بسم الله الرحمن الرحيم
صورة الزمن
"يتأمل الشاعر الزمن بوصفه حركة في الأفق المكاني وما يعتري الإنسان من تطور وتغير وصيرورة يتنقل فيها الإنسان من الضعف إلى القوة فالضعف ضعف في طفولته وقوة في رجولته وضعف في شيخوخته غير أن تطورا تصاعديا يرافق هذا التغير , إذ أنه يمر الإنسان بمراحل من النضج كلما تقدمت به السن تطورا نحو الأعمق والأفضل , هذا إذا استثنينا أرذل العمر , فالزمن يترك آثاره على الإنسان من ناحيتين :جسديه وذهنيه أما الجسدية: فتتجلى في تحول جسم الإنسان من الضعف إلى القوة ومن ثم الضعف , وأما الذهنية: فتتبدى في تراكم المعرفة الإنسانية على مستوى الإدراك والخبرة .
فالإحساس بالزمن يمثل بعدا ذاتياً فرديا لدى الإنسان , غير أن الشاعر يختلف في الدرجة أحياناً ,وفي النوع أحياناً أخرى , عن غيره من الناس في تحسسه للزمن , وإذا كان الزمن عند الإنسان العادي يمثل حركه ينتقل فيها من ماض إلى حاضر, فإن الشاعر يتجاوز هذه الحركة الأفقية إلى دلالة ذاتيه متشابكة , أي العمل على إحداث الفعل في الزمان وموقفه إزاءه , وهذا يعني أن الزمن يتحول إلى بعد ذاتي يعيد الشاعر صنعه أو خلقه من جديد .
ولسنا في سياق الحديث عن تجليات الزمن في إطار دلالته النحوية التي يدل عليها الفعل لأن صيغة الفعل الماضي لا تعني دائما أن الحدث قد تم بالماضي ,كما أن استخدام الفعل المضارع لا يعني أن الفعل قد تم في الزمن الحاضر أو أنه سيتم بالمستقبل . فالحديث عن الزمن إنما هو حديث عن مدى إحساس الشاعر بالزمن وتحوله من بعد ذاتي إلى بعد إنساني .
وأول مايبده المتلقي بإحساس الشاعر العربي _ الجاهلي بالزمن هو وقوفه على الأطلال إذ يمثل الطلل مثيرا حاضراً معبراً عن زمن ماض فوقوف امريء القيس في الحاضر على الطلل يدل على حرمانه في الحاضر من التواصل مع حبيبته , أو مع حبيباته ومما يثير الانتباه أن الشاعر يذرف دموعه عند طلل مجدب يخلو من جميع مظاهر الحياة ,نباتيه أو حيوانيه وحتى قيعانه تخلو من المياه , فهناك طلل مجدب , وشاعر يبكي , ورفاق يواسون ويعذلون "
ولنستعرض هنا بعض النصوص الأدبية لمعلقة امرؤ القيس وشرح صورة الزمن بتلك النصوص وسأقتصر على إطالة الشرح بشريحة الأطلال اختصاراً للمقالة .
