<!--
<!--<!--<!--
سلسلة كيف نفهم القرآن؟ (*)
(تفسير سورة البقرة بأسلوب بسيط جداً)
1. تفسير الربع الأول من سورة البقرة
الآية 1: ﴿الم﴾: هذه الحروف - وغيرها من الحروف المُقطَّعَة في أوائل السور - فيها إشارة إلى إعجاز القرآن الكريم، فقد تَحَدَّى اللهُ به المشركين، فعجزوا عن مُعارَضَتِه، مع أنه مُرَكَّب من هذه الحروف التي تتكون منها لُغَتُهُم، فدَلَّ عَجْزُ العرب عن الإتيان بمثله - مع أنهم أفصَحُ الناس - على أنّ القرآنَ وَحْيٌ من عند الله.
الآية 2، والآية 3: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ - وهو القرآنُ - ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾: أي لا شَكَّ في أنه حقٌ مِن عند الله، فلا يَصِحّ أن يَرتابَ فيه أحدٌ لوضوحه، ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾: أي يَنتفع به المُتقون بالعلم النافع والعمل الصالح.
♦ وهؤلاء المُتقون هم ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾: أي الذين يُصَدِّقون بكل ما غابَ عن حَواسّهم مِمَّا أخبرَ به الرُسُل, (واعلم أنّ الإيمان: هو التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وهذا التصديق يكونُ إقراراً بالقلب، وقولاً باللسان، وعَمَلاً بالجَوَارح (والجَوَارح هي أعضاء الإنسان))، ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾: أي ويُحافظون على أداء الصلاة في أوقاتها أداءً صحيحًا (مُوافِقًا لِمَا كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم), ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ - مِن أنواع المال - ﴿يُنْفِقُونَ﴾: أي يُخرِجون صَدَقة أموالهم الواجبة والمُستحَبة.
الآية 4: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ أيها الرسول من القرآن والسُنَّة, ﴿وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾: أي ويُؤمنون بالكتب التي أُنزِلَت على الرُسُل الذين مِن قبلك، كالتَوْراة والإنجيل وغيرهما, ﴿وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾: أي ويُصَدِّقون - تصديقاً جازماً - بالحياة الآخرة وما فيها من الحساب والجزاء، (وقد خَصَّ اللهُ الإيمانَ بالآخرة; لأنَّه مِن أعظم المُحَفزات على فِعل الطاعات, واجتناب المُحَرَّمات, ومُحاسبة النفس).
الآية 5: ﴿أوْلَئِكَ عَلَى هُدًى من ربهم﴾: أي على نورٍ من ربهم، وبتوفيقٍ مِن خالِقِهم وهادِيهم ﴿وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾.
الآية 6: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ أي لا يقعُ الإيمان في قلوبهم، وذلك لإصرارهِم وعنادِهِم مِن بعد ما تبَيَّنَ لهم الحق.
الآية 7: ﴿خَتَمَ﴾: أي طبعَ ﴿اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ ﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾: أي وجعل على أبصارهم غطاء، ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
الآية 8: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ﴾ بلسانه: ﴿آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ﴾ ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾: أي وهم في باطِنِهم كاذبونَ لم يُؤمنوا (وهؤلاء هم المنافقون الذين يُظهِرونَ الإيمانَ للناس، ويُخفونَ الكُفرَ في صدورهم).
الآية 9: ﴿يُخَادِعُونَ﴾: أي يَعتقدون بجهلهم أنهم يُخادعونَ ﴿اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ﴾ لأنّ عاقبة خِداعِهِم تعودُ عليهم، ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أنهم يَخْدَعُونَ أَنفُسَهُمْ، وذلك لفساد قلوبهم.
الآية 10: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ أي شكٌّ وفسادٌ وشهوات ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ (لأنهم لا يُريدون التوبة مِمَّا هم فيه)، ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾.
الآية 11: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ﴾ - بالكفر والمعاصي، وإفشاء أسرار المؤمنين، ونُصرة الكافرين ومَحبتهم وغير ذلك من أنواع الفساد - ﴿قَالُوا﴾ - جِدَالاً وَكَذِباً - : ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾.
