<!--
<!--<!--<!--
سلسلة كيف نفهم القرآن؟ (*)
(تفسير سورة الأنعام بأسلوب بسيط جداً)
1. الربع الأول من سورة الأنعام
الآية 1: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾: أي الثناء على اللهِ تعالى بصفاته (التي كلّها صفات كمال)، وبنِعَمِهِ الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، فهو سبحانه ﴿الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾: أي وخلق الظلمات والنور، وذلك بتعاقب الليل والنهار والشمس والقمر، فالذي أوجد السموات والأرض وما فيهما من سائر المخلوقات، وجعل الظلمات والنور (وهما من أقوى عناصر الحياة) هو وحده المستحق للحمد والثناء والعبادة لا غيره، ومع هذا الوضوح في استحقاقه تعالى وحده للعبادة: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ أي يُساوونه بغيره في العبادة والتعظيم والمحبة والخوف، (إذ معنى يَعدلون: يُساوون، وهي مأخوذة من العدل والمساواة)، فالذين كفروا يَعدلون باللهِ تعالى أصناماً ومخلوقاتٍ فيعبدونها معه، مع أنهم لم يُساووا اللهَ في شيءٍ من الكمال، بل هم فقراء عاجزون ناقصون مِن كل وجه.
الآية 2: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ﴾: يعني هو الذي خلق أباكم آدم من طين (وأنتم سُلالة منه)، ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلًا﴾: يعني ثم كتب مدة بقاء كل إنسان في هذه الحياة الدنيا، ﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾: أي وكتب أجلاً آخر محدَّدًا معروفاً عنده، لا يعلمه إلا هو جَلَّ وعَلا، وهو يوم القيامة.
•واعلم أنَّ في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ﴾، إعلامٌ بأنه تعالى قادرٌ على أن يعيد خَلق الإنسان - بعد الموت - كما بدأه أول مرة، قال تعالى: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾، وقال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، بل إنَّ إعادة الخَلق أهْوَنُ عليه سبحانه، كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾، إذ هي نفس الأرض التي خلقه منها، قال تعالى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾، وضرب لنا سبحانه مَثَلاً حتى نُوقِنَ بقدرته على البعث فقال: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى﴾، ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ﴾: أي ثم أنتم بعد هذا تشُكُّون - أيها المشركون - في قدرة الله تعالى على البعث بعد الموت، كما تشُكُّون في وجوب توحيدِهِ بالعبادة دونَ غيره.
الآية 3: ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ﴾ هذه الجُملة يُفسرها قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ)، يعني وهو سبحانه المعبود في السماء والمعبود أيضاً في الأرض، لأنّ كلمة (إله) معناها في اللغة: (المعبود)، وليس كما يَستدل البعض بهذه الآية على أن الله موجود في كل مكان، فهذا لا يليق به سبحانه، إذ قد يقول قائل - بجهل -: (طالما أنه موجود في كل مكان، إذن فهو - حاشَ لله - موجود أيضا في الأماكن الخربة، وغيرها)، تعالى اللهُ عن ذلك عُلُوَّاً كبيراً، بل هو سبحانه فوق عرشه كما أخبر عن نفسه فقال :﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾، أي عَلا وارتفع، وقال سبحانه: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾، وهذه آياتٌ مُحكَمات (يعني لا تَحتمِل أكثر من معنى)، والعرش فوق السماء السابعة، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال - كما في صحيح البخاري - وهو يتحدث عن الفردوس الأعلى من الجنة: (وفوقه عرش الرحمن)، ومعلومٌ أنَّ الجنة بعد السماء السابعة، كما ذكر صلى الله عليه وسلم ذلك بعد صعوده إلى سِدرة المنتهى - في رحلة الإسراء والمعراج - حينَ صعد به جبريل فوق السماء السابعة للقاء ربه تبارك وتعالى، قال تعالى: ﴿عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى﴾.