أولا : مطلع معلقة امرؤ القيس الأبيات من 1_8
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِل"
بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ
فَتُوْضِحَ فَالمِقْراةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُها
لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وشَمْألِ
تَرَى بَعَرَ الأرْآمِ فِي عَرَصَاتِهَـا
وَقِيْعَـانِهَا كَأنَّهُ حَبُّ فُلْفُــلِ
كَأنِّي غَدَاةَ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُـوا
لَدَى سَمُرَاتِ الحَيِّ نَاقِفُ حَنْظَلِ
وُقُوْفاً بِهَا صَحْبِي عَلَّي مَطِيَّهُـمُ
يَقُوْلُوْنَ لاَ تَهْلِكْ أَسَىً وَتَجَمَّـلِ
وإِنَّ شِفـَائِي عَبْـرَةٌ مُهْرَاقَـةٌ
فَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ
كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْلَهَـا
وَجَـارَتِهَا أُمِّ الرَّبَابِ بِمَأْسَـلِ
إِذَا قَامَتَا تَضَوَّعَ المِسْكُ مِنْهُمَـا
نَسِيْمَ الصَّبَا جَاءَتْ بِرَيَّا القَرَنْفُلِ
فَفَاضَتْ دُمُوْعُ العَيْنِ مِنِّي صَبَابَةً
عَلَى النَّحْرِ حَتَّى بَلَّ دَمْعِي مِحْمَلِي"
"يكشف الطلل عن زمانين:حاضر وماض,ولكل منهما دلالته النفسية ففي الزمن الحاضر يتجلى الطلل بخلوه من كل شيء سوى آثار بقايا الظباء فهو مجدب مقفر لا حياة فيه , ويوحي بموعد الرحلة إلى الموت وكأن موت الطلل موت للإنسان إن أثر موت الطلل دفع الشاعر إلى البكاء, وموت الطلل الحاضر يقابله إحساس الشاعر بالأسى ,ومن أجل أن يتجاوز الشاعر ذلك يعمد إلى التشبث بالبقاء وكسر حالة الجدب ولا يتم تجاوز الزمن الحاضر بقسوته المتجلية في الطلل المجدب والحالة النفسية البائسة إلا من خلال استعادة الذكريات أي أنها عودة للماضي في إطار المكان نفسه فهي شكل من أشكال المقارنة بين الزمن الماضي والزمن الحاضر فحاضر لا تواصل فيه وماض تم فيه التواصل .
إن الشاعر بفعله هذا يعمد إلى استحياء الزمن ومحاولة صنعه من جديد ولكنه يصنعه هذه المرة بالحكاية , وكأنه اتخذ الحكاية وسيله لتجسيد الزمن الماضي وتأكيد التواصل ومحاولة الخروج من أزمة الانفصام والأسى وتحقيق شكل من أشكال التفريج عن الانفعال وكما أنه يمثل لونا من التعزية في حاضر قاس مجدب.
فحديث الشاعر عن الطلل يشتمل بعدين :أحدهما يدل على رغبة الشاعر الجامحة للحياة تفاعلاً مع معطياتها وتواصلا مع الآخرين ,وثانيهما :يدل على هروب الشاعر من وطأة الزمن على الأشياء لأن الشاعر يعيش حالة من الخوف والفزع من الهرم وما يعتريه من عوامل الضعف والانقراض لأن الزمن يحول كل شيء من حال إلى حال ,فهذه الصيرورة هي التي دفعت الشاعر – كما أشرت –إلى إعادة الماضي ومحاولة خلقه من جديد من خلال الحكاية
إن إحساس الشاعر بالمكان يلازمه إحساسه بالزمان صحيح أن المفردات الدالة على الزمان في المعلقة أقل من المفردات الدالة على المكان بمقدار النصف تقريبا غير أن هذه لا يقلل من أهمية الزمن في المعلقة لأن الزمن يكتنفها بمقاطعها المتعددة كما أن الإكثار من المفردات الدالة على المكان له ما يبرره عند شاعر بدوي تحيط به الصحراء من كل جانب فضلا عن أن الإحساس بالمكان أقرب وأكثر لصوقاً بالإنسان إذا ما قسنا ذلك بإحساس الإنسان بالزمن الذي يأتي لاحقا."
