق الواحات المختلفة هو – بالضرورة – سابق بزمن بعيد ( نسبيا ) على قدوم هؤلاء الفراعين ، بل يمكن الافتراض ان الباقين من البشر فى هذه المناطق منذ بدء عصر الجفاف وحتى قدوم الفراعنة هم الذين شكلوا القاعدة البشرية الأم فى التكوين والأصول السكانية للواحات المصرية .
وعلى ذلك - وفيه ايضا - تكمن الاجابة على السؤال الذى يروق للبعض طرحه ، وهو : من اين قدم هؤلاء البشر الذين يعيشون فى هذه المناطق الصحراوية النائية ( الواحات ) ؟؟
فالبعض يتكهن بان قاطنى الواحات ماهم الا بعض المهاجرين من منطقة المغرب العربى ، بينما يقول آخرون بانهم قادمون مع الفتح العربى الاسلامى لمصر ورأى ثالث يتجه الى قدوم السكان من الجنوب عن طريق درب الاربعين
ويدلى الدكتور جمال حمدان بدلوه فى هذا الامر ويقول عن الجانب الانثروبولوجى لسكان الصحراء الغربية ، فيقول :
تنقسم الصحراء الغربية الى منطقتين : الوحات فى الجنوب والساحل فى الشمال ، والفارق الأنثروبولوجى بينهما طريف ، فالأولى خلت تقليديا من اى تأثير متوسطى آسيوى المصدر ، اى سامى من عرب الجزيرة او المشرق ، بمعنى ان اثر العنصر العربى فى مصر لم يصل تقريبا الى واحات مصر الغربية ، هذا فى حين ان المنطقة الثانية عربية المصدر تماما ، ومن الناحية الاخرى فلا عبرة بالتساؤل القديم عما اذاكان سكان الواحات اصلا مصريين او ليبيين ايام الفراعنة ، اذ من الثابت انهم كانوا مصريين تماما
ولكن الدكتور حمدان يعود ويقول :
ويمكن القول بعد هذا على الفوربأن الواحات ، التى تتباعد منتشرة على مساحة شاسعة ، هى اثنولوجيا شركة بأسهم وبنسب متفاوتة بين ثلاثة مؤثرات اساسية :
مصرية من الشرق ، بربرية من الغرب ، وزنجية من الجنوب ، ،،، وبحسب موقع كل واحة يتحدد توازن الشد والجذب بين هذه القوى الثلاث ، فاقربها الى النيل اكثرها مصرية ، وابعدها عنه اكثرها بربرية ، واكثرها جنوبية اكثرها زنجية
والدكتور حمدان بذلك يقصد الواحات الخارجة فى الاولى ، وواحة سيوة فى الثانية ، وواحة باريس فى الثالثة ،،، ونحن نرى ان هذا التصنيف ليس بالدقة الواجبة ولكنه يتخذ صفة العمومية النظرية ، وهو ما سوف نتعرض له تفصيلا عند الحديث عن الأصول السكانية لمجتمعات الواحات عموما ، والواحات الداخلة – التى هى موضوعنا – بصفة خاصة
ميلاد الزراعة المصرية فى الواحات
تعرض موضوع نشأة الحضارة الزراعية فى التاريخ الى عدة رؤى ودراسات مختلفة ومتباينة ، الا ان احدث الدراسات التى تمت فى مصر بعد الكشوف الأثرية خلال السبعينات من القرن الماضى ، والتى ترجع الى العصر الحجرى القديم ولكنها تتجاوز كل حضاراته السابقة فى القدم ، واهم هذه الكشوفات ثلاثة : سيوة ، النوبة ، جنوب الصحراء الغربية ، ويهمنا الكشفين الاول والثالث :
ففى سيوة عثر على بقاياحضارة زراعية تم تحديدها بمادة الكربون المشع بنحو اثنى عشرة الف سنة ق م ، اى على الاقل ضعف عمر اقدم الحضارات التى سبق العثور عليها فى وادى النيل الحالى ، وبهذا ، وبعد ان كان اتجا ه الرأى يذهب الى ان الزراعة بعد ان بدأت فى مصر منذ اثنى عشرة الف سنة ق م ، ماتت على ضفاف النيل نتيجة الفيضانات المدمرة ، اثبتت هذه الأبحاث الحديثة استمرار وبقاء الحضارة الزراعية المصرية كاملة فى الواحات حتى ستة آلاف سنة قبل الميلاد على الأقل ، وعلى ذلك يمكن القول بانه اذا كان وادى النيل هو المشتل الاول للزراعة المصرية ، فقد لعبت الوحات دور الخزانة الحافظة لها ، هكذا يقول جيمس هنرى بريستد ، مؤرخ الحضارة المصرية ودورها فى تاريخ ميلاد الحضارة الانسانية.