الآية 12: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ لأنَّ ما يَفعلونه - ويَزعُمون أنه إصلاح - هو بذاتِهِ عَينُ الفساد ﴿وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ بذلك لِجَهْلِهم وعِنادهم.
الآية 13: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ﴾ أي آمِنُوا - مثل إيمان الصحابة (وهو الإيمان بالقلب واللسان والجَوارِح) -، ﴿قَالُوا﴾ - جِدالاً واستهزاءً -: ﴿أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ﴾ أي ضِعاف العقل والرأي؟، فرَدَّ اللهُ عليهم بقوْلِه: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ﴾ ﴿وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أنَّ ما هم فيه هو الضَلال والخُسران المُبِين.
الآية 14: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾: يعني وإذا انفردوا بزعمائهم الكفرة المتمردين: ﴿قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ أي نستخِفُّ بهم، ونسخرُ منهم.
الآية 15: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ ﴿ويَمُدُّهُم في طغيانهم يعمهون﴾: أي يُمْهِلُهُم ليَزدادوا ضلالاً وحِيرَةً وترَدُّداً.
الآية 16: ﴿أُولَئِكَ﴾ المنافقون هم ﴿الَّذِينَ اشْتَرَوُا﴾ أي استبدلوا ﴿الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾ لأنهم باعوا أنفسهم في صفقةٍ خاسرة، حيثُ استبدلوا النعيمَ المقيم بالعذاب الأليم، ﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ إلى الرُّشد والصواب.
الآية 17: ﴿مَثَلُهُمْ﴾: أي مَثَلُ هؤلاء المنافقين مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً﴾، وهذه النار - في نورها - مِثلُ رسالة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾: أي فلَمَّا أضاءت رسالته الدنيا بنورها: آمنوا بها، ثم كفروا فـ ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ﴾ وهي ظُلُمات ضَلالهم ﴿لا يُبْصِرُونَ﴾.
الآية 18: ﴿صُمّ﴾ عن سَماع الحَق، ﴿بُكْمٌ﴾: أي خُرْسٌ عن النُطق به، ﴿عُمْيٌ﴾ عن إبصار نور الهداية، ﴿فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ﴾: أي فلذلك هم لا يستطيعون أن يَرجعوا إلى الإيمان الذي تركوه - بعد أن عرفوا أنه الحق -، واستبدلوه بالضَلال.
الآية 19: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ﴾: يعني أو مَثَلُهُم كَمَطَرٍ شديدٍ نازلٌ مِنْ السَّمَاءِ ﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ﴾ المُحرقة والرعد القاصِف ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾: أي خوفًاً من الهلاك، وهذا هو حال المنافقين: إذا سمعوا القرآن، جعلوا أصابعهم في آذانهم، وأعرضوا عن أمْرِهِ ونَهْيِهِ وَوَعدِهِ وَوَعِيدِه، فهم يُعرضون عنه غاية ما يُمْكِنهم، ويَكرهون سَماعَهُ مِثل كراهة الذي يَسمع الرعد ويَخافُ منه، ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾، فهُم لا يُعجزونه سبحانه، ولكنه يُمهِلُهم، ثم يأخذهم أخْذَ عزيزٍ مُقتدِر.
الآية 20: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ﴾ مِن شدة لَمَعانه ﴿يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾، ومع ذلك فـ ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ﴾: أي مَشَوْا في ضوءِه، ﴿وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾ أي وقفوا في أماكنهم مُتحَيِّرين، وهذا هو حال بعض المنافقين: يَظهر لهم الحق أحياناً، ثم يَشُكُّون فيه أحياناً أخرى، ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾: أي ولولا إمهال اللهِ لهم: لَأخَذَ سَمْعهم وأبصارَهم ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ لا يُعجِزُهُ شيء.
الآية 21، والآية 22: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ أي وخَلَقَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (وهذا يَدُلّ على أنّ كَثرة العبادة هي الطريق للوصول إلى التقوى، وإلى درجة المتقين).
