جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
" هذا يجب أن ينتهي .. يجب علينا أن نترك كل شيء آخر ونكرس حياتنا للتوصل إلي إنهاء هذا الوضع .
لا أظن أن هناك ما هو أشد إلحاحا ً.. أنا أحب الرقص وأن يكون لي أصدقاء ومحبون وأن أرسم لأصدقائي .
لكن أريد قبل أي شيء آخر أن ينتهي هذا الوضع .. ما أشعر به يسمي عدم تصديق ورعب وخيبة أمل .. أشعر بالانقباض من التفكير في أن هذه هي الحقيقة الأساسية في عالمنا .. وأننا جميعا ً نساهم عمليا ً فيما يحدث ".
وأضافت راشيل :
" أنا أحبك يا أمي فأنت من صنعتني .. أنت من وهبتني الوجود .. ولكنني الآن أصبحت أكبر وأكبر خارج ما منحتني .. دعيني أقاتل هؤلاء الوحوش "
كانت هذه الكلمات المعبرة هي آخر ما أرسلته لأمها قبل أن تدهسها الجرافات الإسرائيلية في قطاع غزة – مخيم رفح – في مارس عام 2003 – إنها راشيل كوري.. هل تذكرونها؟
كانت فتاة في عمر الزهور في أوائل العشرينيات من عمرها .. جميلة .. مرحة .. طاهرة لم تدنسها مفاسد الدنيا بعد .. متدفقة المشاعر والأحاسيس .. لم تنشغل منذ طفولتها بما ينشغل به قرناؤها من البنات .. لم تشغلها صالات الرقص وعلب الماكياج.. لم تشتر الدباديب والعرائس .. ولم تتبع آخر صيحات المودة .
لقد انشغلت منذ نعومة إظفارها بالنضال السلمي ضد الظلم والجبروت .. وعاشت معنا قضية الفلسطينيين دون أن تكون فلسطينية .. اشتركت في حركة من شباب بريطانيا وأمريكا للتضامن العالمي من أجل السلام.. وخاضت معهم المظاهرات والإضرابات.. وبذلت في ذلك من وقتها وجهدها الشيء الكثير ولكنها أحست بعدم جدوى ما تفعل.. فقررت أن تذهب إلي هناك .. إلي فلسطين .
تركت بلدتها في ريف واشنطن .. وتركت جامعتها – افير جرين – التي أوشكت علي التخرج فيها.. وتركت أهلها وأصدقاءها وحملت روحها الوثابة وقلبها الممتلئ بالحب والنقاء .. حملت شبابها وحماسها وصدقها وانطلقت إلي فلسطين .
طافت بين بلدانها وشاركت في تظاهراتها .. وحملت جرحاها وسط طلقات الرصاص إلي المستشفيات .. وحملت بين يديها الشهداء وتضمخت ثيابها بدماهم .
وكانت أخر أيامها في غزة .. حيث استقرت هناك تناضل في الصباح الجبروت الصهيوني .. مستفيدة من جنسيتها الأمريكية ولونها الأبيض وعيونها الزرق.. وتنام ليلها كيفما اتفق علي بلاط أحد البيوت التي هدمها اليهود مع أسرة من تلك الأسر التي تفترش حطام تلك البيوت .
ثم وفي ذلك اليوم 16 مارس - كانت قد أدركت عامها الثالث والعشرين - سمعت أن الجرافة الإسرائيلية خرجت لتهدم بيت "علي ومدحت الشاعر" في مخيم رفح .. انطلقت هي وأصدقاؤها السبعة ومكبر صوت يدوي ليتصدوا بصدورهم العارية للجرافة .
وبالفعل استطاعوا أن يعطلوا الهدم ساعتين كاملتين حتى ضاق بهم الجندي الذي يقود الجرافة .. بل قل ضاقت بهم السلطات الإسرائيلية .. واندفع الجندي بجرافته يريد أن يدهسهم .
تفرق أصحابها عنها ونادوا عليها لتبتعد.. ولكنها رفضت وأصرت علي الوقوف.. ولما دنت منها الجرافة قفزت مسرعة إلي ملعقتها وتعلقت بها فحملتها الجرافة مع التراب عاليا ً.. ثم ألقت بها.. وقبل أن تقوم من مكانها اندفعت الجرافة لتدهسها ولم تتركها إلا جثة هامدة .
لم تمت راشيل فاسمها لا يزال يضئ في كل بقاع الأرض في مستشفيات باسمها وجمعيات حقوقية ومؤسسات خيرية .. وقبل ذلك وبعده في قلوبنا جميعا .. قلوب الذين يحبون الخير لكل البشر وينشدون السلام بينهم .
قلوب الذين يرفضون الظلم ويكرهون أن تجلس ساكنا أمامه مكتفيا ً بمصمصة الشفاه والشجب والاستنكار .
لقد وضعت راشيل مؤسسات الشجب والاستنكار في قفص الاتهام وعلمتهم أن التصدي للظلم يحتاج إلي تفاعل وايجابية .. وأن السلاح والقتال ليس هو السبيل الوحيد لذلك .
وها هي راشيل وبعد سنين طويلة من وفاتها تعود لتخترق حصار غزة بنفس الحماس والايجابية التي بدأت بهما منذ سنوات طوال .. وعلي ظهرها عشرون راشيل أخري يحملون المساعدات لأهل غزة لا يبالون – كما كانت لا تبالي – بفجور الظالمين .. وستعود مرة أخري بعشرات أخر حتى تذهب دولة الظلم ويحل السلام .