"نجد القصيدة تدور بين عناصر تعارض رئيسي وهو الزمن الحاضر مقابل الزمن المنقضي وكل ما يتبقى من هذا الزمن المنقضي إنما هو مجرد ذكرى افتراضاً أنها ذكرى السرور واللقيا أما الزمن الحاضر فيكشف عن زمن النحيب والوحدة . فنظرة الشاعر إلى الرسم تتأرجح بين حالتين الدائم في مقابل الزائل و اللازمني في مقابل الخاضع للزمن ويكشف هذا التعارض بين اللازمني والخاضع للزمن عن الجيشان العاطفي والرؤية الوجدانية للشاعر ومع ذلك في ارتقاب للمستقبل ولذلك فإن كلا الحاضر والمستقبل يصبح مصدرا للحزن والتوتر ,فملامح قسم الأطلال تتمثل في حزن الحاضر وغياب المستقبل وتقيم توازناً مع الحاضر الحزين ,وعلى الرغم من سعادة الماضي لدى الشاعر لا تتجسد على أنها توازن للحاضر وحده بل تصبح بدورها مصدراً للتوتر "
"ألاَ رُبَّ يَوْمٍ لَكَ مِنْهُنَّ صَالِـحٍ
وَلاَ سِيَّمَا يَوْمٍ بِدَارَةِ جُلْجُـلِ
ويَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذَارَي مَطِيَّتِـي
فَيَا عَجَباً مِنْ كُوْرِهَا المُتَحَمَّـلِ
فَظَلَّ العَذَارَى يَرْتَمِيْنَ بِلَحْمِهَـا
وشَحْمٍ كَهُدَّابِ الدِّمَقْسِ المُفَتَّـلِ
ويَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْـزَةٍ
فَقَالَتْ لَكَ الوَيْلاَتُ إنَّكَ مُرْجِلِي
تَقُولُ وقَدْ مَالَ الغَبِيْطُ بِنَا مَعـاً
عَقَرْتَ بَعِيْرِي يَا امْرأَ القَيْسِ فَانْزِلِ
فَقُلْتُ لَهَا سِيْرِي وأَرْخِي زِمَامَـهُ
ولاَ تُبْعـِدِيْنِي مِنْ جَنَاكِ المُعَلَّـلِ
فَمِثْلِكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ ومُرْضِـعٍ
فَأَلْهَيْتُهَـا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُحْـوِلِ
إِذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ
بِشَـقٍّ وتَحْتِي شِقُّهَا لَمْ يُحَـوَّلِ
ويَوْماً عَلَى ظَهْرِ الكَثِيْبِ تَعَـذَّرَتْ
عَلَـيَّ وَآلَـتْ حَلْفَةً لم تَحَلَّـلِ"
" الحكاية أداة الشاعر في كسر الزمن الحاضر وإعادة صنع الزمن من جديد ويتجلى هذا بوضوح من خلال التأكيد على الزمن الماضي بذكر مفرداته مثل كلمة يوم الدالة على الماضي , وقد تكررت في الحكاية الأولى خمسه مرات"
"وعندما يبدأ جانبه الباسم بالبيت العاشر (ألا رب يوم لك منهن صالح) يكون هذا الماضي قد يبدو ذلك على الفور محكوم بالتناقضات أو بمعارضة أخرى أساسيه وأكثر حيوية من المعارضة الأصلية وهي الزمن الماضي \الزمن الحاضر تبدأ المعارضة الجديدة لتبلور لتوها علاقات حسية يذكرها الشاعر هي العلاقات التي يتوقع لها أن تكون سعيدة وايجابية كي تتوازن مع الزمن الحاضر .
وهكذا لم يعد الزمن الحاضر متوازنا مع الزمن الماضي وإنما يظهر على النحو التالي :
الزمن الحاضر الزمن الماضي
ويمثل الشكل حقيقة أن الزمن الماضي إنما يصعد التوتر في الزمن الحاضر لأنه زمن مماثل في تعاسته."