من كل هذه المعطيات ، هل لنا ان نتصور شكلا – منطقيا – لصورة الحياة فى الصحراء الغربية خلال تلك العصور ؟ – او فلنقل – المرحلة التى طمسها التاريخ حول دور الواحات وتاريخها سواء فى التكوين الذاتى من جهة ، او فى بناء الحضارة المصرية بصفة خاصة من جهة اخرى ؟
اما فى جنوب الصحراء الغربية وفى الجانب الغربى – منطقة بير طرفاوى – وجدت ادلة على استئناس الحيوان منذ اكثر من ثمانية آلاف سنة وعلى هذه الأسس الجديدة لا يستبعد ان يكون الانسان المصرى هو اول من عرف الزراعة واستأنس الحيوان فى الواحات الغربية
ولعل المتتبع لتاريخ الواحات الموثق منذ بداية العصر الحجرى وعصور الأسرات والعصر الرومانى ثم القبطى فالأسلامى، يستطيع ان يلمح مجموعة من العوامل الدافعة لمقومات حياة ثقافية ذات طبيعة خاصة ومتميزة – على الأقل – عما عداها من حيوات الصعيد ودلتا النيل من ناحية ، وحياة بدو الصحارى المصرية والعربية المجاورة – جغرافيا – للواحات من ناحية اخرى .
"الواحات المصرية"
عرف إقليم الواحات الخارجة والداخلة والفرافرة (الفرفرون) وفيها عدد من المدن والقرى والقلاع، باسم مملكة موريطانيا الذي استمر استخدامه حتى حوالي القرن التاسع الميلادي حيث استبدل بمملكة الواحات كما ورد في كتب العرب. ويبدو أن الأسرة المالكة في هذا الإقليم قد اعتنقت الإسلام في حوالي القرن التاسع الميلادي أو بعد ذلك بقليل. ويرجع اسم هذه المملكة إلى مقطعين يونانيين، أولهما موري ومعناه أهل البادية، وهناك إشارة إلى حدوث ثورة مجموعة من المازيكين في السنوات الأخيرة من القرن الرابع الميلادي الأمر الذي دفع الإمبراطور ثيودوسيرس لإرسال حملة إلى موريطانيا لتأديبهم. وحدث في نهاية القرن السابع وأوائل القرن الثامن الميلادي شكوى ملك المقرة (دنقلة) من منع ملك موريطانيا مرور رسل المقرة إلى الإسكندرية لمقابلة البطريرك ومرجع ذلك إلى تحالف مملكة موريطانيا مع حكومة مصر الإسلامية ضد المقرة (دنقلة) وجاء في المصادر القبطية (حياة البطريق إسحاق) أن ملك موريطانيا قد منع مرور الأساقفة وغيرهم من رجال الدين الذين كانوا يسافرون عن طريق الواحات من السفر إلى دنقلة أو العودة إلى الإسكندرية. وهذه المملكة –موريطانيا- التي أطلقت على مجموعة الواحات المصرية لا ترتبط بأية علاقة مع موريطانيا الواقعة على المحيط الأطلسي جنوبي مراكش (المغرب)، والأسرة المالكة في الواحات المصرية- كما سنبينه فيما بعد- ترجع إلى "لواته" وهي قبيلة بربرية، وعلاقة مجموعات هذه القبائل، من لواته والمقرة والنوبة (نوباديا، نوباتيا.. إلخ) ونوميديا، في حاجة إلى دراسة خاصة. قامت على مجموعة الواحات الداخلة والخارجة والفرافرة حكومة من أسرة آل عبدون الذين كانت السلطنة في أيديهم منذ فتح العرب لمصر في النصف الأول من القرن السابع الميلادي. وترجع هذه الأسرة كما يقول المسعودي وابن حوقل إلى حي من لواته قبيل من البربر. ويحتمل أن