•فإذا قلنا ذلك، فإننا نجد مَن يقول: (إنَّ معنى استوى على العرش هو: استولى على العرش)، فدعونا نسأل: (هل كانَ العرشُ في يدِ أحد، حتى يستولى اللهُ عليه؟!)، سبحان الله وتعالى عما يصفون، ثم نجدهم يحتجون بأنهم فعلوا هذا التأويل (أي التبديل للمعنى) لأنه سبحانه إذا كانَ فوق العرش، فإنه سيكونُ مُحتاجاً له للجلوس عليه، وهذه ستكون صفة نقص في حقه تعالى، ونحن نقول: (إذا تصورنا أنني وضعتُ قلماً فوق يدي بحيثُ يكون ملامساً لها، فإننا سنقول: إن القلم فوق اليد، وكذلك إذا رفعتُ القلم فوق يدي - قليلاً - بحيثُ يكون غير ملامس لها، فإننا سنقول أيضاً: إنّ القلم فوق اليد)، إذن فإنَّ الفوقِيَّة لا تَشترط المُلامَسة، فإذا كانت المُلامَسة للعرش صفة نقصٍ عندهم، وهي أيضاً صفة نقصٍ عندنا، إذن فهو سبحانه فوق العرش - كما أخبر عن نفسه - ولكنْ غير مُلامِسٍ له.
•ولكنْ ليعلم الجميع أنه سبحانه - مع عُلُوِّه - قريبٌ مِن عباده بعِلمه وإحاطته، فعِلمُهُ مُحيطٌ بجميع الخلائق، لا يَخفى عليه شيءٌ منها، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُم أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْض﴾، ولهذا قال بعدها: ﴿يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾ أي إنه سبحانه معكم بعِلمه وإحاطته في كل وقت.
•وهو سبحانه المُهَيمِن على السماوات والأرض ومَن فيهنّ، المُتصرف في الكون كله، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾، وقال تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ)، وقال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنّ قلوبَ بَني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلبٍ واحد، يُصَرِّفه حيثُ شاء) (والحديث في صحيح الجامع برقم: 2141)، فهو سبحانه المتصرف في الأمور كلها، فسبحان مَن عَلَّمَ خَلقه أن يتحكموا في الأشياء وهُم على بعدٍ سحيق منها بمختلف أجهزة التحكم الحديثة (مِثل ما يُعرَف بالأقمار الصناعية وغيرها).
الآية 4، والآية 5: ﴿وَمَا تَأْتِيهِمْ﴾: أي وما يأتي الكفار ﴿مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ تدل على وحدانيته تعالى، وصِدْقِ محمد صلى الله عليه وسلم في نبوته، ﴿إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ ﴿فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ﴾: أي كَذَّبوا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وما معه مِن الدين الحقِّ ﴿لَمَّا جَاءَهُمْ﴾، وسَخِروا مِن دَعْوَتِهِ؛ جَهلاً منهم، واغترارًا بإمهال الله لهم، ﴿فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾: يعني فسوف يتبين لهم أنَّ ما استهزءوا به هو الحق والصِدق، وسوف يُبَيِّن اللهُ للمكذبين كَذبهم وافتراءهم، ويُجازيهم عليه.
•فلما استهزأ مُشركوا قريش بالوعيد: أنزل الله بهم العذاب الذي استهزأوا به، وأوَّل عذاب نزل بهم: هزيمتهم يوم بدر، ثم القحط سبع سنين، ومَن مات منهم على الشِرك: فسوف يُعَذَّب في نار جهنم خالداً فيها أبداً، ويُقال لهم وهم يُعَذَّبون: ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تستهزئون.
الآية 6: ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ﴾: يعني ألم يعلم هؤلاء الكفار أننا قد أهلكنا كثيراً من أهل القرون من الأمم السابقة المُكذبة، (والقرن: مائة سنة)، أفلا يتأملون ما حَلَّ بهم مِن هلاكٍ وتدمير، رغم أننا قد ﴿مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾: أي أعطيناهم من القوة المادية ﴿مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ﴾ أيها الكافرون، ﴿وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا﴾: يعني وأنعمنا عليهم بإنزال المطر متواصلاً غزيراً، ﴿وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ﴾: أي من تحت مساكنهم، فيَنبُتْ لهم بذلك ما شاء الله من الزروع والثمار، فلم يشكروا نعم اللهَ عليهم، بل أقبلوا على الشهوات وألهَتْهُم المَلَذَّات، فكفروا بنعم الله وكَذَّبوا الرسل ﴿فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ﴾: أي فأهلكناهم بسبب ذنونهم، لا ظُلماً مِنَّا، ولكنْ بظُلمهم هم لأنفسهم، ﴿وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ﴾: يعني وأنشأنا من بعدهم أممًا أخرى خَلفُوهم في عمارة الأرض، وكان ذلك علينا يسيراً، فاعتبِروا أيها الكفار مما حدث لهم.
