لمحات تغذوية في الكتاب الكريم والسنة النبوية
جاء الإسلام في فترة ساد فيه الظلام والجهل، والبعد عن المنهج السليم في التعامل مع مفردات الحياة ومكنونات الكون الرحيب، بما فيه من نعم وخيرات وهبها الله عزوجل للإنسان حتى يتمكن -من خلالها -من إعمار الأرض والقيام بواجب الاستخلاف ، فأبان سبيل العلم وحفز الإنسان إلى الكشف عن مكنونات الأرض وسبر أغوارها، وأسس المنهج التجريبي في البحث العلمي، الذي كان النواةالأولى والأساس المتين الذي قامت عليه الحضارة الإسلامية العالمية، ومن بعدها المدنية الغربية التي نعيش اليوم آثارها.
لقد كانت إسهامات الحضارة الإسلامية كبيرة وشاملة، وسعت ميادين الحياة العلمي ة والعملية، وقد حظي جانب الزراعة والغذاء بسهم كبير وحظ وافر منها، كيف لا؟ وآيات القرآن الكريم قد حفلت بذكر العديد من أنواع الغذاء، من الخضار والفاكهة والمحاصيل الحقلية والماشية، وبنوع من التفصيل، فقد ورد ذكر التمر والزيتون والعنب والتين والقثاء، وهو الفقوس ، والفوم، أي الثوم، والبصل والقمح والعسل واللبن، ومن الأغذية الحيوانية ورد ذكرالطيور والماشية وما سواها، وقد جسدت وقائع وأحداث سورة يوسف –عليه السلام - بعض موارد الأغذية بشكل مؤثر وعاطفي .
وفيما يلي بعض تلك اللمحات التي وردت في كتاب الله - تبارك وتعالى - وأسهمت في تطوير الحس التغذوي لدى المسلمين :
أولاً: الأمن الغذائي في الإسلام
لقد لفت القرآن الكريم أنظار البشرية إلى أهمية الغذاء في حياة الأمم والشعوب ، وذلك من خلال ربطه بالأمن والاستقرار السياسي. وقد تجلى ذلك المعنى من خلال سورة قريش، حيث أمتن الله عز وجل على قريش بما أفاء عليهم من نعمة الأمن الغذائي {الَّذِي أطعمهم من جوع } ونعمة الأمن والاستقرار السياسي { وآمنهم من خوف} وجعل ذلك من النعم العظيمة التي تستحق الشكر والعبادة لله عز وجل ولا يجوز أن تقابل بالنكران.
( {الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (قريش : 4 )
ولم تغفل السنة النبوية ذكر أهمية الأمن الغذائي في حياة الفرد والجماعة ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ركناً ثالثاً من أركان الحياة الآمنة المستقرة " من أصبح منكم اليوم آمنا في سربه معافىً في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بما فيها" رواه الترمذي عن عبيد الله بن حفص الانصاري (1). كما تجلت نظرة الإسلام إلى الأمن الغذائي في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم من خلال أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإنشاء سوق خاص بالمسلمين وذلك عند قدومه المدينة ، حيث كان سوق المدينة محصورا بأيدي يهود ، مما يشكل تهديدا لأمن المسلمين الاقتصادي والغذائي، ومن ثم السياسي. وقد عمل الإسلام على وضع الأسس النظرية لتحقيق الأمن الغذائي من خلال حث النبي صلى عليه وسلم على الزراعة وإعمار الأرض وإحياء الموات من الأرض بالزراعة " من أحيا أرضا مواتا فهي له " رواه الترمذي ، " (2) إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل" رواه أحمد عن أنس بن مالك.
فالأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي من الغذاء شرط لازم لحفظ كرامة الأمة وصيانة وحدتها وحماية ديارها ؛ ولدرء تحكم الأعداء في مقدراتهاا وتدخلهم في قرارتهاا وسياستهاا. ولا أدل على ذلك ما نعايشه في هذا العصر، إذ نتج عن العجز في تحقيق الأمن الغذائي لدى الدول العربية والإسلامية إلى اعتمادها على الدول الغربية في توفير غذائها الأساسي (وخاصة القمح)، والذي أدى بدوره إلى استلاب كرامة الأمة وارتهاان إرادتها تحت ضغط الدول الكبرى المصدرة للغذاء، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، المصدر الأهم للقمح في العالم. ويقدر حجم الواردات إلى العالم العربي (لوحده) من الغذاء في عام 2000 م ب 35 مليار دولار، في الوقت الذي تقدر به المساحات المزروعة في العالم الإسلامي بنحو 400 مليون فدان، وهي تشكل 11 % من مساحة الأراضي المزروعة في العالم، وفي الوقت الذي تقدر به نسبة العاملين بالزراعة في الدول النامية (ومعظمها من الدول الإسلامية) بين 70 إلى 85 % من مجموع القوى العاملة، في حين لا يتعدى هذا الرقم 4 إلى 10 % في البلدان المتقدمة. ومن المفارقات المحزنة والمفجعة أنه في الوقت الذي يشكل فيه سكان الولايات المتحدة الأمريكية 7% من سكان العالم، فإنهم ينتجون 50 % من الغذاء في العالم(3).
وتعد سورة يوسف – عليه السلام – من أكثر السور وضوحا ودلالة في عرض مسألة الأمن الغذائي، وقد تجلى ذلك في قصة سيدنا يوسف – عليه السلام- مع عزيز مصر والرؤيا التي رآها في منامه. فقد أشارت الآيات الكريمة إلى أهمية حفظ الغذاء وتخزينه بطرق مناسبة تمنع فساده، وإلى أهمية الإنتاج الزراعي في توفير الأمن الغذائي، وإلى ضرورة ترشيد الاستهلاك الغذائي، وعدم الإسراف به بما يتلاءم واحتياجات السكان ، وبما يمنع حدوث اذاعة ونقص الغذاء، ووفق خطة مدروسة لاستهلاك المخزون الغذائي على مدى سنوات القحط والجفاف: { قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (يوسف : 47 ) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (يوسف : 48 ) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (يوسف : 49 ). وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى السبق الحضاري والإعجاز العلمي في الآيات المذكورة، إذ - قصة يوسف أشارت إلى حفظ القمح في سنبله . وقد دلت الدراسات العلمية الحديثة أن الحفظ هذه الطريقة يعد من أكثر الوسائل نجاحا ونجاعة في حفظ القمح ، حيث تعمل القشور المحيطة بحبوب القمح في السنبلة على منع مهاجمته من قبل الحشرات الضارة والمؤثرات الجوية الخارجية.
ثانياً: ضبط جودة الغذاء في الإسلام
يعد الغذاء من أكثر المواد عرضة للفساد، نظراً لما يحتويه من الرطوبة والعناصر الغذائية اللازمة لنمو الأحياء الدقيقة، وذلك في حال عدم تخزينه في ظروف جيدة .
وقد احتوت بعض آيات القرآن الكريم إشارات ضمنية إلى مشكلة فساد الغذاء واحتمال تغير صفاته من لون أو طعم. فقد ورد في سورة البقرة في الآية ( 259 ) في معرض قصة صاحب القرية المهجورة { أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (البقرة : 259 ) ، وفي قوله تعالى : { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ (محمد : 15 ) . فأسن الماء وتغير طعم اللبن كلها مؤشرات على فساد الغذاء.
وقد شدد القرآن الكريم على ضرورة إحسان اختيار الغذاء والتأكد من خلوه من الآفات عند التصدق به للفقراء والمحتاجين ، فقال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (البقرة : 267 ) . كما أشار القرآن الكريم إلى أن الغذاء المتوافر يتفاوت في مدى جودته وسلامته وصلاحيته ، ووجه إلى الاهتمام باختيار الغذاء المتناول، وذلك في قوله تعالى: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (الكهف : 19 ).