تكون هذه الأسرة قد جاءت إلى هذا الإقليم في زمن سابق للإسلام وأنها اعتنقت الإسلام بعد دخوله إلى مصر، ويسند هذا القول إن مجموعات قبيلة لواته كانت موجودة في شمال غربي هذا الإقليم. ولا نعلم شيئاً عن تنظيمات هذه المملكة الإدارية، والذي يبدو من الوصف الذي جاء في كتاب "صورة الأرض" لابن حوقل أنها كانت تعتمد على الجباية –الخراج والجزية- وكانت تمر عبر أراضيها القوافل إلى السودان وغانة والمغرب وفزان. والمعروف أن هذا الطريق قد قفل بعد منع أحمد بن طولون السفر من مصر إلى المغرب عبر هذا الطريق بسبب (سافية) الرمل التي تنقلها الرياح فتهلك المسافرة. وهو ما اطلق عليه بعد ذلك بحر الرمال الأعظم ، الذى يمتد على طول الشريط الواقع على حدود مصر الغربية ، وحتى داخل الحدود الليبية فى الصحراء الغربية وكانت هناك حروب وغزوات بين مملكة الواحات والنوبة، ولا تُعلم أسباب تلك الحروب، هل هي كانت لأغراض سياسية أو اقتصادية. وقد هجم النوبة على الواحات في عام 951 م، وأن هدنة قد عقدت بين مملكة الواحات ومملكة النوبة بعد ذلك، وكانت هناك ممالك أخرى من ناحية الغرب والجنوب الغربي للواحات منها القرعان والزغاوة فماذا كان موقف هذه الممالك من بعضها البعض؟ ولا نعلم شيئاً مؤكداً عن الأمر الذي انتهت إليه هذه الأسرة المالكة ومن الذي حل محلها، كما أننا لا نعلم شيئاً عن الهجرات مِن وإلى هذه المملكة. فالواضح أن أهل النوبة قد تركوا الواحات في نهاية القرن الثالث وأوائل الرابع الميلادي للسكنى جنوبي الشلال الأول على حوض النيل، ومن المحتمل أن تكون هجرات أخرى قد تلت ذلك إلى حوض النيل في مختلف بقاعه وبخاصة بعد قفل طريق الصحراء إلى الغرب الأمر الذي تعطلت معه التجارة عن طريق القوافل المذكورة. وننشر فيما يلي ما وصل إلينا عن تاريخ هذه المملكة ونرجو أن يعاون ذلك على القيام بدراسات أوسع عن الفترتين المسيحية والإسلامية لكتابة تاريخ لهذه المملكة ونصيبها الاقتصادي في تجارة مصر، وننقل ما كتبه صاحب كتاب "صورة الأرض" بنصه وحرفه لعل ذلك يساعد على متابعة ما جاء في المصادر التاريخية الأخرى ومنها اليعقوبي والمسعودي والمهلبي (إذا وجد. نقل عنه ياقوت) والإدريسي وياقوت وابن الوردي وابن دقمان والمقريزي والقلقشندي وابن آياس وغيرهم من العرب والإفرنج. يقول ابن حوقل في كتابه صورة الأرض: "وأما الواحات فإنها بلاد كانت معمورة بالمياه والأشجار والقرى والرموم قبل فتحها. وكان يسلك من ظهرها إلى بلاد السودان بالمغرب على الطريق الذي كان يؤخذ ويسلك قديماً من مصر إلى غانة فانقطع ولا يخلو هذا الطريق من جزائر النخيل وآثار الناس وفيها إلى يومنا هذا ثمار كثيرة وغنم وجمال قد توحشت فهي تتوارى. وللواحات من صعيد مصر إليها في حد النوبة نحو ثلاثة أيام في مغارة حد، ولم تزل سافرتهم وسافرة أهل مصر على غير طريق تتصرف إلى المغرب وبلد السودان في براري ولم ينقطع ذلك إلى حين أيام