فى المسرح التقليدى، وفى مسلسلاتنا الدينية يسعى المؤلفون والمخرجون إلى اللعب على تيمة الصراع بين الخير والشر، هناك دائما شر مطلق يمثله أشخاص يلبسون السواد ويسعون إلى تدمير الأرض بمن عليها، وهناك خير مطلق يمثله أشخاص يلبسون الأبيض ويسعون إلى إنقاذ الأرض بمن عليها، وكلاهما فى مسرحنا التقليدى ومسلسلاتنا الدينية زاعقان متشنجان، لكن الخير دائما يقضى على الشر ويصرعه بعد فاصل من القتال المرير يكفى لحبس أنفاس المتفرجين الذين لا يرضون إلا بالصراع الدامى، يزعقون مع الأبطال الأخيار ويبكون لجراحهم وينتشون عندما يخرجون منتصرين فى النهاية، فيتصورون أن دموعهم وصيحات انتصارهم أمام المسرحية أو المسلسل كافية لحل جميع المشكلات فى الواقع، ولم لا وقد تولى عنهم البطل الخير كل العبء وقتل الشرير المتسبب فى كل المشاكل والمصائب، وهذا ما يعرف لدى نقاد المسرح بالتطهير.
تذكرت نظرية التطهير تلك فى محاولة للإجابة عن سؤال: لماذا ينال أحمد عز النصيب الأكبر من الهجوم المشروع أحيانا وغير المشروع وغير العفيف أحيانا كثيرة أخرى؟ حتى تصورت فى لحظة أن البعض قد يرمى عليه الجمرات فى موسم الحج على اعتبار أنه الشيطان الأكبر، ويعود مطمئنا إلى سلامة حجه واكتمال أركانه.
والغريب أن الهجوم على أحمد عز، قد أصبح شائعا ومكررا ومتشابها لدرجة الملل الذى يدفع للتعاطف مع الرجل من باب الطرافة، أو من باب المخالفة، أو من باب التفكير لأى صاحب عقل مازال يعمل ويسأل: هل معقول أن يكون رجل واحد وجبة دائمة فى كل الجرائد اليومية والأسبوعية؟ «هو كل يوم عز عز مفيش سرور»، بل إن الهجوم الشنيع والوقح أحيانا أخرى على إمبراطور الحديد، ربما يدفع بعض العقلاء إلى التفكير فى منطق المهاجمين أنفسهم الذين ينزلقون إلى الإسفاف والشتائم بدلا من أن يرتفعوا إلى النقد بهدف الإصلاح، فيدفعوننا إلى الإعجاب بهذا الرجل النحيف ذى الأناقة الإيطالية والكرافتات العريضة.
لفت نظرى أن كثيرين من الذين يهاجمون عز، يخاطبونه كما لو كان معارضا سابقا يرجون استتابته، أو اشتراكيا سابقا يرجون له العودة عن طريق الرأسمالية والتكفير عن أرباحه بتأسيس قطاع عام بدلا من الذى باعته الحكومة.
ومن الغرائب والطرائف مثلا أن يهاجم البعض أحمد عز متهمين إياه بالتحكم فى أعضاء الأغلبية البرلمانية، وأنهم رهن إشارته إذا قال لهم «يمين» يتجهون للموافقة وإذا قال «شمال» يرفضون، وينسون أن عز هو أمين التنظيم فى الحزب الوطنى الحاكم، والمسئول عن ضبط إيقاع الأغلبية فى مجلس الشعب، ولا ينتظر منه إطلاقا أن يتحرك من موقع المعارضة أو من موقع المستقلين أو من موقع الإخوان، وأن من ينتظر منه ذلك إما أنه لا يستطيع الحكم على الأمور أو يستخف بعقولنا، أو هو الاثنان معا بعد أن انجرف فى تيار العنتريات المجانية.