أما السنة النبوية ، فقد حفلت بالأدلة على ضرورة الحفاظ على سلامة الغذاء وجودته ومنع غشه والتغرير به ، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه مر ذات يوم على رجل يبيع طعاماً، فوضع صلى الله عليه وسلم كفه الشريف أسفل منه فوجده مبلولاً فسأل البائع عن ذلك فقال: أصابته السماء (أي المطر) ، فقال صلى الله عليه وسلم : " من غش فليس منا " رواه مسلم وابن ماجة والدارمي (4) ، كما نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر(5) (وهو ما كان ظاهره يغري المشتري وباطنه مجهول) رواه الترمذي وابن ماجة واحمد والدارمي وأخرجه مسلم ، كما نهى عن الملامسة والمنابذة (الشراء دون التعرف على السلعة المطلوب شراؤها)(6).
وفي سيرة الخلفاء الراشدين ، كان في قصة صاحبة اللبن التي أرادت أن تخلطه بالماء خير دليل على حرص المسلمين آنذاك على عدم الغش، إذ كافأ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ابنة صاحبة اللبن على رفضها الغش بأن زوجها من أحد أبنائه ، وكان أن خرج من نسلهما خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
ثالثاً: نظرة الإسلام إلى الغذاء والتغذية
لما كانت الزراعة ضرورية لتوفير الغذاء وتأمين احتياجات الإنسان منه، فقد حث الإسلام على الاهتمام بالزراعة باعتبارها الركيزة الأساسية في بناء الاقتصاد القوي وتأمين الحياة الكريمة، وباعتبارها المصدر الأساسي والرئيس في توفير الغذاء ، فقال صلى الله عليه وسلم : "لا يغرس المسلم غرسا ولا يزرع زرعا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شيء إلا كانت له صدقة". رواه مسلم عن جابر بن عبد الله، وقال عليه الصلاة والسلام : " إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل " رواه أحمد عن أنس بن مالك.
كما حث الإسلام على تنمية القطاع الزراعي وزيادة رقعته من خلال حثه على إعمار الأرض البوار واستصلاحها بالزراعة ، فقال عليه الصلاة والسلام : " من أحيا أرضا ميتة فهي له" ، رواه الترمذي عن جابر بن عبد الله، وقد نهى الإسلام عن كل ما يؤدي إلى الضرر بالقطاع الزراعي ويتسبب في الإخلال بالأمن الغذائي ، ( فقال عليه الصلاة والسلام : "من قطع سدرة صوب الله رأسه بالنار" (7)، رواه أبو داود عن عبد الله بن حبشي (8).
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى من خلال آيه عن الفساد والإفساد في الأرض، والذي يتضمن الإضرار بالثروة الحيوانية والنباتية ، فقال تبارك وتعالى:
وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (البقرة : 204 ) . وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ (البقرة : 205 )
ونظرا لما يتطلبه الحصول على الغذاء من بذل للجهد والوقت ، ولما يحتاجه من تطوير لأساليب العمل والإنتاج والتصنيع، ومنه الإنتاج والتصنيع الزراعي، فقد حث الإسلام على العمل والاحتراف والكسب الحلال الطيب، لقوله صلى الله عليه وسلم : " خير الكسب كسب يد العامل إذا نصح" رواه أحمد عن أبي هريرة (9)، وقال عليه الصلاة والسلام حاثا على الأكل من كسب اليد الحلال: " ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده ، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده" ، رواه البخاري. وقد دلت الآية الكريمة على ضرورة السعي في طلب الرزق والسير في الأرض وبذل الجهد في سبيل تأمين الرزق ، فقال جل من قائل: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (الملك : 15 )
وقد حث الإسلام أتباعه على الانتفاع بما خلق الله لعباده من الطيبات بغية التعرف على نعم الله وعطاياه ، والتي من أظهرها أنواع الطعام المختلفة ، قال جل وعلا : وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (الأعراف : 10 )، وقال عز من قائل : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (البقرة : 172 )
وحرم الإسلام على أتباعه حرمان أنفسهم من التمتع والتلذذ بطيبات ما أحل لهم من الرزق فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (المائدة : 87 )، وبين أن في ذلك تعديا على حدود الله وتجاوزا لأوامره ، فقال جل وعلا في آخر الآية : { ولا تعتدوا ، إن الله لا يحب المعتدين} . وقال
جل من قائل: وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ (المائدة : 88 ). وفي الربط ما بين التقوى والأكل من رزق الله دليل واضح وصريح على ضرورة الالتزام بمنهج الله وتطبيق أوامره واجتناب نواهيه فيما يتعلق بالحصول على الغذاء وتناوله ، والتأكيد على ضرورة الحرص على الحلال وتجنب الحرام، لما لذلك من
تأثير كبير على حياة الإنسان وسلوكه ومعاشه.