الآية 7: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا﴾ من السماء ﴿فِي قِرْطَاسٍ﴾: أي في أوراق ﴿فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ﴾ ليتأكدوا منه، فإذا لمسوه بأصابعهم وتَيَقنوا أنه حق: ﴿لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ظلما وتكَبُّراً وجُحوداً: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾.
الآية 8: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾ من السماء; ليساعده ويُصَدّقه - أمام الناس - فيما جاء به من النُبُوّة، فرَدَّ اللهُ عليهم بقوله: ﴿وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا﴾ من السماء إجابةً لِطلبهم: ﴿لَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ بإهلاكهم، إذ ليس مِن شأن اللهِ تعالى أن يُنزل الملائكة، ولو أنزل مَلكاً لأهْلَكَهم في الحال، لأنّ الأمر أصبح يَقينِيَّاً، وليس قضية إيمان بالغيب، وهذا ما لا يريده الله لهم، ﴿ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ﴾: يعني ثم لا يُمهَلون - ولو ساعة - ليتوبوا أو يعتذروا.
الآية 9، والآية 10: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا﴾: يعني ولو جعلنا ذلك الرسول المُرسَل إليهم مَلَكًا - إذ لم يقتنعوا بمحمد صلى الله عليه وسلم: ﴿لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا﴾: أي لَجَعلنا ذلك الملك في صورة بشر، حتى يستطيعوا السماع منه ومخاطبته; إذ ليس بإمكانهم رؤية المَلَك على صورته الملائكية، وحينها سيَطلبون أن يكون الرسولُ بشراً، ﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾: يعني ولو جاءهم المَلَك بصورة رجل: لاشتبَه الأمر عليهم، كما اشتبه عليهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم، إذ هم مُعاندون للحق، مُتَّبِعون لأهوائهم.
•ولمَّا كان طلبهم إنزال المَلَك على سبيل الاستهزاء بمحمد صلى الله عليه وسلم: بيَّن الله له أن الاستهزاء بالرسل عليهم السلام ليس أمراً جديداً، بل قد وقع من الكفار السابقين مع أنبيائهم، فقال - مُصَبِّراً له على تكذيبهم، ومُهَدِّداً لهم -: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾ ﴿فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾: أي فأحاط بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به ويُنكرون وقوعه، فاحذروا - أيها المكذبون - أن تستمروا على تكذيبكم، فيُصيبكم ما أصابهم.
الآية 11: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا﴾ بعيونكم، واعتبروا بقلوبكم ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ إنه الهلاك والخِزي، وانتقام وإبادة المَلِك الجبار لهم، فاحذروا أن يَحِلَّ بكم مِثل الذي حَلَّ بهم.
الآية 12: ﴿قُلْ﴾ أيها الرسول لهؤلاء المشركين: ﴿لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؟ ﴿قُلْ لِلَّهِ﴾ كما تُقِرُّون بذلك، فاعبدوه وحده، واعترفوا له بالإخلاص والتوحيد، كما تعترفون بانفراده بالمُلك والخلق والتدبير، واعلموا أنه سبحانه وتعالى قد ﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾: أي أوْجَبَ على نفسه رَحمةَ خَلقه، فلا يُعاجلهم بالعقوبة إذا أذنبوا، وقد كتب سبحانه على نفسه أنَّ رحمته تغلب غضبه، وأنه قد فتح لعباده أبواب الرحمة (إن لم يُغلِقوا أبوابها عليهم بذنوبهم).
