هو أعظم آفات أوطاننا قاطبة، طالما أمرض جسدها فأقعده عن الفعل الواعي المريد، ليكون مصيرنا كيفما اتفق، ومسبباته طفيليات، أفكارهم وأحاديثهم أفعوانية، يلتهم بعضها بعضا، ليغورالمعنى وتهترأ الكلمات، فلا تفيد شيئا.
وهذه الآفة، الوعي الناقص، أمرضت المجتمع جميعا، فلم تستثن فئة أو جماعة أو طبقة، فمثقفون (طفيليات)، عقولهم في أحسن الأحوال هي من تلك النوعية "المملوءة جدا"، في مقابل "العقول المصنوعة جيدا"(1)، التي كانت دومنا لأعدائنا فطوعوها لتطويعنا وتسيدوا؛ فلا رؤية كلية تُستوعب بها الظرفية التاريخية، وتطرح على الحاضر أسئلة المستقبل. ما أشبههم بطفل لا يدرك المرحلة التي تلفه إلا بعد تجاوزها، لينحصر فعله في دائرة رد الفعل الساذج، ويبقى مصيرنا رهنا بين اصبعي أعدائنا أو الفوضى الخلاقة، إن شاء لها أن تخلق.
تناسوا سلطتهم الأخلاقية لمصلحة ـ ما أسماه المفكر جوليان بندا ـ "تنظيم العواطف الجماعية"، العواطف الطائفية، والأيديولوجية (الموهومة)، ليصبح الواحد منهم ـ بوصف الروائي الفرنسي بول نيزان ـ كلب حراسة، لا أكثر. أوغلوا في استعمال الحيل لإقناعنا بخصب أفكارهم ، فلم تُخف حيلهم عقمهم البادي لكل أحد، رغم ذلك مازالت وجوههم الكالحة تقتحم علينا حاضرنا فيعبس لمرآها المستقبل.
أما جماهيرهم فإدراكها يقف عند العتبة الأولى للوعي (لدى هيجل)، يلقي "الطفيليات" بأقوالهم إليها، فتشتمها ثم تلتهمها في لامبالاة، ليحيك منها الأرذال الوقحون (النخبة) جرأتهم على التصدر والقيادة.
ولو أدركت ذاتها(2)، لو أدركت أن التاريخ لم يجد بغيرها بديلا لقيادة أمتها، حتى وهي تقف محنية الظهر، مطأطأة الرأس، مقيدة بأغلال المستعمر!، لو أدركت أنه وهو المتحجر قلبه، يتهيب أن يهضم زعامتها، وأن يُعمل فيها منطقه الصارم، لعظم قدرها على الأرض وفي السماء؛ لسقطت على هؤلاء (الذين سمموا بلادنا ببلادتهم، وابتذلو شرفها بصغارهم) من حالق فأنشبت مخالبها في أجسادهم، وانتزعتهم من القمة التي يعتلونها بغير حق، والقمتهم فوهة غضبها بلا شفقة.
ويتسلل من وراء حديثنا السؤال يطلب الإجابة، ما العمل؟.
لا حاجة بنا إلى ذلك الديماجوجي المبتسم في وجوهنا دوما، هذا الذي لا يجيد سوى فن التجميل، بل نحن في حاجة لذلك المتجهم الذي يشهر المبضع في وجوهنا، لتندفع يده بمهارة تستأصل الداء الخبيث. نحن في حاجة إلى صاحب الفكرة المتحمسة، التي لا ترتاح إلا بالعمل، صاحب الروح المتطلعة إلى العلا، التي لا تغفو إلا على منكبي اليقظة، الثائر على الأفكار المبتذلة، والتأكيدات المتملقة، لما يريد العامة والدهماء أو الحكام على السواء.
وإذا كان التماهي والتماثل هو الحاكم للمعادلة السابقة، (الجماهير الغافلة والنخبة الفاشلة) فكيف السبيل إلى التولد والتناسل؟!.
لا يكون الارتفاع هنا بالتركيب، فلا وجود للتناقض، بل يكون عبر الاستثناء، ليس من النخبة العاجزة، حتى عن الحلم؛ لكن تنتقى الاستثناءات من جيل وافد على السياسة، لم تمرضهم الشيخوخة ـ في بلادنا ـ بأمراضها، من فساد وعقم وقلة حيلة، بل أسلمتهم فتونة الشباب لسلسلة أحلام، لا تكاد تفرغ من حلقة حتى تنتقل لأخرى، ليتدفق نبوغهم الفردي ـ إن لم يسد أمامه كل مجرى ـ حماسة جماعية، ويفيض على المجتمع نهاية نهضة وتقدم، وقطعا لن يكون هؤلاء بين الذين توطنوا بأرض النخبة فعاشوا في كنفهم، يرددون أحاديثهم، ويعملون في خدمتهم، ويبجلونهم تبجيل المتصوفة للإله.
المحزن ان تاريخنا يزخر بمصارع هؤلاء(3)، بإماتتنا لهم وهم أحياء، لنحيي الأصاغر من الأنصاف والأشباه، ولو قابلنا بين نتاج هؤلاء وأولئك، لكانت أشبه بالمقابلة بين غادات فاتنات كأبهى ما تكون النساء وبين جثث متعفنة تزكم الفطرة السليمة بروائحها!.
ويبقى المجتمع، نساءه تحوم فوق رؤوسهم تهمة العهر، وان احتجبوا إلا عن حُرمهم وملك الموت، ورجاله قوادون وان خدموا المساجد وترهبنوا في الأديرة، أولسنا أجزاءًا من الكل؛ الدولة، أولم نضبطها بالفعل الفاحش مرات ومرات، قبل "الثورة" وبعدها، وكأي بغي إما أن تنافح عن نفسها فتجهر بالإنكار الوقح، أو يرق صوتها بأحاديث الظروف وقصر اليد والضرورة و...إلخ.
ويبقى الخيار ما بين المصابين بسل الروح ، الذين هم نفي للحياة؛ ووافدين جدد تطوي الفكرة دوما جناحيها داخل فعلهم لتتهشم على أرض الواقع فلا يتعرف عليها أحد.
بيد أن هناك خيار ثالث، من دونه نكون أشبه بغابة كثيفة من الأشجار، وإن تعاظمت كثافتها فلا اخضوضر لها ورق ولا تساقط منها ثمر، فهي عطشى لينبوع يفجر فيها الحياة، وما هو غير الرؤية الكلية، والمعنى، يسطع سطوعًا يخطف إليه الأبصار، ويسري نوره إلى الأرواح، فتتطلع إلى مصدره، إلى العلا، لتتقدم نحوه ويكون خلاصها، ودربه مرهون بمقتفي أثره، من راضوا أنفسهم على قراءة السبيل فى ضوء الرؤية الكلية، والمعنى، لتتدفق فصاحتهم كالنهر تعيد الحياة إلى كل من كان لديه منها بقية.
محمد السيد الطناوي
(1) التفرقة لرائد المقالة الحديثة في أوروبا، ميشيل دي مونتين (1533 ـ 1593).
(2) الدرجة التالية للوعي عند هيجل "الوعي الذاتي".
(3) جمال جمدان نموذجا، وقد اقترن عقوق محيطه الأكاديمي، بقطع للرحم من قبل مجتمعه ، فجهلوه حيا، ولم يكرموه حتى بقراءة مؤلفاته، وعند وفاته كان يسير في جنازته بضع عشرات لا أكثر!.
ساحة النقاش