♦ وهو سبحانه ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً﴾: أي بِساطًا لِتَسهُلَ حياتكم عليها، ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ أي مُحكَمة البناء، ﴿وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ﴾ من جميع أنواع الفاكهة والخضروات والحُبوب، ﴿فلا تجعلوا لله أنداداً﴾ أي نُظَرَاء له في العبادة، ﴿وأنتم تعلمونَ﴾ أنه وحده الخالق الرازق المستحق للعبادة.
الآية 23: ﴿وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ أي مِثل هذا القرآن في أسلوبه وهدايته، ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ﴾: أي وادعوا مَن تقدرون عليه مِن أعوانكم ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾، فإذا عجزتم عن ذلك - وأنتم أهلُ البَراعة في الفصَاحة والبَلاغة - فقد عَلِمتم أنَّ غيرَكم أعْجَزُ مِنكم عن الإتيان بذلك.
الآية 24: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾: يعني فإن لم تأتوا بسورةٍ مِثل سور القرآن، ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾: أي ولن تستطيعوا الإتيان بها ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ﴾ (وذلك بالإيمان بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وبطاعة الله)، واعلموا أنّ هذه النارُ ﴿الَّتِي وَقُودُهَا﴾ أي حَطَبُها ﴿النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ قد ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾.
♦ واعلم أنّ قولَه تعالى: ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾: فيه إثارةٌ لِهِمَمِهِم، وتحريكٌ لِنُفوسِهم، ليكونَ عَجْزُهُم بعدَ ذلكَ أبدَع (وهذا مِن الغيوب التي أخبرَ بها القرآن قبلَ وقوعِها).
الآية 25: ﴿وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جناتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾ أي حدائق عجيبة، تجري أنهارُ الماء والعسل واللبن والخمر مِن تحت قصورها العالية، وأشجارها الظليلة، و ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ أي قد رَزَقَنا اللهُ هذا النوع مِن قبل في الدنيا، ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً﴾: يعني ورغم أنه متشابه مع سابقِهِ في اللون والمَنظر والاسم، إلاَّ إنهم إذا ذاقوهُ: وجدوهُ شيئًا جديدًا في طعمه ولذته، ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ من كل أنواع الدَنَس الحِسِيِّ كالبَول والحَيض، وكذلك مِن الدَنس المعنوي كالكذب وسُوء الخُلُق، ﴿وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
************************************************
2. تفسير الربع الثاني من سورة البقرة
الآية 26، و الآية 27: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي﴾ - مِن أجل إظهار الحق - ﴿أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا﴾ قَلَّ أو كَثُر, ولو كان ﴿بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾: أي ولو كانَ تمثيلاً بأصغر شيء (كالبعوضة والذباب ونحو ذلك) مِمَّا ضربهُ اللهُ مَثلاً لِإظهار عَجْز كل ما يُعْبَد مِن دونِه، ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ أي يَعلمون حِكمة اللهِ تعالى في ذلك فيزدادوا بهِ إيماناً.
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ﴾ على سبيل السُخرية: ﴿مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾: يعني ماذا أرادَ اللهُ مِن ضَرْب المَثَل بهذه الحشرات؟، ويُجيبهم سبحانهُ بأنّ المُراد مِن ضرْب هذه الأمثال هو تمييز المؤمن من الكافر; فلذلك أخبر بأنه ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ أي يَصرف بهذا المَثَل كثيراً من الناس عن الحق لِسُخريتهم منه, ويُوَفِق به غيرهم إلى مَزيد من الإيمان والهداية، ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾: يعني واللهُ تعالى لا يَظلم أحدًا; لأنه لا يَصْرِف عن الحق إلا الخارجين عن طاعته.
♦ وهؤلاء الفاسقون هم ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ أي مِن بعد عَهْدِهِ الذي أخَذَهُ عليهم بتوحيدهِ وَهُم في ظَهر أبيهم آدم (وقد أكَّدَ سبحانه هذا العهد بإرسال الرُسُل وإنزال الكُتب)، ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ كقطع الأرحام، ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ بالكُفر والمعاصي وغير ذلك من أنواع الفساد، ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ في الدنيا والآخرة.