•ومِن مَظاهر رحمته تعالى: أن يجمع الناسَ يومَ القيامة ليحاسبهم ويُجازيهم بعملهم: فالحسنة بعشر أمثالها، أما السيئة فبِسَيئةٍ مثلها فقط، ولهذا قال - بعد أن ذَكَرَ رحمته - : ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ الذي ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾: أي الكائِن الواقع يقيناً بلا شك، وهذا قسَمٌ منه سبحانه، وهو أصدق القائلين، وقد أقام على ذلك من الحُجج والبراهين، ما يجعله حق اليقين، ولكنْ أبَى الظالمون إلا جحوداً، وأنكروا قدرة الله على بعث الخلائق، فانغمسوا في معاصيه، وتجرءوا على الكفر به، فخسروا بذلك دنياهم وأُخراهم، ولهذا قال: ﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ يعني: الذين أشركوا بالله تعالى قد أهلكوا أنفسهم، فهم لا يوحدون الله، ولا يُصدقون بوعده ووعيده، ولا يُقرون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فبذلك استحقوا الخسران المبين.
*********************
2. الربع الثاني من سورة الأنعام
الآية 13، والآية 14: ﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾: أي وَللهِ تعالى مُلكُ كل شيءٍ في السموات والأرض (سَكَنَ أو تحرَّك، خَفِيَ أو ظهر)، فالجميعُ عبيده وخلقه، وتحت قهره وتصَرُّفه وتدبيره، ومِن هنا وَجَبَ اللجوء إليه، والتوكل عليه، والانقياد لأمره ونَهْيه، ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ﴾ لأقوال عباده ﴿الْعَلِيمُ﴾ بأفعالهم الظاهرة والباطنة.
•واعلم أنَّ في قوله تعالى: ﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾، محذوفاً (بلاغياً) تقديره: (وَلَهُ مَا سَكَنَ وتحرك فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)، لأنّ كل متحرك يَؤول أمْرُهُ إلى سكون، وذلك كَقوْلِهِ في آيةٍ أخرى: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ أي ملابس تحميكم من الحر والبرد، فاكتفى بذِكر أحدهما لِيَدُلّ على الآخَر، ومن الممكن أن يكون المراد أنّ له سبحانه كل ما حَلَّ في الليل والنهار (متحركًا كان أو ساكنًا)، كما يُقال: (فلان سَكَنَ ببلدٍ) أي حَلَّ فيه.
•ثم أمَرَ تعالى رسوله أن يَرُدّ على المشركين الذين يريدونه أن يوافقهم على شِركِهم، وأن يَعبد معهم آلهتهم، فقال له: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا﴾: يعني أغيرَ الله تعالى أتخذ وليًّاً ونصيرًا، أعبده كما اتخذتم أنتم أيها المشركون أولياء عَجَزَة تعبدونهم، إنَّ هذا لن يكونَ أبداً، لأنه سبحانه هو وحده ﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾: أي خالق السموات والأرض وما فيهنّ، ﴿وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ﴾: يعني وهو الذي يُطعِمُ خَلقه لافتقارهم إليه، ولا يُطعِمُهُ أحد لِغِناه المُطلَق عن ذلك، إذ هو سبحانه ليس بمحتاجٍ إلى رزق، ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ﴾: أي أُمِرتُ أن أكونَ أول مَن خضع للهِ وانقاد له بالعبودية مِن هذه الأُمَّة، وقيل لي: ﴿وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ الذين يعبدونَ مع الله غيره من مخلوقاته.
الآية 15، والآية 16: ﴿قُلْ﴾ أيها الرسول لهؤلاء المشركين: ﴿إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي﴾ أن يُنزِلَ بي ﴿عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ وهو عذابُ يوم القيامة، ﴿مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ﴾: يعني مَن يَصرِف اللهُ عنه ذلك العذاب الشديد ﴿يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ﴾ ﴿وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ﴾.
الآية 17: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ﴾: يعني وإن يُصِبْكَ اللهُ بشيءٍ يَضرك كالفقر والمرض والحزن: ﴿فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ﴾ ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ﴾: يعني وإن يُصِبْكَ بخيرٍ كالغِنَى والصحة والفرح: فلا رادَّ لِفضله، ولا مانعَ لِعَطائه ﴿فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، واعلم أنه قد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (يا غلام، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله، واعلم أن الأُمَّة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيءٍ: لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء: لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك) (والحديث في صحيح الجامع برقم: 7957).