ثالثا :المقطع الثالث من معلقة امرؤ القيس الأبيات من 19__43
"أفاطِـمَ مَهْلاً بَعْضَ هَذَا التَّدَلُّـلِ
وإِنْ كُنْتِ قَدْ أزْمَعْتِ صَرْمِي فَأَجْمِلِي
أغَـرَّكِ مِنِّـي أنَّ حُبَّـكِ قَاتِلِـي
وأنَّـكِ مَهْمَا تَأْمُرِي القَلْبَ يَفْعَـلِ
وإِنْ تَكُ قَدْ سَـاءَتْكِ مِنِّي خَلِيقَـةٌ
فَسُلِّـي ثِيَـابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُـلِ
وَمَا ذَرَفَـتْ عَيْنَاكِ إلاَّ لِتَضْرِبِـي
بِسَهْمَيْكِ فِي أعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّـلِ
وبَيْضَـةِ خِدْرٍ لاَ يُرَامُ خِبَاؤُهَـا
تَمَتَّعْتُ مِنْ لَهْوٍ بِهَا غَيْرَ مُعْجَـلِ
تَجَاوَزْتُ أحْرَاساً إِلَيْهَا وَمَعْشَـراً
عَلَّي حِرَاصاً لَوْ يُسِرُّوْنَ مَقْتَلِـي
إِذَا مَا الثُّرَيَّا فِي السَّمَاءِ تَعَرَّضَتْ
تَعَـرُّضَ أَثْنَاءَ الوِشَاحِ المُفَصَّـلِ
فَجِئْتُ وَقَدْ نَضَّتْ لِنَوْمٍ ثِيَابَهَـا
لَـدَى السِّتْرِ إلاَّ لِبْسَةَ المُتَفَضِّـلِ
فَقَالـَتْ : يَمِيْنَ اللهِ مَا لَكَ حِيْلَةٌ
وَمَا إِنْ أَرَى عَنْكَ الغَوَايَةَ تَنْجَلِـي
خَرَجْتُ بِهَا أَمْشِي تَجُرُّ وَرَاءَنَـا
عَلَـى أَثَرَيْنا ذَيْلَ مِرْطٍ مُرَحَّـلِ
فَلَمَّا أجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ وانْتَحَـى
بِنَا بَطْنُ خَبْتٍ ذِي حِقَافٍ عَقَنْقَلِ
هَصَرْتُ بِفَوْدَي رَأْسِهَا فَتَمَايَلَـتْ
عَليَّ هَضِيْمَ الكَشْحِ رَيَّا المُخَلْخَـلِ
مُهَفْهَفَـةٌ بَيْضَـاءُ غَيْرُ مُفَاضَــةٍ
تَرَائِبُهَـا مَصْقُولَةٌ كَالسَّجَنْجَــلِ
كَبِكْرِ المُقَـانَاةِ البَيَاضَ بِصُفْــرَةٍ
غَـذَاهَا نَمِيْرُ المَاءِ غَيْرُ المُحَلَّــلِ
تَـصُدُّ وتُبْدِي عَنْ أسِيْلٍ وَتَتَّقــِي
بِـنَاظِرَةٍ مِنْ وَحْشِ وَجْرَةَ مُطْفِـلِ
وجِـيْدٍ كَجِيْدِ الرِّئْمِ لَيْسَ بِفَاحِـشٍ
إِذَا هِـيَ نَصَّتْـهُ وَلاَ بِمُعَطَّــلِ
وفَـرْعٍ يَزِيْنُ المَتْنَ أسْوَدَ فَاحِــمٍ
أثِيْـثٍ كَقِـنْوِ النَّخْلَةِ المُتَعَثْكِــلِ
غَـدَائِرُهُ مُسْتَشْزِرَاتٌ إلَى العُــلاَ
تَضِلُّ العِقَاصُ فِي مُثَنَّى وَمُرْسَــلِ
وكَشْحٍ لَطِيفٍ كَالجَدِيْلِ مُخَصَّــرٍ
وسَـاقٍ كَأُنْبُوبِ السَّقِيِّ المُذَلَّــلِ
وتُضْحِي فَتِيْتُ المِسْكِ فَوْقَ فِراشِهَـا
نَئُوْمُ الضَّحَى لَمْ تَنْتَطِقْ عَنْ تَفَضُّـلِ
وتَعْطُـو بِرَخْصٍ غَيْرَ شَثْنٍ كَأَنَّــهُ
أَسَارِيْعُ ظَبْيٍ أَوْ مَسَاويْكُ إِسْحِـلِ
تُضِـيءُ الظَّلامَ بِالعِشَاءِ كَأَنَّهَــا
مَنَـارَةُ مُمْسَى رَاهِـبٍ مُتَبَتِّــلِ
إِلَى مِثْلِهَـا يَرْنُو الحَلِيْمُ صَبَابَــةً
إِذَا مَا اسْبَكَرَّتْ بَيْنَ دِرْعٍ ومِجْـوَلِ
تَسَلَّتْ عَمَايَاتُ الرِّجَالِ عَنْ الصِّبَـا