دولة أبي العباس أحمد بن طولون. وكان لهم طريق إلى فزان وإلى برقة فانقطع بما دار على الرفاق في غير سنة بسافية الريح للرمل على الرفاق حتى هلكت غير رفقة، فأمر أبو العباس بقطع الطريق ومنه أن يخرج عليه أحد". وفيما يبدو أن هذا المنع كان على التجار والمسافرين من إقليم مصر. وذكر الجغرافي العربي: "وبلد الواحات ناحيتان ويقال لهما الواحة الداخلة والواحة الخارجة وبين الداخلة والخارجة ثلاث مراحل، وأجلّها الناحية الداخلة وهي واسطة البلد وقرار آل عبدون ملوكها وأصحابها، وفيها مساكنهم وأموالهم وعدتهم وذخائرهم، وهما حارتان بينهم نصف بريد وبكل حارة منها قصر إلى جانبه مساكن لحاشية من ينزله وخاصته وأصحابه وأضيافه وفيهما حرمهم وتعرف إحدى الحارتين بالقلمون والأخرى بالقصر، والناحية الخارجة تعرف ببيريس وبيخيط، وهما خمسة أصقاع ويشمل كل صقع منها على مناير تتقارب في المنزلة والحال". وذكر ابن دقماق أربع وعشرين بلداً في مملكة الواحات سنوضحها فيما بعد. "والواحات كالناحية المعتزلة في مركز دائرة من النيل، تبعد غرباً عن مدينة الأقصر في صعيد مصر بحوالي الثلانين والمائة من الأميال، ومن أي نحو قصدت الواحات من أنحائها كان الوصول إليها من ثلاث مراحل إلى أربع مراحل، والناحية الخارجة منها المعروفة ببيخيط وببيريس أقرب إلى النيل ومن قصدها من ناحية النوبه ويبرين وإعمالهم اجتاز بعين النخلة بماء عدّ لا ساكن عنده ولا يجد الماء إلى بيريس، ومن اجتاز بها أرض مصر وقصدها من أسنى (أسنا) وارمنت تزود ماء النيل إلى بيريس، ومن قصدها من البلينا وأخميم وأسيوط والأشمون من أسافل الصعيد كان وصوله إلى بيخيط وتزود ماء النيل، ومن قصدها من أسوان وأعلى الصعيد اجتاز بدنقل بماد عد في أحساء تحفر باليد وعليه نخيل كثيرة بعير ساكن وتزود الماء إلى بيريس ومسيرة كل طريق مما ذكرته إليها ثلاث مراحل وأكثر هذه الطريق في عقاب وأودية وجميع من قصدها من هذه الأربع نواحي يقطع الوادي المعروف بوادي واحساء بني فضالة". "ومن قصد الواحة الداخلة وهي دار مملكة آل عبدون من ناحية القيس والبهنسة كان وصوله إلى بهنسة ألواح إذ بها ناحية تعرف بالبهنسة أيضاً وبينها وبين الفرفرون مرحلة". "وقد يقصد الواحات من ناحية المغرب ومن جزيرة فيها نخيل وسكان من البربر تعرف بسنترية فيكون أول وصولهم منها إلى ناحية بهنستها". "والفرفرون قرية ذات قصور وبين بهنسة مصر والقيس وبهنسة الواح أربع مراحل وهي في جملة ألواح الداخلة، وتصيب الماء في هذا الطريق بموضع يعرف بماء النخلة وفيه نخلة". ونشير فيما يلي إلى ما كتبه ابن دقمان في كتابه الانتصار لواسطة عقد الأمصار (جزء ثاني):. وهي بلاد كثيرة حصينة وبها قلعة، وبهذه البلاد من الفواكه والثمار شيء كثير وكانت في القديم مملكة قائمة بنفسها، وكان لصاحب مصر على صاحبها قطيعة، ثم صارت مضافة إلى مصر. وهو إقليم غير متصل بغيره تحيط به المفاوز وجيزة بين مصر