ومن الغرائب أيضا الهجوم على «عز» باعتباره مسئولا وحده عن ارتفاع أسعار الحديد، وأنه المتسبب فى أزمة الإسكان، واكتفى المهاجمون بالعبارات النارية التى تعتبره العدو الأول والمجرم الأكبر.. إلخ، وينسون أن القضية فى الحديد وفى غيره هى قضية نظام اقتصادى وسياسات مرتجلة عشوائية قفزت دون تخطيط كاف من الاقتصاد الموجه الذى كان «حضانة» لحيتان الفساد، إلى مناخ الانفتاح السداح مداح الذى كان العصر الذهبى لهؤلاء الحيتان، كبروا وأنجبوا ذرية كبيرة وضعت أيديها على مفاصل الاقتصاد المصرى، وعندما قبل المسئولون مهرولين روشتة صندوق النقد الدولى والخصخصة غير الرشيدة تحت شعار «بيع بأى ثمن وبأى سعر ولأى أحد» استمر مناخ العشوائية والهرجلة فى صيغة أخرى، لكنها لم تكن جديدة علينا، وأن ضبط هذا المناخ لخدمة الصالح العام لا يمكن أن يتم بمجرد تحويل أحمد عز إلى الشيطان الرجيم!
لكن يبدو أن هناك نزوعا لدى كثيرين للاكتفاء بلطم الخدود واختزال القضايا والمشاكل فى صورة شخص يتم تحويله إلى شيطان وتصوير أن القضاء عليه سوف يحل كل مشاكلنا، وهذه سمة التفكير البدائى الذى يلجأ للتبسيط ولا يسعى لتقديم حل لمشكلة ولا التصدى لقضية، بقدر السعى للإثارة وتبرئة الذمة زورا وبهتانا.
أحمد عز ليس الشيطان الذى إذا أزحناه من طريقنا يتم حل جميع مشاكلنا فى الحديد وفى السياسة، لأن هناك من ربحوا من تجارة الحديد أكثر منه، قياسا إلى أسعارهم التى باعوا بها محسوبة على حجم شركاتهم فى السوق، وهناك اللاعبون الأقدم منه فى ميدان السياسة، والمراوحون غيره بين البيزنس والبرلمان والسياسات، تماما مثلما غابت أو كادت أن تغيب الحدود بين السلطات الثلاث، السلطة التشريعية التى يفترض أنها تملك صلاحية سن التشريعات، والسلطة القضائية التى تملك حق تفسير القانون، والسلطة التنفيذية التى يفترض أنها تملك صلاحية تطبيق القانون.
ظل أحمد عز هو الشيطان الرجيم عندما ارتفع سعر الحديد إلى 7 آلاف جنيه، كما ظل فى موضعه عندما نزل سعر الحديد عن حاجز الـ3 آلاف جنيه، وحتى عندما تم الإعلان عن أن شركته استوردت حديدا من تركيا، جاء ذلك كأنه يسعى إلى تخريب سوق الحديد، رغم أنه لم يكن بالقطع أول المستوردين، ولم يلتفت أصحاب الفكر التبسيطى إلى الإجراءات التى تم اتخاذها لضبط سوق الحديد، والتى نفت بعد نجاحها شبهات الاحتكار عن عز بصورة أقوى مما أعلنها جهاز منع الاحتكار، لكن الغريب أنه لا أحد التفت إلى تجربة ضبط سوق الحديد من باب إمكانية إطلاق مبادرة أو تفعيل سياسات يمكن لها خدمة المجموع، وعدم الاكتفاء بالنواح والعويل وتصوير الصورة على أنها سوداء قاتمة، فى سوق الحديد أو فى الثقافة، فى ميدان السياسة أو بين منظمات المجتمع المدنى، فى التجارة الخارجية أو التعليم.
لست ضد الهجوم على أحمد عز أو على غيره من قيادات الحزب الوطنى، ولكن أطالب بتحويل 10 % من هذا الهجوم، خصوصا غير العفيف منه والذى يمس الأعراض أو يتطرق للحياة الشخصية، إلى مبادرات وأفكار يمكن تطبيقها بين الناس، لتحسين الواقع المثقل بالفقر والمشاكل، كبداية للتخلص من نظرية التطهير واحتراف النضال بالشتائم.
نشرت فى 16 إبريل 2011
بواسطة themonster
علي غانم
أقسام الموقع
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
33,623
ساحة النقاش