. تدبير الاختلاف.

بقلم ذ.يوسف مقران.

إن عيناً واحدةً من عينيك لن ترى الصورة كاملة … وساحة الرؤية الواقعة تحت حكمها هي جزءٌ منقوصٌ من الحقيقة … يكملها دماغك بمكاملة مثيرة بين الصورتين الواردتين إليه من كلتا العينين … فيدمج المكرر ويكمل الناقص ويفسر المنظر بعد أن تتوافر أمامه كافة المعطيات … ثم يُخرِج لفهمك صورةً واضحة كاملة لا لبس فيها ولا اختلاف عن تلك الحقيقة القائمة أمامك ! روى المفكر “علي الوردي” في كتابه “مهزلة العقل البشري” قصة رائعة تختصر مشكلة الخلاف والاختلاف بشكل رائع وبليغ .. تتحدث القصة عن فارسين من العصور الوسطى التقيا عند نُصُب قديم فاختلفا في لونه، الأول يراه أصفراً والآخر يدعي بأنه أزرق، ثم راح كلٌّ منهما في سبيل إثبات رأيه يأتي بالأدلة والبراهين ويفّند رأي صاحبه محاولاً إثبات خطأه. حتى اشتد الخصام والجدل وتعصب كل منهما لرأيه وتحوّل الخلاف إلى عداء ! ولكن الحقيقة أن كلاً منهما كان محقاً في رأيه … والحقيقة أيضاً أن النصب كان أصفراً وأزرقاً في آن واحد حيث كان مصبوغاً في أحد وجهيه بلون يخالف لون الوجه الآخر. ولأن كلاً من الفارسين كان يقف في إحدى الجهتين ولا يرى سواها فإنه لم يستطع أن يصدق ادعاء صاحبه وهو يرى بعينيه لون الحصان الذي يدعيه ! إن كلاً منهما لم يخطر له أن يخطو خطوةً إلى الجانب الآخر فينظر النصب من مكان صاحبه ولو فعل ذلك لأدرك أن هذا الخلاف لا أصل له وأن صاحبه لم يكن معاندا ولا معادياً له ولكنه كان يقول ما يرى حقاً ! ولكان أخذ بيده إلى جانبه هو الآخر وعرّفه الحقيقة ووصلا معاً إلى نتيجة مفادها أن النصب هو أصفر وأزرق في آن معاً وأن كليهما على الحق وانتهى الخلاف وعاد الوفاق ! هذا الذي أشار إليه “علي الوردي” في قصة هذين الفارسين هو نفسه الذي قصده “ستيفن كوفي” صاحب “العادات السبع للناس الأكثر فعالية” حين راح يتحدث مسهباً عن “التصورات الذهنية” التي جعلتني أرى فتاة شابة جميلة في إحدى صور الكتاب على أنها عجوز قبيحة دميمة والصورة هي ذاتها لم تتغير ! والحقيقة أن أصل أغلب الخلافات إن لم نقل جميعها هي وليدة هذه التصورات الذهنية التي يسجن فيها الإنسان نفسه ولا يتحرر من قيودها إلا القلة القليلة من صفوة الحكماء. وهذه التصورات الذهنية هي نتيجة تراكمات ثقافية ومجتمعية تنصب على أدمغتنا منذ لحظة ولادتنا الأولى وتستمر حتى موتنا، وهي أصل أغلب التعصبات الدينية والطائفية والمذهبية والعرقية والإثنية والطبقية، فمن نشأ وترعرع في مجتمع يعبد البقر ويقدسه سيسير على أغلب الظن وفق خطى آباءه والأجداد وربما مات دون أن يخطر له خاطر الشك فيما يفعل، فكل ما حوله يؤكد له أن هذه البقرة شيء مقدس، بل وأنه يثور ويغضب ويزبد ويرعد على من تجرأ فأهان معبوده ! وهذا مثال على تعصبات واختلافات لا تنتهي يغص بها عالمنا الملون … وما ذكرته سابقاً لا يجعل من الباطل حقاً ولا يبرر للمخطئين خطأهم … ولكنه يجهز أرضيةً صلبةً تضمّ طوائف المختلفين فيمكنهم عليها أن يجتمعوا متآلفين متسامحين … لأنهم يعلمون أن مخالفهم وإن كان على خطأ فهو ضحية تصوراته الذهنية الخاطئة وإطاره الفكري الذي يقيد عقله وليس عدواً وخصماً معانداً أو مكابراً بالضرورة. وينقل ستيفن كوفي نفسه عن مارلين فيرجسون قولها : “ليس بمقدور أي شخص إقناع شخص آخر بالتغيير، لأن كل واحد منا يحرس بوابة تغيير تفتح من الداخل فقط. ولا يسعنا فتح بوابة أي شخص آخر لا بالمناقشات ولا بالاستعطاف.” ويؤكد علي الوردي على ذات الفكرة حين يقول: “لم نجد إنساناً اقتنع برأي خصمه نتيجة الجدل المنطقي وحده. إن هذا الجدل قد يسكت الإنسان وقد يفحمه أحياناً ولكنه لا يقنعه. ويظل الإنسان مؤمناً بصحة رأيه حتى النفس الأخير. أما إذا رأيناه يبدل رأيه فلنبحث عن العوامل النفسية والاجتماعية التي دفعته إلى ذلك.” وهذه الكلمات تقودنا إلى مبادئ وأساسات غاية في الأهمية تقوم عليها أسس التفاعل والتواصل بين البشر، فاختلافك مع الآخرين لا يعني أنك على الصواب وأنهم على الخطأ بلا شك، ولكنه لا يعني ايضاً أنهم معاندون