والإسكندرية والمغرب والصعيد والنوبة والحبشة ومسافاته من كل ناحية مقاربة للأخرى وقيل هي ثلاث واحات. الأولى تسمى الخارجة وقصبتها تسمى المدينة. ووسطى وفيها مدينتان، إحداهما –وهي الكبرى- تسمى القصر، والأخرى تسمى هندا، وهما مسورتان. والثالثة وتسمى الداخلة، وفيها مدينتان، إحداهما –وهي الكبرى- تسمى أريس، والثانية تسمى ميمون وبها عيون حامضة وأهلها يشربون منها ويسقون بها أراضيهم ومتى شربوا من غيرها استوبؤا. ويقال أن عدةة بلاد الواحات أربعة وعشرون بلداً منها: القصر، وبها عين حارة مثل الحمام. وأفطيمة فيها أعناب كثير وأتيان، وشكول فيها أرز وعنب. وجافاته فهي ا أرز وكروم. وعين جديد البحرية بها تزرع وكروم وأرز. وعين جديد القبلية بها كروم كثيرة وتزرع بها الأرز. وبوقس بها كروم ويزرع بها الأرز أيضاً. والقلمون بلدكبير كلها كروم وبها كنيسة للنصارى. والقلول بها كروم وتزرع الأرز. وعنقيش بها نخيل وموز كثير وكروم كثيرة، ويزرع بها الأرز، والجبن الذي يعمل من لبن بقرها إذا أكل نفع من رمي الدم، وقد جرب هذا. وذكر لي جماعة من أهل الواحات عن هذا الجبن هذا الحديث. وموط بها كروم ويزرع بها الأرز والهندا، وينزل بها المتولى على ألواح ولا يزرع الأرز. وبنسطر – يزرع بها الأرز. وبني يزيد – يزرع بها الأرز أيضاً. والمعيصرة – القريبة يزرع بها الأرز أيضاً. وسمنت – القديمة يزرع بها الأرز. وسمنت الخطا – يزرع بها الأرز. والقصبة – بلد كبير وبها كروم ويزرع بها الأرز. وبلاط – يزرع بها الأرز أيضاً. وبني يزيد – الشرقية، كفر صغير، ويزرع بها الأرز. وتنيده – بلد كبير، يزرع به الأرز. وحاجر القصر – بها كروم، ويزرع بها الأرز. بيت خلو – بها كروم ويزرع بها الأرز. وأفطمية – بها كروم ويزرع بها الأرز. وهذا البلاد تسمى الواح القبلية يسافر إليها من بر أسيوط مسيرة ستة أيام يحملون الماء والزاد ثلاثة أيام ثم يأتي المسافرون بعد ذلك إلى عين مور تحت جبل يحملون منها الماء إلى الواح. وفي "المنتية" معدن الشب الأصر والأبيض مباح. وبأرض الواح يزرع القطن وهو كسوة أهلها لم يخرج منها، وفي البلد الذي تسمى "موط" معدن الحوت، وهو الزاج، ويسمى أيضاً القلقلند، وهو من قبليها مسيرة ساعة. وكان عليه ديوان ومشد، وأرض الحوت كيمان كبار في وسط جبل. ويقال ببلاد الواحات عيون حامضة يستعملون ماءها كاستعمال الخل، ومنها عيون مرّة ومن قوة مائها لا يخالط شيئاً إلا مرّره، وإن العلة في اختلاف هذا الطعوم في المياه أن الأرضين المختلفة مثل مواضع الشب والزاج والمواضيع النارية الرمادية. وذكر الأطباء أن أعداد الطعوم ثمانية، أولها العذب والدسم والحلو والمالح والحامض والمر والقابض والحريف. وللناس في هذه أقاويل: منها العذب نوعان بارد وسخن، فالسخن إن استعمل من خارج وداخل مقيد الحاجة فإن ينقي الجسد وإن استعمل أكثر فإنه يرخي الأعضاء ويضعفها، وإن البارد يشد الأعضاء ويدفع العطش وإن