رابعا: فلسفة التغذية في الإسلام
لقد ربط الإسلام كل عمل يقوم به المسلم في حياته بغاية عظمى وهدف سام يعيش له المسلم ويحيا من أجله، ألا وهو تحقيق العبودية لله عز وجل، قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (الأنعام : 162 ). وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (البينة : 5 )
والتغذية مفردة من مفردات حياة الإنسان المسلم غايتها التقوي على طاعة الله والاستعانة إذا الغذاء في توفير الطاقة اللازمة للجسم وللمحافظة على صحته بما يضمن بقاءه واستمراره على تأدية الواجبات والقيام بحقوق العبودية لله عز وجل وإعمار الأرض وفق منهج الله ، وهذا ما دل عليه أحد السلف الصالح رضوان الله عليهم حين قال : " إني لأحتسب لله أكلتي وشربتي كما أحتسب نومتي وقومتي" . وقد كان لهذه الفلسفة الأثر الكبير في ترشيد نظرة المسلم للغذاء وترشيد التعامل معه، فهو يعتبره وسيلة لا غاية يجهد من أجلها وفي سبيل تحقيقها إشباعا لرغباته وشهوات نفسه ، وهو بذلك يضمن لنفسه أن يجنبها غوائل الإسراف والتبذير في طلب الطعام وتناوله ويكون بذلك قد أعفى نفسه من الكثير من المشكلات الصحية . وفي هذا المعنى يصدق حديث النبي صلى الله عليه وسلم : " تعس عبد الدرهم ، تعس عبد الدينار، وتعس عبد القطيفة ، تعس عبد الخبيصة ( وهي نوع من أنواع الطعام) ، تعس وانتكس ، وإذا شيك فلا انتقش"(10) ، وهذا دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم وعلى من يجعل جل همه وتفكيره في إشباع رغبات نفسه وشهوتها.
وبما أن الإسلام قد أوجب على اتباعه حفظ أجسامهم وتجنبها كل ما يؤذيها ويلحق الضرر قال تعالى : وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (النساء : 29 )، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا ضرر ولا ضرار" (11)،وقوله : "إن لجسدك عليك حقا" (12) ، فقد أصبح تباعاً من الواجب شرعاً على المسلم أن يعتني بغذائه وأن يحرص على تلبية احتياجات جسمه من جميع العناصر الغذائية التي يضمن توفرها الإبقاء على الجسم صحيحاً سليماً بعيداً عن الأدواء والأمراض، وكذلك الحرص على تجنب الأغذية الضارة التي تسبب المشكلات الصحية والأمراض للجسم.