ولَيْـسَ فُؤَادِي عَنْ هَوَاكِ بِمُنْسَـلِ
ألاَّ رُبَّ خَصْمٍ فِيْكِ أَلْوَى رَدَدْتُـهُ
نَصِيْـحٍ عَلَى تَعْذَالِهِ غَيْرِ مُؤْتَــلِ"
" ومن الجدير بالذكر أن الشاعر عمد هنا القصة الشعرية التي تتجلى فيها نزعته العابثة فالوقوف على الطلل كان مثيرا دفع إلى ثلاث حكايات متعددة تؤكد التواصل في الماضي ويمكن توضيح ذلك بالنحو التالي
المثير الأول :الطلل
نوعه:مكاني
علاقته:جدب
الزمن:الانفصام
التجاوز:الحكاية
الحكاية الأولى :الأبيات 9_14
الحكاية الثانية :الأبيات 15_21
الحكاية الثالثة :الأبيات22_30
لوحة مثال الجمال للمرأة
الأبيات:31_40
الزمن :الماضي
لدلالة :التواصل
ولم يكتف الشاعر بحكايته مع عنيزه بل تجاوزها إلى حكاية أخرى مع فاطمة التي تبدو متأبية على الشاعر بتدللها وتمنعها .
ومما يثير الانتباه أن عدد الأفعال التي استخدمها الشاعر في البداية الطللية اثنتا عشر فعلا في ثمانية أبيات بينما عدد الأفعال التي استخدمها الشاعر في هذه الأبيات السابقة بلغ تسعة وستين في خمسة وثلاثين بيتاً وهذا يعني أن نسبة الأفعال في مغامرته العاطفية أكثر من المقطع الطللي بنسبة النصف تقريبا وإذا كان الفعل بطبيعته يدل على الحدث والحركة فإن هذا يدل على أن معلقة امرؤ القيس تبدأ حركتها بشكل تصاعدي أي الانتقال من الحركة الهادئة البسيطة إلى الحركة المتوثبة في القسم الخاص بالتجاوز بالحكايات الثلاث.
فمعلقة امرؤ القيس قد بدأت بالوقوف على الطلل كإثارة للشاعر ويدل على الزمن الحاضر بما يشتمل عليه من انفصام وجدب ويبعث كسر الحاضر بالعودة للماضي ومحاولة صنعه من جديد بالحكاية وكأن الطلل موجة سالبه بالقصيدة يتبعها رد فعل ايجابي يتجلى في ثلاثة حكايات تحاول كسر الموجة السالبة ."
رابعاً: تكملة معلقة امرؤ القيس الأبيات من 44__48
"ولَيْلٍ كَمَوْجِ البَحْرِ أَرْخَى سُدُوْلَــهُ
عَلَيَّ بِأَنْـوَاعِ الهُـمُوْمِ لِيَبْتَلِــي
فَقُلْـتُ لَهُ لَمَّا تَمَطَّـى بِصُلْبِــهِ
وأَرْدَفَ أَعْجَـازاً وَنَاءَ بِكَلْكَــلِ
ألاَ أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيْلُ ألاَ انْجَلِــي
بِصُبْحٍ وَمَا الإصْبَاحُ منِكَ بِأَمْثَــلِ
فَيَــا لَكَ مَنْ لَيْلٍ كَأنَّ نُجُومَـهُ
بِـأَمْرَاسِ كَتَّانٍ إِلَى صُمِّ جَنْــدَلِ"
" يعود الشاعر واقفا أمام موجة سالبة أخرى تتبدى في الليل وهو مثير آخر للأحزان مثير كائن في الزمن الحاضر وإذا كان الطلل يمثل مكانا يواجه الشاعر ويعمد إلى محاصرته وكسره بصنع الحكاية وإعادة خلقها فالليل يمثل زمانا يحاصر الشاعر من عدة جوانب
لقد مر وصف الليل عند امرؤ القيس بخمس حالات أولها الرهبة والخوف وثانيها
الإحاطة والشمول وثالثهما السحق والتدمير ورابعها الصراخ باليأس وخامسها الاستسلام .