الآية 18: ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه ﴿الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ الذي خضعتْ له الرِّقاب وذَلَّتْ له الجَبابرة, ﴿وَهُوَ الْحَكِيمُ﴾ الذي يَضع الأشياء في مواضعها، ﴿الْخَبِيرُ﴾ الذي لا يَخفَى عليه شيء، فمَن اتَّصَفَ بهذه الصفات: يَجب ألاَّ يُشرَكَ به.
الآية 19: ﴿قُلْ﴾ أيها الرسول لهؤلاء المشركين: ﴿أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً﴾ يعني: أيُّ شيء أعظم شهادة في إثبات صِدقي فيما أخبرتكم به أني رسول الله؟ ﴿قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾: أي هو سبحانه العالِمُ بما جئتكم به، وهو العالِمُ بما أنتم قائلونه لي، فشهادته تعالى لي بالنبوة هي ما أعطاه لي من المعجزات الباهرة (كانشقاق القمر وغير ذلك)، وكذلك وَحْيُهُ إليّ بهذا القرآن الذي أنذركم به، والذي لا يستطيع أن يقوله بشر، وأنتم تعلمون ذلك لأنكم أبْلغ البشر، ولهذا قال بعدها: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ﴾: أي مِن أجل أن أنذركم به عذابَ الله أن يَحلَّ بكم، ﴿وَمَنْ بَلَغَ﴾: يعني ولأنذر به كل مَن وصل إليه هذا القرآن، قال القرطبي رحمه الله: (مَن بَلغه القرآن، فكأنما قد رأي محمداً صلى الله عليه وسلم وسَمِعَ منه)، وفي هذا دليلٌ على أنّ الأصل أن يُعذَرَ الإنسانُ بجهله حتى يبلغه العلم.
•ولما بيّن تعالى شهادته بصِدق نبيه (وهي أكبر الشهادات على التوحيد)، أمَرَهُ أن يُنكِرَ عليهم الشرك بقوله: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى﴾: يعني إنكم لَتُقِرُّون أنَّ مع اللهِ معبوداتٍ أخرى تشركونها به في العبادة، ﴿قُلْ﴾: أما أنا فـ ﴿لَا أَشْهَدُ﴾ على ما أقررتم به، ولا أعترف بهذه الأصنام والأحجار التي تعبدونها - تقليداً لآبائكم - مِن غير دليل، ثم أمره تعالى بعد ذلك أن يقرر ألوهية الله وحده، وأن يتبرأ من آلهتهم المزعومة، فقال له: ﴿قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ لا شريك له، وهو الله الواحد الأحد الصمد (أي السيد الذي يُلجأ إليه عند الشدائد والحوائج(، ﴿وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾.
الآية 20: ﴿الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ﴾: أي الذين آتيناهم التوراة والإنجيل، يعرفون محمدًا صلى الله عليه وسلم بصفاته المكتوبة عندهم ﴿كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾، فكما أنَّ أبناءهم لا يَشتَبِهون عليهم بغيرهم، فكذلك محمد صلى الله عليه وسلم لا يَشتَبِه عليهم بغيره، لِدقة وَصْفِهِ في كُتبهم، ولكنهم اتبعوا أهواءهم، فخسروا أنفسهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، ولهذا قال: ﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.
الآية 21: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾: يعني لا أحد أشَدّ ظلمًا ﴿مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ فزعم أنّ له شركاء في العبادة، أو ادَّعى أنّ له ولدًا أو زوجة، ﴿أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ﴾: يعني أو كَذَّبَ ببراهينه وأدلته التي أيَّدَ بها رسله، ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾: يعني إن الظالمين الذين افتروا على الله الكذب لا يُفلحون في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يَنجون من عذاب الله يوم القيامة.