خامساً: إسهام الحضارة الإسلامية في مجال علوم الغذاء والتغذية :
انعكست نظرة المسلم إلى الغذاء على حياة العرب في صدر الإسلام ، إذ لم يهتم العرب كثيرا في تحسين وتطوير أطعمتهم ، ولم يعرف عنهم التفنن في ذلك، بل سلكوا أسلوب التقليد للأمم والشعوب الأخرى التي دخلت الإسلام فيما بعد، فكان أن تعرف العرب على تقاليد هذه الأمم والشعوب في تحضير الأطعمة والوجبات، وكان أن انتقلت إليهم العديد من الأكلات والوجبات التي ما زالت تحتفظ بأسمائها غير العربية حتى يومنا هذا ، مثل :
( الكباب والبرياني والقوزي والبرغل والطرشي والشركسي والكشري والمعكرونة وغيرها من الأطعمة والأغذية(13) . ومع مرور الوقت، واتساع رقعة الأقطار الإسلامية ، أصبح لدى علماء المسلمين اهتماما متزايدا في تدبير الأطعمة وعادتها وآدابها، فكان أن ظهرت بعض الكتب التي تهتم بهذا الشأن ، مثل كتاب (الولائم) لشمس الدين 1546 ) ، وكتاب ( آداب الأكل) لابن عماد الأفقهسي - محمد بن علي بن طولون الدمشقي (14)، وكتاب (تدبير الأطعمة) للكندي ( 801 ).
ولم يقتصر إسهام الحضارة الإسلامية على تدبير شؤون الغذاء وعاداته فحسب، بل كان لها الأثر الأبرز في تطويرالمفاهيم الغذائية والتغذوية والصحية ، وفي تكوين السلوك التغذوي السليم وإبراز الغذاء كعامل مهم في صحة الإنسان ، وهو ما كان يشكل سبقاً حضارياً وإعجازاً علمياً يؤكد صدق النبوة والرسالة المحمدية.
فقد حثت آيات القرآن الكريم على عدم التبذير والإسراف في تناول الطعام، وعلى سلوك منهج التوسط والاعتدال في كل شؤون الحياة، فقال جل وعلا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً (البقرة : 143 ) ، وقال عز من قائل:{ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (الرحمن : 9 ) وأفردت آيات القرآن الكريم مساحة خاصة للغذاء، وإلى ضرورة ترشيد استعماله وعدم الإفراط به، فقال عز وجل: { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (الأعراف : 31 ).
وقد ورد في السنة النبوية بالأدلة الموجهة إلى النهي عن الإكثار والإفراط في تناول الطعام والشراب، فقال صلى الله عليه وسلم : " ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه ، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن أوده، فإن كان لا بد فاعل فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه" (15).
وقد جاءت الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة بتخصيص ذكر الأطعمة كاللحوم والتمر والعسل واللبن وتبيان أهميتها وفائدتهاا الصحية والتغذوية ، فقال جل وعلا مبينا أهمية العسل الصحية : {فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (النحل : 69 ) ، وقال صلى عليه الله عليه وسلم منبها إلى أهمية التمر الغذائية : " بيت لا تمر فيه جياع أهله" رواه مسلم وأحمد ، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا شرب اللبن (الحليب) قال : " اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه. وكان إذا أكل أو شرب غيره من الأغذية قال : " الله بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه" (16)، وغيرها من الدلائل الكثيرة التي تظهر علاقة الغذاء بصحة الجسم وحيويته، وتبرز دور الغذاء في علاج الأمراض والوقاية منها .
ونتيجة لتلقي المسلمين واستيعابهم للهدي الرباني والنبوي المتعلق بالغذاء ودوره في الصحة والمرض، فقد غدت المعالجة بالأغذية من أهم أسس العلاج الطبي لكثير من الأمراض مستشفيات الحواضر الإسلامية في العصرين 932 ) وابن سينا - الأموي والعباسي. ( 5) ، وجاء تخصيص الأغذية في كتب الأطباء المسلمين ، كالرازي ( 850
1037-980 ) ، وقد لخص ابن سينا كتاب (القانون في الطب) في منظومته المشهورة " الأرجوزة في الطب" ) والتي أظهر فيها اهتمامه الكبير بالأغذية والمعالجة ، ومن الأمثلة على الكتب الأخرى التي ألفها العلماء المسلمون 857 ) وكتاب (تدبير الأصحاء بالمطعم والمشرب) لحنين ابن - في التغذية كتاب (الأشربة) لابن ماسويه ( 777-857 ) و(الأرجوزة في الحميات) لابن عزروت و (الأرجوزة في الأغذية والترياق) للسان الدين ابن - اسحق ( 809- 1375- الخطيب ( 1313)
لمحات تغذوية في الكتاب الكريم والسنة النبوية
إعداد: "معز الإسلام" عزت فارس
ماجستير تغذية الإنسان
قسم التغذية-كلية الصيدلة والعلوم الطبية المساندة-جامعة البترا الأردنية
[email protected]
الأحاديث من تحقيق زياد ابو رجائي - شبكة المنهاج الاسلامية
(1) قال الالباني في السلسة الصحيحة ( حسن بمجموع حديثي الأنصاري وابن عمر ) ( 2318 )، ابن ماجة ( 4141 ) ، صحيح الجامع( 6042 ) ( 6042 ) .