الآية 28: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾: يعني كيف تُنكِرون أيُّها المشركون وحدانية اللهِ تعالى رغم الدليل القاطع عليها في أنفسكم؟ فلقد كنتم أمواتًا - وأنتم في العَدم - فأوجدكم ونَفَخَ فيكم الحياة, ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ بعد انقضاء آجالكم التي حَدَّدَها لكم, ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ يوم البعث, ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ للحساب والجزاء.
الآية 29: ﴿هُوَ﴾ سبحانه ﴿الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ مِن النِّعم التي تنتفعون بها، ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾: أي قَصَدَ إلى خلق السماوات ﴿فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ﴾ ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فعِلْمُه سبحانه مُحيطٌ بجميعِ ما خلق.
الآية 30: ﴿وَإِذْ﴾: أي واذكر حينَ ﴿قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خليفة﴾ أي قومًا يَخلُفُ بعضُهم بعضًا لعمارة الأرض، ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾: أي نُنَزِّهُكَ التنزيه اللائق بحمدك وجلالك، ﴿وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾: أي ونُمَجِّدك بكل صفات الجلال والكمال، ﴿قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾.
الآية 31: ﴿وَعَلَّمَ﴾ سبحانه ﴿آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ أي أسماء المَوجودات كلها، ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ) أي عَرَضَ هذه المَوجودات (عَلَى الْمَلَائِكَةِ﴾ ﴿فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في أنكم أَوْلَى من آدم بالاستخلاف في الأرض.
الآية 32: ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ﴾ أي نُنَزِّهُك يا ربَّنا عما لا يَليقُ بك، وإنه ﴿لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ﴾ بشئون خَلْقك، ﴿الْحَكِيمُ﴾ في تدبيرك وصُنعِكَ، تَضَع الأشياءَ في مَواضعها.
الآية 33: ﴿قَالَ﴾ اللهُ تعالى: ﴿يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾ أي بأسماء هذه الأشياء التي عَجَزوا عن مَعرفتها، ﴿فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ﴾ آدم ﴿بِأَسْمَائِهِمْ﴾ ﴿قَالَ﴾ اللهُ للملائكة: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي ما خَفِيَ عنكم في السماوات والأرض، ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ﴾: يعني وأعلم ما تُظهِرونه، ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ في صدوركم مِن أنكم أوْلَى مِن آدم بالاستخلاف في الأرض؟ إذاً فَسَلِّموا لأمْري وارضوا بحُكمي وقضائي، لأني أعلم ما لا تعلمون.
الآية 34: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ﴾ أي واذكر - أيها الرسول - حين قال اللهُ للملائكة: ﴿اسْجُدُوا لِآَدَمَ﴾ إكرامًا له وإظهارًا لفضله، ﴿فَسَجَدُوا﴾ جميعًا ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ﴾ الذي كان يَعبُدُ اللهَ معهم ﴿أَبَى وَاسْتَكْبَرَ﴾: أي امتنع عن السجود تكَبُّرًا وحسدًا، ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ أي فصارَ بذلك من الجاحدين باللهِ تعالى، العاصينَ لأمره.
الآية 35: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ ﴿وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا﴾: أي وتمَتَّعا بثمارها تمتُّعًا هنيئًا واسعًا ﴿حَيْثُ شِئْتُمَا﴾: يعني في أي مكانٍ تشاءانِ فيها، ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ أي المُتجاوزينَ لحدود الله.
الآية 36: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا﴾: يعني فأوقعهما الشيطان في الخطيئة فأبعدهما عن الجنة، ﴿فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ من النعيم، ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ يعني (آدم وحواء) يُعادون الشيطان، والشيطان يُعادِيهِما، ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ﴾ أي مكانُ استقرار، ﴿وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾: أي وانتفاعٌ بما في الأرض إلى وقت انتهاء آجالكم.
الآية 37: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾ ألهَمَهُ اللهُ إيَّاها توبةً واستغفارًا، وهي قوله تعالى: ﴿ربَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِن الخَاسِرِينَ﴾، ﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾: أي فقبِلَ توبته وَغفرَ له ذنبه ﴿إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾.