الآية 22، والآية 23، والآية 24: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا﴾ ﴿ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾: يعني أين آلِهَتكم التي كنتم تزعمون أنهم شركاء مع الله تعالى ليشفعوا لكم؟، ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ﴾ يعني: ثم لم تكن إجابتهم حين فُتِنوا بالسؤال عن شركائهم ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾: يعني أنهم تبرؤوا منهم، وأقسموا بالله ربهم أنهم لم يكونوا مشركين معه غيره، وذلك لأنهم قد رأوا أن المشركين لا يُغفَرُ لهم ولا يَنجون من عذاب الله.
•ثم أمر الله رسوله أن يتعجب من هذا الموقف المُخزي لهم، فقال له: ﴿انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ حينَ تبرؤوا من الشِرك؟ ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾: أي ذهب وغاب عنهم ما كانوا يَزعمونه كَذِباً مِن شفاعة آلِهَتهم لهم يوم القيامة.
الآية 25: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾: يعني ومِن هؤلاء المشركين مَن يستمع إلى القرآن الذي تتلوه، فلا يصل إلى قلوبهم، لأنهم - بسبب اتِّباعهم أهواءهم: ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ﴾: أي جعلنا على قلوبهم أغطية، حتى لا يفقهوا القرآن، ﴿وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا﴾: أي وجعلنا في آذانهم ثِقلاً وصَمَمًا فلا تسمع ولا تفهم شيئًا، ﴿وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا﴾: يعني وإن يروا الآيات الكثيرة الدالة على صِدق محمد صلى الله عليه وسلم، لا يُصَدِّقوا بها، ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ﴾ أيها الرسول بعد معاينة الآيات الدالة على صِدقك: تَراهم ﴿يُجَادِلُونَكَ﴾ فـ ﴿يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ - ظلماً وتكبراً -: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾: يعني ما هذا الذي نسمع إلا ما تناقله الأولون مِن حكاياتٍ لا حقيقة لها - وهذا مِن جَهلهم وعنادهم - وإلاَّ، فكيف يكون هذا الكتاب الحاوي لأنباء السابقين واللاحقين، والحقائق التي جاءت بها الأنبياء والمرسلون، والحق والعدل التام من كل وجه، أساطيرَ الأولين؟!
الآية 26: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ يعني: وهؤلاء المشركون ينهون الناس عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم والاستماع إليه، ﴿وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾: يعني ويبتعدون بأنفسهم عنه، ﴿وَإِنْ يُهْلِكُونَ﴾: أي وما يُهلكون - بصَدِّهم عن سبيل الله - ﴿إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أنهم يَسعون في هلاكها.
الآية 27، والآية 28: ﴿وَلَوْ تَرَى﴾ أيها الرسول هؤلاء المشركين يوم القيامة لرأيتَ أمراً عظيماً ﴿إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ﴾: يعني حين يُحْبَسون على النار، ويُشاهِدون ما فيها من السلاسل والحميم، فلما رأوا بأعينهم تلك الأهوال والأمور العِظام: ﴿فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ﴾ إلى الحياة الدنيا، فنُصَدق بآيات الله ونعمل بها ﴿وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿بَلْ﴾: أي وما هم بصادقين في ذلك القول، وإنما هي تمنيات تمنوها بسبب الخوف من نار جهنم، وبسبب فضيحتهم أمام أتباعهم حينَ ﴿بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ﴾: يعني حين ظهر لهم يوم القيامة ما كانوا يَعلمونه مِن صِدق ما جاءت به الرسل في الدنيا (رغم أنهم كانوا يُظهرون لأتباعِهم خلاف ذلك)، ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾: يعني ولو فُرِضَ أنهم أُعيدوا إلى الدنيا فأُمْهِلوا ليتوبوا من الشرك والمعاصي والعِناد: لَرَجَعوا إلى ما كانوا عليه، ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ في قولهم: (لو رُدِدْنا إلى الدنيا: لم نُكذبْ بآيات ربنا، وكنا من المؤمنين).