ومكابرون ومصرّون على الباطل أيضاً، وهذا الأهم. إنهم غالباً ضحايا عقولهم وأسرى أفكارهم وتصوراتهم ومهمتك في حال أردت الخير للبشرية أن تحاول فتح تلك الأبواب التي تمنعهم من رؤية الحقيقة ومن ثم سيصلون إليها من تلقاء أنفسهم إن كانوا صادقين في بحثهم ومخلصين في سعيهم وراءها، أما أن تضع أفكارك وتصوراتك ومبادئك التي تدعو إليها أمام شخص أعمى وتطلب منه أن يبصرها فهذا هو الحمق المبين. وحين يخرج الإنسان من قيود فكره ويتمرد عقله على أسر بيئته يشعر وكأن عوالماً من النور فتحت أمامه، ويلمح نوافذ جديدة تشرّع في وجهه ليبصر آفاقاً جديدة ما كان يتخيل وجودها .. وهذا يشرح لنا بوضوح ادعاءات المفكرين حينما يقولون دوماً بأنهم كلما ازدادوا علماً كلما أدركوا عمق جهلهم … وهذا أيضاً ما يجعل أجهل الناس أكثرهم ثقةً واعتداداً برأيهم … لأنهم لا يرون إلا ضمن إطار ضيق لم يكلفوا أنفسهم عناء القفز فوقه … أما أولئك الباحثون عن الحقيقة فهم يجدون أنفسهم في كل يوم تائهين في متاهات المعرفة وتنمحي في كل يوم من أمامهم تصوراتٌ كانت عقولهم أسيرة فيها وتتسع مساحات الحرية في عقولهم، فيأسفون على سنوات قضوها في الجهل والضياع … وعلى هذا المنهج … كلما ازداد الإنسان علماً كلما ازداد في الوقت نفسه معرفةً بعمق جهله وقصور عقله عن إدراك الحقائق المتشابكة … وذو العقل _حقاً_ يشقى في النعيم بعقله ! ولا سبيل للإنسان للخروج من سجن العقل إلا بطول التأمل والتفكر والغوص في بحار الكتب والمعارف والاستماع بصبر وتأنٍ وحلمٍ لا متناهٍ إلى آراء المخالفين دون تعصب لمواقف مسبقة الصنع أو اتخاذ موقف سلبي من القضية المطروحة على طاولة النقاش ونبذ ثقافة التسليم المطلق بما نراه “الحقيقة” ! حتى لو كنت على الحق … فلا تتعصب له … فيتعصب أهل الباطل للباطل .. كما رد الفعل في الفيزياء هو رد الفعل في الحياة والمعاملات. يقول أبو حامد الغزالي: “فانظر إلى مناظري زمانك كيف يسود وجه أحدهم إذا اتضح الحق على لسان خصمه وكيف يخجل به وكيف يجتهد في مجاحدته بأقصى قدرته، وكيف يذم من أفحمه طول عمره. ثم لا يستحي من تشبيه نفسه بالصحابة رضي الله عنهم في تعاونهم على النظر في الحق.” ولعل الاختلافات الدينية والمذهبية كانت ولا تزال من أهم أسباب العداء الذي يبلغ مبلغ القتال والحروب في كثير من الأحيان .. وعلى الرغم من أن هذا العداوات غالباً ما تعود في أصولها إلى أسباب وغايات بعيدة عن المظهر الديني الذي تدعيه إما لأهداف شخصية أو أطماع سلطوية، إلا أنها أحياناً تكون نتيجة سوء فهم وتفاهم وفشل في العبور إلى الضفة الأخرى .. فيُتهم بالزندقة والكفر والإلحاد من هو مؤمنٌ حقاً ومن ثم يقتل أو ينفى من أرض المؤمنين لإلحاده المزعوم .. ولا يكون هذا الإلحاد وتلك الزندقة إلا تباعدٌ في التصورات بين المُتهَّم والمُتهِّم واختلافٌ في طريق الوصول إلى الغاية الواحدة. وليس أجمل من قول الإمام محمد عبده بعد أن شرح العقائد العضدية وبرهن على حدوث العالم رداً على القائلين بمنطق (القِدم) .. ثم كتب في حاشية ما كتب: “واعلم أني وإن كنت برهنت على حدوث العالم، وحقّقت الحق فيه، على حسب ما أدّى إليه فكري ووقفني عليه نظري، فلا أقول بأن القائلين بالقدم قد كفروا بمذهبهم هذا، أو أنكروا به ضرورياً من الدين القويم. وإنما أقول أنهم قد أخطأوا في نظرهم، ولم يسددوا مقدمات أفكارهم. ومن المعلوم أن من سلك طريق الاجتهاد، ولم يعول على التقليد في الاعتقاد، ولم تجب عصمته، فهو معرض للخطأ، ولكن خطؤه عند الله، واقع موقع القبول، حيث كانت غايته من سيره، ومقصده من تمحيص نظره، أن يصل إلى الحق، ويدرك مستقر اليقين.”

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 184 مشاهدة
نشرت فى 17 إبريل 2015 بواسطة wa9i3-majala

الواقع بلمسة أدبية

wa9i3-majala
نرجو أن نكون عند حسن الظن دائما وأن يقدرنا الله عز وجل لتحقيق ما نأمله جميعا وبما يعود علينا جميعا بالفائدة. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

70,033

فكر بغيرك



Large_1238440534