الآية 38: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا﴾ ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى﴾: أي وسيأتيكم - أنتم وذرياتكم - ما فيهِ هِدايتكم إلى الحق، ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ فيما يَستقبلونه مِن أمر الآخرة، ﴿وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ على ما فاتهم من أمور الدنيا.
الآية 39: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بأدلة توحيدنا ﴿وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا﴾ الواضحة ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ أي الذين يُلازِمون النار ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
الآية 40: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ - وإسرائيل هو يَعقوب عليه السلام - : ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ واعلم أنّ هذا العهد الذي أخذه اللهُ عليهم هو المذكور في قوله تعالى: ﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾، ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾: يعني وإيَّايَ - وحدي - فخافوني، واحذروا نِقمتي إن نقضتم العهد.
الآية 41: ﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ﴾ - وهو القرآن - ﴿مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ﴾: أي وهذا القرآن مُوافِقٌ لِما تَعلمونه مِن صحيح التَوْراة، ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ مِن أهل الكتاب، ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي﴾: أي ولا تستبدلوا بآياتي ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ مِن مَتاع الدنيا ﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾.
الآية 42: ﴿وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾: أي ولا تَخلِطوا الحقَّ الذي بَيَّنتُهُ لكم بالباطل الذي افترَيْتموه، ﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ﴾: أي ولا تكتموا الحق الصريح مِن صفة نبي الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنها موجودة في الكتب التي بأيدِيكم.
الآية 43: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾: أي وادخلوا في دين الإسلام: بأن تقيموا الصلاة على الوجه الصحيح - كما جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم - ، وتؤَدُّوا الزكاة المفروضة على الوجه المشروع، وتكونوا مع الراكعين مِن أُمَتِهِ صلى الله عليه وسلم.
************************************************
3. تفسير الربع الثالث من سورة البقرة
الآية 44: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ﴾ أي بفِعل الخيرات، ﴿وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ﴾ فلا تأمرونها بالخير العظيم وهو الإسلام ﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾: يعني وأنتم تقرؤون التَوْراة التي فيها صفات محمد صلى الله عليه وسلم، ووجوب الإيمان به ﴿أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾؟!، (وفي هذا تحذيرٌ لكل مَن يأمر الناس بطاعةٍ معينة ثم لا يَفعلها مُطلقاً، أو يَنهاهم عن المنكر ثم يَفعله).
الآية 45، والآية 46: ﴿وَاسْتَعِينُوا﴾ في كل أموركم ﴿بِالصَّبْرِ﴾ وتسَلَّحوا به، فإنه مَا أُعطِيَ أحدٌ عطاءً أوسع من الصبر، (واعلم أنّ الصبر ثلاثة أنواع: صبرٌ على الطاعة، وصبرٌ عن المعصية، وصبرٌ على ما يُصيب العبد مِن مِحَنٍ وبَلاءٍ لتكفير ذنوبه أو رفع درجاته)، فعلى الإنسان دائماً أن يتذكر أنّ بلاءَ اللهِ عَدل وأن عافيته فَضْل، فإذا ابْتُلِيَ بشيءٍ فعليه أن يُسارع بأن يقول: (الحمدُ لله، بذنوبي، أنا أستحق أكثر من ذلك، هذا عدل)، فهذا مِمَّا يُعِينُهُ على الصبر.
﴿وَالصَّلَاةِ﴾: أي واستعينوا بالصلاة على قضاء حَوائجكم وتفريج كُرُباتكم، ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ﴾ أي ثقيلة على النفوس ﴿إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ﴾ أي يُوقِنون ﴿أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ بعد الموت ﴿وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ يوم القيامةِ للحساب والجزاء.
♦ واعلم أنّ الخُشوع هو الذل والخوف من اللهِ تبارك وتعالى، فالخاشعون ذليلون مِن كَثرة النِعَم، وذليلون أيضاً من كثرة الذنوب، وهم الخائفون من المَلِك الجبار الذي سَيَحكم عليهم بجنة أو بنار.