•وَمِن لطيف ما يُذكَرُ في قوله تعالى: ﴿يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ﴾، أنني - شخصياً - قد رأيتُ في مَنامي بأنَّ القيامة قد قامت، وأنَّ الخلقَ واقفونَ في الظلام، ينتظرون العرضَ على اللهِ جَلَّ وَعَلا، فقلتُ - ما مَضمونه - : (هل سأُعْرَضُ الآنَ حقاً على اللِه تعالى، ليحاسبني على كل صغيرةٍ وكبيرة، على كل نعمةٍ وكل ذنب، لا، أنا لستُ مستعداً الآن للقاء اللهِ جَلَّ وَعَلا، يارب، أرْجِعْنِي إلى الدنيا مرة أخرى حتى أستقيمَ على طاعتِك، وأتوبَ من كل الذنوب، وأستعد للقائك)، وأخذتُ أتضرعُ إلى اللهِ تعالى حتى استيقظتُ من النوم، هنا فقط - بعد أن رَدَّ اللهُ عليَّ روحي - أدركتُ معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم - عندما كانَ يستيقظ مِن نومِه: (الحمد لله الذي عافاني في جسدي، وَرَدَّ عَليَّ رُوحي، وأذِنَ لي بذِكْره)، أدركتُ أنَّ كلَ يومٍ من عمري هو - ببساطة - فرصة عظيمة لاستدراك ما فات من الذنوب والعمل الصالح، وأنَّ المَوْتَى يَتمنونَ يوماً واحداً من أيامي، ولو يشترونه بالدنيا وما عليها، فأنتَ الآنَ في أمنيتهم، فاعملْ يا عبدَ اللهِ قبل أن تنامَ فلا تقوم.
الآية 29: ﴿وَقَالُوا إِنْ هِيَ﴾ أي ما الحياةُ ﴿إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا﴾ التي نحن فيها, ﴿وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ بعد موتنا.
الآية 30: ﴿وَلَوْ تَرَى﴾ حال مُنكِري البعث يوم القيامة لرأيتَ منظراً هائلاً ﴿إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ﴾: أي حين يُحْبَسون بين يدي الله تعالى لقضائه فيهم، ﴿قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ﴾ يعني: أليس هذا البعث - الذي كنتم تنكرونه في الدنيا - حقًّا؟ ﴿قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا﴾ إنه لَحَقّ، ﴿قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾: أي فذوقوا العذاب الذي كنتم تكذبون به في الدنيا، بسبب جحودكم بعبادة الله تعالى وحده، وبسبب تكبركم عن الإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
الآية 31: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ﴾: أي أهْلَكوا أنفسهم في جهنم، حيث باعوا الإيمان بالكفر، والتوحيد بالشرك، والطاعة بالمعاصي، واستمر تكذيبهم ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً﴾: أي حتى إذا قامت القيامة فجأة وهم على أقبح حال، وفوجئوا بسوء المصير: أظهَروا غاية الندم، فـ ﴿قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا﴾: يعني يا حسرتنا على ما ضيَّعناه في حياتنا الدنيا (فينادون حسرتهم زيادة في التألُّم والحزن)، وقد قالوا ذلك ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ﴾: أي أحمال ذنوبهم ﴿عَلَى ظُهُورِهِمْ﴾ (إذِ الوِزر هو الحِمل الثقيل)، ﴿أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾: يعني فما أسوأ هذه الأحمال الثقيلة السيئة التي يحملونها!!
الآية 32: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ في غالب أحوالها ﴿إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ (واللعب: هو العمل الذي لا يَجلبُ دِرهماً للمعاش، ولا حسنة للمَعاد، وأما اللهو: فهو ما يُشغِلُ الإنسانَ عمَّا يُكسِبُهُ خيراً أو يَدفع عنه ضرراً)، ﴿وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾: أي والعمل الصالح لِلدار الآخرة خيرٌ للذين يَخشون اللهَ تعالى، فيتقون عذابه بطاعته واجتناب معاصيه، ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ أيها المُغترون بزينة الحياة الدنيا، فتقدِّموا ما يَبقى على ما يَفنى؟
الآية 33: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ﴾: أي إنا لَنَعلم إنه ليُدْخِلُ الحزنَ إلى قلبك تكذيبُ قومك لك في الظاهر، فاصبر واطمئن ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ﴾ في قرارة أنفسهم، بل يعتقدون صِدقك ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾: أي ولكنهم - لِظلمهم وعِنادِهم - يَجحدون البراهين الواضحة على ِصدقك، فيكذبونك فيما جئتَ به.
