".. يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا... " و "ما خير رسول الله عليه وسلم بين أمرين إلا وأختار أيسرهما مالم يكن إثماً أو قطيعة رحم"
التيسير مأخوذ من اليسر بمعني السهولة وهو عند أهل الإصلاح التسهيل والتوسعة والتخفيف ونفي الحرج والتيسير فطرة عند الناس فطرهم الله عليها.. ولما كان الإسلام دين الفطرة فإن نصوصه امتلأت بالدعوة لرفع الحرج عن هذه الأمة امتلاءا وصل لدرجة القطع كما يقول بعض الأصوليين. "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" "ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج.." ".. وما جعل عليكم في الدين من حرج" إلي غير ذلك من النصوص..
وليس المقصود بالطبع من الحديث عن التيسير ورفع الحرج في الإفتاء الإتيان بشرع جديد يسقط الفرائض ويحل المحرمات.. وإنما المقصود جملة من المعاني الشرعية نوجز أبرزها فيما يلي.
1ـ الوسطية:-
ونقصد بها سلوك الطريق الوسط في الإفتاء الذي لا إعنات فيه ولا تسيب فلا نذهب بالناس مذهب التشدد الذي يسبب لهم العنت والضيق ويبغض الناس في الدين ويصعب عليهم التزامه ولا مذهب التحلل الذي يسير مع الأهواء ليرضيها والشهوات ليشبعها بدون وجه حق.. فكلا الأمرين خلل والوقوف علي الأطراف يؤذن عادة بسقوط .
2ـ تقديم الأيسر علي الأحوط :-
فإن كان في المسالة قولان متكافئان أو متقاربان من حيث الدليل فإن التشديد واختيار الأحوط في أمور العقائد وأصول الدين يكون مطلوبًا إلا أن الأيسر يكون هو الأولي في الفروع والجزئيات لتيسير الالتزام بالدين علي الناس ورفع الحرج عنهم فإن رسول الله صلي الله علية وسلم – كما في الحديث – "ما خير بين أمرين إلا وأختار أيسرهما ما لم يكن إثماً أو قطيعة رحم" وقد أنكر صلي الله علية وسلم علي معاذ تطويله بالناس في الصلاة ووصفة بالمنفر مراعاة لظروف الناس وتخفيفاً عنهم.. ولا يمنع هذا أن يأخذ نفسه إن شاء بالأحوط والأشد فقد كان صلي الله علية وسلم إذا صلي منفرداً صلي بالطوال وإن صلي بالناس لم يجاوز المفصل وكان الصحابة يتركون تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام.
3ـ التيسير فيما تعم به البلوى :-
إن كان التيسير مطلوباُ علي العموم فالتيسير فيما تعم به البلوى وينتشر بين الناس يكون آكد.. والبحث عن المخارج الشرعية للناس ليتخلصوا من الحرج - وإن كان مخالفًا للأشد والأحوط - يكون هامًا ليستبقي ضمائر الناس الدينية ولا يجعلهم يشعرون بالمشقة والحرج في الالتزام بشعائر الدين وذلك مثلما أفتي علماؤنا المتأخرون بمذهب أبن تيمية في الطلاق المعلق الذي يخرج مخرج اليمين بأنه يمين وليس طلاقاً إذ أن الناس يكثر ذلك منهم والقول بوقوعه كما هو مذهب غيرة من ألائمه يفض إلي الإحساس بأنهم يعيشون في الحرام وقد يشجعهم ذلك علي ما هو أسوأ منه خاصة وإن قول الإمام رحمة الله مذهب قوي من حيث الدليل وكذلك القول بصحة بيع المعاطاة كما هو مذهب احمد وغيرة – دون إيجاب أو قبول – تيسيرًا علي الناس وتصحيحًا لأكثر ما يتداوله الناس من بيوع وخاصة في محقرات البيوع ومثل هذا ما أنتشر بين الناس من مسائل.
4ـ التضييق في الإيجاب والتحريم:-
إذ أن ذلك يستلزم نصوصًا صحيحة صريحة لا لبس فيها أو قياسًا واضح العلة.. إذ أن السلف كانوا يتحرجون من التحريم ومثله الفرضية وكان أحدهم إذا سئل في مثل ذلك قال أكرهه أو ما شابة ذلك حتى لا يجزم في التحريم أو الإيجاب في مسائل قد لا يكون فيها جزم.
ويبدو للمتأمل في نصوص الشريعة أنها كانت حريصة علي تقليل التكاليف الجازمة وتوسيع نطاق العفو رحمة بالمكلفين وزيادة في المرونة ومواكبة المتغيرات والحادثات بتطور الأزمان وقال في ذلك القرآن ".. لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها.."
ولا يعني هذا بالطبع أن يدفعنا الحذر من التحريم إلي إباحة المحرمات الظاهرة – لغير ضرورة شرعية – أو الإفتاء بترك واجب ظاهر إذ أن ذلك يعد من الخروج عن الدين.