الآية 47: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾: أي وتذَكَّروا أني فَضَّلْتكم على عَالمِي زمانِكم بكثرة أنبيائكم، وما أُنزلتُ عليهم من الكُتب.
الآية 48: ﴿وَاتَّقُوا يَوْماً﴾ - وهو يوم القيامة - حيثُ ﴿لا تَجْزِي نَفْسٌ﴾ أي لا تُغني نفسٌ ﴿عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا﴾ ﴿وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ﴾ إلا بإذن الله، وكذلك إلا لِمَن ارتضاهُ اللهُ أن يُشفَعَ له (كما ذكَرَ اللهُ ذلك في آياتٍ أخَر)، ﴿وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾: أي وَلا يُؤْخَذُ منها فِدية تُنجيها من العذاب، ﴿وَلا هُمْ يُنصَرُونَ﴾: أي ولا يَملِكُ أحدٌ في هذا اليوم أن يَتقدم لنُصرَتِهِم وإنقاذهم من العذاب.
الآية 49: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾: أي واذكروا حين أنقذناكم مِن بَطش فرعون وأتباعه، فقد كانوا ﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾: أي يُذيقونكم أشدَّ العذاب، فـ ﴿يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ﴾ ﴿وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾: أي ويَتركون بناتكم أحياءً للخِدمة والإهانة، ﴿وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾: أي وفي ذلك اختبارٌ لكم من ربكم، وفي إنجائكم مِنْهُ نعمة عظيمة، تستوجبُ شُكرَ اللهِ تعالى في كل عصوركم وأجيالكم.
الآية 50: ﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمْ الْبَحْرَ﴾: أي واذكروا حينَ قطعنا لكم البحر، وجعلنا فيه طُرُقاً يابسةً ﴿فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ﴾ ﴿وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ﴾ أي وقد حدث ذلك أمام أعينكم.
الآية 51: ﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ لإنزال التَوْراة (هِدايةً ونورًا لكم)، ﴿ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ﴾: أي ثم انتهزتم فرصة غياب موسى، وجعلتم العجل الذي صنعتموه بأيديكم معبودًا لكم من دون الله، ﴿وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ﴾ باتخاذكم العجل إلهًا.
الآية 52: ﴿ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ﴾: أي ثم تَجاوَزنا عن هذه الفِعلة المُنكَرَة، وقَبِلْنَا توبتكم ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ أي مِن بعد عَودة موسى إليكم; ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ ربكم على نِعَمِهِ وأفضاله.
الآية 53: ﴿وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ﴾ أي الكتاب الفارق بين الحق والباطل ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ من الضلالة.
الآية 54: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ﴾ ﴿فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ﴾ أي إلى خالقكم، ﴿فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ﴾ وذلك بأن يَقْتل بعضكم بعضًا، ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ﴾ من الخلود الأبدي في النار، ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾: أي فامتثلتم ذلك، فقَبَلَ اللهُ توبتكم ﴿إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾.
الآية 55: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ أي عياناً بالبصر، ﴿فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ﴾: أي فنَزَلتْ نارٌ من السماء رأيتموها بأعينكم، فقَتَلَتْكم بسبب ذنوبكم، وجُرْأتكم على اللهِ تعالى.
الآية 56: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ﴾: يعني إنّ هذا الموت كانَ عقوبة لكم، ثم بَعثكم اللهُ لِتَستَوفوا آجالكم التي قدَّرَها لكم في اللوح المحفوظ، و ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ ربكم، لأنه أحياكم بعد أنْ أماتكم.
الآية 57: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْغَمَامَ﴾: أي وجعلنا السحابَ مُظلًّلاً عليكم من حَرِّ الشمس، ﴿وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ﴾ وهو شيءٌ يُشبهُ الصَّمغ وطعمُهُ كالعسل، ﴿وَالسَّلْوَى﴾ وهو طائرٌ يُشبه السّمانى، ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ ﴿وما ظلمونا﴾ بكُفران النعم، ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ لأنّ عاقبة ظُلمهم ستعودُ عليهم.