إن مشهد الطلل ووصف الليل بوصفهما يعبران عن الحاضر والانفصام عن مشهد التواصل في الزمن الماضي مع حكايات امرؤ القيس الغرامية الفاضحة والتي تتميز بقدر أكبر من الحركة والحياة والحيوية ويعيش بها الشاعر تواصلا مع الآخر وتفاعلا واياه ."
خامساً:تكملة معلقة امرؤ القيس الأبيات من50__52
"وقِـرْبَةِ أَقْـوَامٍ جَعَلْتُ عِصَامَهَــا
عَلَى كَاهِـلٍ مِنِّي ذَلُوْلٍ مُرَحَّــلِ
وَوَادٍ كَجَـوْفِ العَيْرِ قَفْرٍ قَطَعْتُــهُ
بِـهِ الذِّئْبُ يَعْوِي كَالخَلِيْعِ المُعَيَّــلِ
فَقُلْـتُ لَهُ لَمَّا عَوَى : إِنَّ شَأْنَنَــا
قَلِيْلُ الغِنَى إِنْ كُنْتَ لَمَّا تَمَــوَّلِ
كِــلاَنَا إِذَا مَا نَالَ شَيْئَـاً أَفَاتَـهُ
ومَنْ يَحْتَرِثْ حَرْثِي وحَرْثَكَ يَهْـزَلِ"
"ولا تقتصر تجربة امرؤ القيس في الحاضر الدال على الانفصام على الطلل المجدب المقفر أو على الليل الذي يسحق الشاعر بل يتجاوز ذلك إلى رحلة في واد مقفر يشبه جوف الحمار الوحشي ويشبه وحدته بوحدة الذئب الذي يعوي ويبحث عن قوته وطعامه فعزل الشاعر من قبيلته لون من ألوان الانفصام الاجتماعي ومن هنا نعرف أن حاضر امرؤ القيس كان سيئا بائسا فإنه هو والذئب أتلفوا ما كان لديهم بالزمن الماضي وتتجلى ذلك بقول الشاعر كلانا وشئننا .
قد بدأ امرؤ القيس معلقته بالمكان الذي يكتنفه الماضي الذي تم فيه التواصل والزمن الحاضر الذي تم فيه الانفصام فبذلك عمد على كسر الحاضر بالعودة إلى الماضي كما أنه عني بالزمان أثناء تأمله المعاناة المفردة القاسية بالليل وأردفها في حالة الغربة التي يعيشها في واد مقفر مما يدفع إلى كسر الحاضر "
"مما سبق نستنتج أن الليل هو المثير الثاني ويتبعه غربة الشاعر وانفراده بواد مقفر على النحو التالي :
المثير الثاني :الليل
نوعه:زماني
علاقته:احاطه
الزمن:الحاضر
دلالته:الانفصام
المثير الثالث:الوادي المقفر
نوعه:مكاني
علاقته:الغربة
الزمن:الحاضر
دلالته:الانفصام"
وبذلك نرى انه"تحكمت بمعلقة امرؤ القيس ثنائيتان ثنائية الحاضر\الإنفصام وثنائية الماضي\التواصل ولذلك تجلى الإنفصام في الحاضر بالوقوف على الطلل ووصف الليل وبالتواصل في الماضي بحكايات الشاعر ومغامراته"
ساحة النقاش