5ـ تتبع الرخص:-
ولا نعني بذلك أن تحمل المفتي الأغراض الفاسدة علي تتبع الحيل المحرمة طلبًا للترخص لمن يدوم نفعه أو التغليظ علي من يكرهه وإنما إن أبتغى حيلة – مع قصد حسن – ليخلص من ورطة يمين أو ما شابة فيما لا يحل حرامًا أو يحرم حلالاً فحسن يقول ابن القيم " لا يجوز للمفتى تتبع الحيل المحرمة والمكروهة ولا تتبع الرخص لمن أراد نفعه فإن تتبع ذلك فسق وحرم استفتاؤه فإن حسن قصده في حيلة جائزة لا شبهة فيها ولا مفسدة لتخليص المستفتي بها من حرج جاز ذلك بل أستحب" ثم أستدل بقصة أيوب علية السلام ويمينه وقصة بلال المشهورة في بيع التمر الردئ بالدراهم وشراء التمر الجيد حتى لا يبادل تمرًا بتمر.
هذا وقد أختلف العلماء في مسألة مشروعية تتبع الرخص علي ثلاث مذاهب وهي.
المذهب الأول:-
المنع مطلقًا وهو مذهب البعض من الأحناف والشافعية والمالكية ومذهب ابن حزم وقالوا أنه لا يجوز للمفتى والعامي أن يختار من كل مذهب ما هو أهون وأخف تتبعاً للرخص واعتبروا ذلك ميلا مع الهوى والشرع قد نهي عن اتباع الهوى وذكروا أنه إتباع للخلاف بين العلماء وليس إتباعًا للدليل وإنه يؤدي لإسقاط التكاليف وخرق الاجماعات إلي غير ذلك من الكلام.
المذهب الثاني:-
وإلية ذهب بعض الشافعية وبعض المالكية إذ قالوا بتقييد ذلك بألا يفضي إلي باطل محرم عند جميع من قلدهم كأن يقلد أبا حنيفة في الزواج بدون ولي ويقلد مالكا في الزواج بدون شهود فيكون الزواج هنا باطلا عند كليهما وكذا من توضأ دون دلك كمذهب الشافعي وصحح وضوء من مس ذكره أو مس أمرآة دون شهوة كمذهب مالك فإن وضوءه يكون باطلاً عند كليهما. وأحتج هذا الفريق بان الناس اعتادوا سؤال من اتفق لهم من العلماء دون نكير سواء ترخصوا أم أخذوا بالعزائم
المذهب الثالث:-
ذهب إلية أكثر الأحناف وبعض المالكية والشافعية إذ أجازوا تتبع الرخص إذ لا يوجد – من وجهة نظرهم – في الدين ما يمنع من ذلك وإن للإنسان أن يسلك الأخف ما دام له سبيل شرعي إذ أن النبي صلي الله علية وسلم ما خير بين أمرين إلا وأختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا أو قطيعة رحم وفي الحديث "إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه" وفي الحديث "بعثت بالحنيفية السمحة"
وردوا علي مخالفيهم بأنه لا يوجد في الشرع ما يمنع العامي أن يأخذ من كل مذهب ما خف علية وكذبوا دعوي الإجماع التي أستدل بها مخالفوهم وفسقوا علي أساسها متتبع الرخص وتأولوا لمن فعل ذلك من أتباع الإمام أحمد بأنهم قصدوا من تتبع الرخص غير متأول ولا مقلد أو علي من وصل بتتبعه للرخص إلي صورة باطلة عند الأئمة أما إتباع الرخص للتسهيل فليس في نظرهم مذموما.
والحق أن الأقرب في هذه المسألة أن يقال أن هناك فرق بين العامي والعالم.. فالعامي مذهبه مذهب من أفتاة سواء ترخص أم تشدد أما المتفقه في الدين العالم بالأدلة فلا يوجد ما يمنعه من الترخص في ضوء ما يصح عنده من دليل له وجه مقبول وفي ضوء ما تيسره الشريعة بعيداً عن الهوى.
أما علي مستوي التشريع والتقنين فلا يوجد ما يمنع من تتبع رخص الأئمة المستندة إلي الأدلة في ضوء المصالح المعتبرة وأراء المجتهدين تمثل في مجموعها الفقه الإسلامي الذي هو ذخيرة المقننين في اختياراتهم.
وفي النهاية فالشريعة الإسلامية في أصلها يسر والاجتهاد في الشريعة مبني علي قاعدة أصولية قطعية تداولها الأصوليون منذ بداية التشريع تسمي "رفع الحرج" وليس مقبولاً عند أهل العلم أن يتحول الدين إلي حرج ومشقة تجعل من الالتزام به عسرا لا يسرفيه فلن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه.

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 164 مشاهدة
نشرت فى 24 سبتمبر 2016 بواسطة usamahafez

أسامة ابراهيم حافظ

usamahafez
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

3,121