الآية 58: ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ﴾ وهي مدينة بيت المَقدس، ﴿فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً﴾ ﴿وَادْخُلُوا الْبَابَ﴾ أي باب القريةِ ﴿سُجَّداً﴾: أي وكونوا في دخولكم خاضعينَ لله، ذليلينَ له، ﴿وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾: أي نسألك يا رَبّ أن تَحُطَّ عنا ذنوبنا، فإنْ تفعلوا ذلك: ﴿نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ﴾ ﴿وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾ مِن خَيرَي الدنيا والآخرة.
الآية 59: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ من بني إسرائيل ﴿قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾ واستهزءوا بدين الله، ﴿فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً﴾: أي عذابًا ﴿مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ أي بسبب تَمَرُّدهم وخروجهم عن طاعة الله.
************************************************
4. تفسير الربع الرابع من سورة البقرة
الآية 60: ﴿وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِه﴾ أي طلب لهم السُقيا من اللهِ تعالى بتضَرُّع، ﴿فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا﴾ بعدد قبائل بني إسرائيل الاثنَي عَشَر، ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ﴾: أي قد عَلِمَت كلُّ قبيلةٍ منهم مَوضِعَ شُربِها، وقلنا لهم: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ﴾ ﴿وَلا تَعْثَوْا﴾: أي وَلا تسعوا ﴿فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾.
الآية 61: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ﴾ وهو المَنّ والسلوى، ﴿فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا﴾ - والقِثّاء هي الثمرة المعروفة بالـ (قَتَّة) -، ﴿وَفُومِهَا﴾ وهو الثوم، ﴿وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا﴾ ﴿قَالَ﴾ لهم موسى مُنكِراً عليهم: ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى﴾ أي أقلّ في القيمة ﴿بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾؟! ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾ أي اهبطوا أيّ مدينة، ﴿فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ﴾: أي فستجدون ما طلبتم في الحقول والأسواق، (فلمَّا هبطوا: تبيَّن لهم أنهم دائماً يُقَدِّمون اختيارهم وشهواتهم على اختيار اللهِ لهم) ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ﴾: أي ولَزِمَتهم صِفَةُ الذل والهَوان، فهُم أذِلاء مُحتقَرون أينما وُجِدوا، ﴿والْمَسْكَنَةُ﴾ وهي فقر النفوس، فلا ترى اليهوديَّ إلا وعليه الخوف والرعب مِن أهل الإيمان، ﴿وَبَاءُوا﴾: أي ورجعوا ﴿بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ﴾ مُستحقين له، ﴿ذَلِكَ﴾ الذي جعله اللهُ عليهم ﴿بِأَنَّهُمْ﴾: أي بسبب أنهم ﴿كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ أي ظلمًا واعتداءً، ﴿ذَلِكَ﴾: أي الجُرأة على قتل الأنبياء كانت ﴿بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾: أي بسبب ارتكابهم للمعاصي، وتجاوُزهم لحدود اللهِ تعالى، فقَسَتْ قلوبهم.
الآية 62: ﴿إِنَّ الَّذِين آمَنُوا﴾ من هذه الأمَّة، ﴿وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ﴾: أي والذين كانوا قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من الأمم السابقة من اليهود، والنصارى، والصابئين - وهم قومٌ باقون على فِطرتهم (أي على التوحيد)، ولا دين مُقرَّر لهم يتبعونه - فهؤلاء جميعًا ﴿مَنْ آمَنَ﴾ منهم ﴿بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، وأما بعد بِعثة محمد صلى الله عليه وسلم - خاتمًا للنبيين والمُرسَلين - إلى الناس كافة، فلا يَقبلُ اللهُ دينًاً مِن أحدٍ غيرَ الإسلام.
الآية 63: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ أي العهد المؤكَّد منكم بالإيمان باللهِ تعالى وإفرادِهِ وحده بالعبادة، ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ﴾ وهو جبل الطور بسيناء، (فقد رفعه اللهُ فوق بني إسرائيل كأنه سحابةٌ تُظِلهُم، وأيقنوا أنه واقعٌ بهم إن لم يَقبلوا أحكام التَوْراة)، وقال اللهُ لهم: ﴿خُذُوا
ساحة النقاش