•وقد ثبتَ أنّ الأخنَس بن شريق - قبل إسلامه - أتى أبا جَهلٍ، فقال له: (يا أبا الحَكَم، ما رأيك فيما سمعتَ مِن محمد؟)، فقال أبو جهل: (تنازعنا نحن وبنو عبد مَناف الشرف) - وبنو عبد مَناف هم الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم مِن نَسْلِهِم - ، ثم قال أبو جهل موضحاً له التنافس الذي كان بينهم وبين بنو عبد مَناف: (أطعَموا فأطعَمنا، وحَمَلوا فحَمَلنا، وأعطَوا فأعطينا، حتى إذا تجاثَيْنا على الرُكَب - (يعني حتى إذا اشتد السباق بيننا) - وكُنَّا كَفَرَسَي رَهَان، قالوا: مِنّا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى نُدرِك نحن هذه؟!، والله لا نؤمن أبداً ولا نصدقه)، فقام الأخنس وتركه.
الآية 34: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا﴾ ﴿وَأُوذُوا﴾ في سبيل الله، فصبروا على ذلك، واستمروا في دَعْوَتِهِم وجهادهم ﴿حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا﴾ ﴿وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ﴾: والمقصود بكلمات الله هنا: ما أنزل الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم مِن وَعْدِهِ إياه بالنصر على مَن عاداه، ﴿وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾: يعني ولقد جاءك أيها الرسول مِن خبر مَن كان قبلك من الرسل، وما تحقق لهم من نصر الله، وما جرى على مُكَذبيهم من انتقام الله منهم وغضبه عليهم، فليَكُن لك فيهم القدوة في الصبر، حتى يأتيك نصرنا على أعدائك، (وفي هذا تسلية وتصبير للرسول صلى الله عليه وسلم).
الآية 35: ﴿وَإِنْ كَانَ كَبُرَ﴾ أي شَقَّ ﴿عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ﴾ عن الاستجابة لدعوتك - وذلك مِن شدة حرصك عليهم - فأردتَ أن تأتيهم بآيةٍ تُرغِمهم على الإيمان برسالتك، كما يطلبون منك ويُلِحُّون عليك، وهم كاذبون، لأنهم لا يريدون إلا العِناد: ﴿فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ﴾: يعني فإن استطعتَ أن تتخذ نفقاً في الأرض، أو مصعدًا تصعد فيه إلى السماء، فتأتيهم بعلامة وبُرهان على صحة قولك غير الذي جئناهم به حتى ترضيهم فافعل، فإنه لا يفيدهم ذلك شيئاً، وهذا ما لا تستطيعه لأنه فوق طاقتك فلا تُكَلَّف به، وليس في مقدورك أن تهدي مَن لم يُرد الله هدايته، وإذاً فما عليك إلا الصبر، وفي هذا قطْعٌ لطمعه صلى الله عليه وسلم في هداية هؤلاء المعاندين.
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى﴾ الذي أنت وأصحابك عليه، ولَوَفَّقهم للإيمان، ولكنه لم يشأ ذلك لِحكمةٍ يعلمها سبحانه، ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾: أي فلا تقف موقف الجاهلين الذين لا يعرفون حقائق الأمور فاشتد بذلك حزنهم وحسرتهم، فلا تطلب ما لا يريده ربك، فإنك إذا فعلتَ ذلك كنتَ من الجاهلين، ولا نريد لك ذلك، ولا يليق هذا بمثلك، وهذا كلّه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وحَمْلٌ له على الصبر، وهو لكلّ داعٍ إلى الله تعالى يُواجه التكذيب والعِناد إلى يوم الدين.
*********************
3. الربع الثالث من سورة الأنعام
الآية 36: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ﴾ لِدَعْوَتِك أيها الرسول: ﴿الَّذِينَ يَسْمَعُونَ﴾ الكلام سماعَ القَبول، أما الكفار فهم كالموتى، لأن الحياة الحقيقية إنما تكونُ بالإسلام،
ساحة النقاش