الزيادة منه تخدر الجسد وتميته وإن الماء الأجاج ينفع من شدة الكبد والطحال وينفع الجراح والقروح العتيقة والحكة، والبيرقي نافع للحكة والجرب، وأما ماء القار فإنه نافع من أوجاع الصلب والعصب، وماء الحديد نافع من الاسترخاء، وماء النحاس نافع من الرطوبة والبله الكائنين في الجسد والرأس، وماء الحصبا يشنج المعدة ويقبضها ويكرشها، وماء الزاج يحسن الدم، وماء البحر نافع من البرص. وقد ذكر جماعة أنه ينفع من الأخلاط الفاسدة إذا شرب اليسير مع دهن اللوز وله في البصر أتعاب فظيعة، وأن أصح المياه للأجساد الماء الأبيض الصافي البراق الذي يخرج من جبال الطين من مشرق الشمس نحو مغربها القابل لسرعة ما يرد إليه من الحر والبرد. والكلام في هذا المعنى طويل وليس هذا موضعه. وإنما ذكرنا ذلك لاختلاف مياه بلاد الواحات. سترية، سيويه، وأهل ستريه سن طريه. (Santarey) واحات جميعها وهي الخاص والداخلة والخارجة والخاص أقربهم إلى الأعمال البهنسائية، وعبرتهم أربعة وخمسون ألف دينار. واح الخاص ثلاثة عشر ألف دينار، والخارجة اثنى عشر ألف دينار، الداخلة تسعة وعشرون ألف دينار.
ابن إياس والواحات
وفى مؤلفه الضخم بدائع الزهور فى وقائع الدهور، يذكر ابن اياس فيما يكتب عن < أعمال الديار المصرية وكورها > حول التعريف باهم المدن المصرية ،قد عرض لحوالى عشرين مدينة فقط من المدن المصرية ، وقد جاءت الواحات الداخلة فى الذكر العاشر من هذه المدن ، فيورد ما يلى نصا :
ذكر الواحات الداخلة
هذه المدينة بناها قفطريم ، وكان بها بركة ، اذا مر بها الطير سقط فيها ، لا يبرح منها حتى يؤخذ باليد ، وكان لها اربعة ابواب ، على كل باب منها صنم من نحاس اصفر ، اذا دخل من ابوابها غريب ، القى عليه النوم ، فينام عند الباب ، ولا يبرح حتى يأتيه احد من اهل المدينة وينفخ فى وجهه ، فيقوم ، وان لم يفعلوا ذلك ، لايزال نائما عند الباب حتى يموت.
ويورد ابن اياس ، فى كلامه عن عجائب مصر، حول الواحات الداخلة ، ما يلى :
قال ابن عباس ، رضى الله عنهما : لا زالت الناس ينقصون فى الأرزاق والآجال فى كل عام ، الى وقتنا هذا ،
قلت : ومصداق هذه الأخبار،ما قاله الشيخ حسام بن زنكى الشهرزورى ،قال : كان بالواحات الداخلة ، شجرة نارنج ، يقطف منها فى كل سنة نحو اربع عشرة الف نارنجة ، ما سوى ما يتناثر من الريح ، وما هو اخضر
قال الشيخ تقى الدين المقريزى ، صاحب الخطط : فلما سمعت بذلك انكرته ، ولم اصدقه لغرابته ، فقد رآنى سافرت الى سافرت الى الواحات الداخلة ، وشاهدت هذه الشجرة ، فاذا هى قدرجميزة كبيرة ، فسألت مستوفى الناحية عما تطرح فى كل سنة ، فأحضر لى قوائم تتضمن ذلك ، فتصفحتها، فاذا فيها : قطف منها فى سنة احدى وسبعمائة ، اربع عشرة الف نارنجة، صفراء مستوية ، سوى ما بقى عليها من الأخضر ، وما تناثر من الريح ، فتعجبت من ذلك غاية العجب ، انتهى ذلك ، فهذا بقية ما كان بمصر من العجائب.
ساحة النقاش