(2) ( حسن ) انظر حديث رقم : 2766 في صحيح الجامع .
(3) أضواء على مشكلة الغذاء بالمنطقة العربية ، دار الكتب القطرية ، وزارة الأوقاف القطرية ، 1999 ، (كتاب الأمة 68).
(4) صحيح ، ابن ماجة ( 2224 ).
(5) صحيح ابن ماجة ( 2194 ) ، الإرواء ( 1294 ) ، انظر حديث رقم : 6929 في صحيح الجامع .
(6) فقه السنة ، سيد سابق، ج 3، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ط 3 ( الملامسة : لمس الثوب ، المنابذة وهي طرح الرجل ثوبه إلى الرجل بالبيع قبل أن يقلبه أو ينظر إليه . وهي بيوع كانوا يتبايعون بها في الجاهلية أن يقول أنبذ ما معي وتنبذ ما معك ليشتري أحدهما من الآخر ولا يدري كل واحد منهما كم مع الآخر ونحوا من هذا الوصف ) صحيح ابن ماجة ( 2170 ) ، صحيح الجامع( 6900 ) .
(7) من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم غشما وظلما بغير حق يكون له فيها صوب الله رأسه في النار . الصحيحة ( 614 ) ، صحيح الجامع( 6476 ) .
(8) الغذاء والتغذية في الإسلام : مجموعة من الباحثين ، منظمة الأغذية والزراعة العالمية ، المكتب الإقليمي للشرق الأدنى ، القاهرة ، الطبعة الأولى ، 1999
(9) حسنه الامام لألباني وقال في صحيح الترغيب والترهيب : رواه أحمد ورواته ثقات ، ( حسن ) انظر حديث رقم : 3283 في صحيح الجامع .
(10) رواه البخاري ( انتكس : انقلب على راسه وهو دعاء عليه بالخيبة ، شيك الرجل : إذا دخل في جسمه شوكة، فلا انتقش : فلا أخرجها من موضعها )
(11) قال الألباني في "السلسلة الصحيحة" 1 / 443 :حديث صحيح ورد مرسلا ، و روي موصولا عن أبي سعيد الخدري ، و عبد الله ابن عباس ، و عبادة بن الصامت ، و عائشة ، و أبي هريرة ، و جابر بن عبد الله ،و ثعلبة بن مالك رضي الله عنهم .
(12) جزء من حديث ( رواه الشيخان : متفق عليه ) .
(13) موسوعة الغذاء ، المجلد الأول: الغذاء : مكوناته وطرق حفظه ، إصدار الاتحاد العربي للصناعات الغذائية، المجلد الأول ، 1995
(14) تغذية الإنسان : حامد التكروري وخضر المصري، الطبعة الثانية ، 1997 ، دار حنين، عمان، الأردن.
(15) صحيح ، الإرواء ( 1983 ) ، التعليق الترغيب ( 3 / 122 ) ، الصحيحة ( 2265 )
(16) " السلسلة الصحيحة " 5 / 411 ، ( حسن ) انظر حديث رقم : 381 في صحيح الجامع .